لا تحد الموسيقى لغة ولا زمان ولا مكان للتعبير عن خواطر الشعب الذي أنتجها، فهي قبل كل شيء انعكاس لحالة هذا الأخير وتوحيد لأفراده قبل أن تكون عملًا فنّيًا يطرب الأذن. وهي كذلك قوة تطيع وتدعم توجه مؤلفها، ففيالق الجيش الذي يحتل يتغنى بالموسيقى في سيره، وكذلك الأمر بالنسبة لمن يقاوم.

جادت في القرن الماضي خصوصًا، ولا تزال عمومًا، حناجر المقاومة بأغانٍ قومية توحد صفوف المقاومين في الجبهة مع عامة الناس لغاية كبرى تدعى الحرية.

فأغنية «بيلا تشاو» التي تحكي عن وداع جندي لحبيبته نحو جبهة القتال لمحاربة الفاشية والنازية، جمعت بين الشعب المغلوب وصفوف الجنود، كما قاومت الدهر لتصبح أشهر أغنية سياسية لربما في التاريخ. فماذا عن أشهر الإصدارات العربية الغنائية في وجه الاحتلال؟ 

إليك، الحناجر في وجه الخناجر، تاريخ المقاومة العربية بالغناء في وجه الاستعمار في فلسطين، تونس، الجزائر، مصر، والمغرب.

فلسطين، قضية جميع العرب

قد تكون القضية الفلسطينية محيطًا يفرّق بين المسلمين واليهود وحتى المسيحيين. لكنها، جمعت بين كل المسلمين، وبين جميع العرب. وتجلى هذا الاتفاق في دعم القضية الفلسطينية، ليس فقط بالمال والسلاح والحياة، بل بالأغاني التي لم تقتل المحتّل، لكنها قتلت رهبته في صفوف المقاومين.

 قد يكون لإسرائيل ما ليس لفلسطين من عتاد، لكن لهذه الأخيرة تاريخ من الأغاني التي قاومت الطغيان من قبل نكبة 1948، كأغنية «من سجن عكا»، المكتوبة من طرف الشاعر الفلسطيني «نوح إبراهيم». التي تحكي عن استشهاد 3 مساجين من ثورة عام 1936 في سجن عكا لا لشيء، فقط لوقوفهم في وجه مغتصب أرضهم. 

كما هناك أغان أخرى أتت من بعد الاحتلال الكامل سنة 1967، أشهر من كتبها مصطفى الكرد، ابن القدس الذي قاوم فلسطين بالقلم والعود والكلمات.

ارتبط اسم مصطفى الكرد بفن المقاومة في سبعينيات القرن الماضي الذي سمي الفن الملتزم، مستوحيًا إيقاعاته من موسيقى الأرغن الأوروبية، الأغاني البيزنطية، الألحان الصوفية، ومن بلدة القدس القديمة.

كما جاور الشاعر «أحمد دحبور» شهرة مصطفى الكرد في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي بقصائد تغنت بها المقاومة من قبيل «والله لازرعك بالدار»، و«صبرا وشاتيلا».

صبرًا أمام الاحتلال، فرقة صابرين

سطع سيط فرقة صابرين في ثمانينيات القرن الماضي، بغناء أغاني المقاومة الفلسطينية التقليدية بصورة عصرية تمزج بين الروك أند رول وألحان الشرق الأوسط الشهيرة.

اشتهرت الفرقة بمغنيتها الرئيسة «كاميليا جبران» وهي تحتضن عودها لتغني ضد الاحتلال، كما أن نجاح الفرقة لم يكن ليكون من دون كلمات الشاعر حسين البرغوثي وألحان سعيد مراد.

استمرت الفرقة بالصبر أمام احتلال إسرائيل والمقاومة بالغناء ضده إلى حدود سنة 2002، حيث انفصلت عنها المغنية كاميليا جبران.

للفرقة عدة أغان شهيرة، أهمها «عن إنسان»، «30 نجمة»، و«وعدتني» التي أتت في العشرين من مايو 2018، أيام قليلة بعد الذكرى السبعين للنكبة. التي رسمت عودة الفرقة للساحة الفنية، لكن بغياب كاميليا.

تحكي الأغنية عن إنسان القدس، الذي رغم المحاولات الخارجية والداخلية للتغيير، إلا أنه لا يحس بأن أي شيء قد تغير، فالحزن والغضب والألم وقهر الزمن لا تزال تعصف بحياته.

فالأغنية عكس نظيراتها اللاتي يدعون للثورة والانتفاضة أمام الاحتلال اليهودي، تحمل حياة القدسي كما هي وتنقلها بالصوت والصورة لتحطم ما يتخيله غير من يعيش في القدس عنها.

فرغم الألم الذي يعيشه أهلها، فإنهم ليسوا سوى بشر يحاولون العيش، والعيش بسعادة. فكما يقول المغني في الدقيقة الثالثة من الأغنية «هاي الأغنية من القدس وأهلها، للي بوعد وبخلف، واللي يحمل بطيختين بإيد وحدة، القدس مش بس حجر، كمان بشر». فقبل كل شيء آخر، الفلسطينيون أيضًا بشر.

 فيروز: زهرة المدائن

لفيروز حنجرة ذهبية أطربت الجميع سواسية، لكنها لدى العرب طعم خاص يمسح الحزن عن قلوبهم ويعانق أرواحهم بأغان عن القدس وعن أوجاعهم.

ألفت قصيدة زهرة المدائن من طرف الأخوين، «عاصي ومنصور الرحباني» عن مدينة القدس سنة 1957. وغنتها فيروز بعد خسارة العرب لحرب 1967، خسارة مريرة أودت بحياة ما بين 15 و25 ألف عربي. ويعد هذا السياق التاريخي، أحد الأسباب الرئيسية لشهرة زهرة المدائن.

تحكي القصيدة أمل الإنسان العربي في استرجاع حقه في العيش في القدس، في فلسطين، وفي حبٍ، بعيدًا عن حزن الماضي، خيباته، وانتكاساته.

ولفيروز عديد من الأغاني التي ساندت القدس مثل القدس العتيقة، سيفٌ فليشهر، غاب نهارٌ آخر، يافا، بيسان، سنرجع يومًا، شوارع القدس. لكن زهرة المدائن أشهرها وأقدمها، وأكثرها قربًا لقلب المواطن العربي.

 جيشك ومعاليه، مش حيقدر لي

قد تكون أغاني القرن الماضي، وبداية الألفية تجسيدًا بالكلمات عن الظلم الذي يتعرض له ليس المسلمين فقط، بل كل من ليس يهوديًا داخل فلسطين. لكن مشروع ليلى، بأغنيتهم «معاليك» أخدت هذا التجسيد المجرد نحو مستوى آخر مرئي وعالمي.

في أغنية معاليك لمشروع ليلى، للفرقة اللبنانية، حكاية الواقعة الشهيرة حيث وقفت «عهد التميمي» في سنة 2012 ذات الـ11 سنة ضد جنود الاحتلال في مسيرة سلمية ضد الاستيطان اليهودي، وما طلها، هي وعائلتها، من تعنيف وقمع من قبل الجنود.

جسّد ظلم الجنود وعنفهم ضد الأخضر واليابس، الصغير والكبير، النساء والرجال، في قالب فني أخذ بألم عهد وأسرتها وجعله طريقًا لمعرفة ما تعيشه الأسر المسلمة داخل الأراضي المحتلة من طرف العالم.

والأمر المهم في أغنية مشروع ليلى، هو محافظتها على الدفاع عن القضية الفلسطينية لكن بقالب شبابي، يجعل الشاب المعاصر الذي لم يذق طعم طغيان إسرائيل، ولم ير انتفاضات ومظاهرات العرب ضده في العقدين الماضيين، يشعر بقليل منه.

«لفلسطين طريق واحد… يمر من فوهة بندقية»

لأغنية أصبح عندي الآن بندقية، تأثير كبير على المقاومة الفلسطينية في أواخر ستينيات القرن الماضي كأغنية حماسية تضخ الدم في نفوس من به ذرة مقاومة للاحتلال الصهيوني.  أدى هذا إلى تطوع العديد لحمل البندقية ضد إسرائيل.

للقصيدة اسمان، الأول مشهور بين العموم وهو «أصبح الآن عندي بندقية»، أما الثاني المعروف بين قلة قليلة هو «طريق واحد» المشتق من آخر بيت بالقصيدة. التي كتبها الشاعر السوري «نزار قباني»، ولحنها المصري «محمد عبدالوهاب»، وغنتها كوكب الشرق «أم كلثوم». ووقع كل هذا في سنة 1968.

جاءت الأغنية إثر معركة مخيم الكرامة، حيث هاجمت قوات الجيش الإسرائيلي، قواعد الفدائيين الذين كبدوا إسرائيل خسائر كبيرة في غاراتهم على الأراضي المحتلة منذ سنة 1967، ظنًا منهم أن المفاجأة والبغتة كفيلة بالقضاء عليهم.

لكن، تفاجأت القوات الإسرائيلية بدورها بمقاومة الفدائيين للهجوم، وبحرب عصابات شرسة، وبالنصر. الذي كان دلالة على قدرة العرب على مقاومة إسرائيل بعد حرب الستة أيام التي خسرها العرب خسارة هزت ثقتهم في المقاومة وفي أنفسهم.

اليوم، بعد أزيد من 50 سنة عن إصدار هذه الأغنية، لا يزال العديد يبحثون عن أرض وهوية وبيت ووطن اغتصبته إسرائيل. ولا يزال لربما لفلسطين، طريق واحد، يمر من فوهة بندقية.

تونس حيث أراد الشعب الحياة

نقشت كلمات أعظم شعراء تونس «أبو قاسم الشابي» على الحجر في نفوس المقاومة التونسية في وجه الاستعمار الفرنسي. فلم يعش من لم يعش سيدًا، ولا سبيل نحو السيادة سوى الاستقلال من كل احتلال أو حماية.

وحين أراد الشعب التونسي الحياة، ثاروا في وجه استعمار فرنسي دام من 1881 إلى 1956، بالسلاح كما بالكلمات.

لعبت قصيدة إرادة الحياة لأعظم شعراء تونس، والوطن العربي، «أبو القاسم الشابي» دورًا مهمًا في توحيد الشعب، وإشعال نار الانتفاضة والمقاومة داخله نحو الحرية والسيادة، كشعب ووطن سنة 1938.

كما تغنى بها كذلك التونسي في الربيع العربي في سيره نحو إسقاط «زين الدين العابدين» سنة 2010. وبجانب قصيدة إرادة الحياة، قصائد وأغان أخرى، أشهرها في تونس ملحمة الدغباجي.

 ملحمة الدغباجي

تخلد أغنية الدغباجي، بطولات وملاحم المقاوم التونسي «محمد صالح الزغباني الخريجي»، المكنى «الدغباجي».

ولد محمد صالح في مدينة الحامة بالجنوب التونسي سنة 1855، وأعدم بنفس المدينة سنة 1924. قاوم الدغباجي الاستعمار الفرنسي في تونس، والإيطالي في ليبيا.

قام بعديد من العمليات الناجحة ضد الاستعماريين، وطورد كثيرًا قبل أن تلقي السلطات الإيطالية القبض عليه في ليبيا سنة 1922.

اعتبر الدغباجي فخرًا تونسيًا، فخلدت ذكراه في ملحمة شعبية تحمل اسمه، وغناها «إسماعيل الحطاب» كمقاومة صوتية أمام صدى بنادق الفيلق الفرنسي بين بساتين زيتون تونس.

 الجزائر: الراي ضد البارود والكرابيلا

 لم يحسن الداي حسين الفعل حين قام بصفع سفير فرنسا بالجزائر بمروحة يده، بعد أن أبى هذا الأخير الجواب عن مآل ديون فرنسا للجزائر سنة 1827.

حيث اعتبرت دولة الأنوار هذا الفعل إهانة لها وقامت بفرض حصار دام ثلاث سنوات قبل أن تستعمل البارود والبنادق في احتلال التراب الجزائري عام 1830.

احتلال استمر من سنة 1830 إلى 1962، أتى على الأخضر واليابس، وأودى بحياة مليون شهيد قاوموا بالسلاح وملايين آخرين قاوموا أمام طمس الهوية الجزائرية بالقصائد والكتب والاغاني التي لا تزال تحكي معاناتهم.

 صحاب البارود والكرابيلا

صحاب البارود والكرابيلا
رافدين البارود وشاعلين الفتيلة
عولوا بأعمارهم غير ربي معاهم
لا أبطال سواهم ولايموا القوم
حزامهم تحليلة راكبين الطويلة
عولوا عالقتيلة في نهار مشؤوم
السيوف تشعل والبارود الأكحل
ما بقى من يحتل الأرض والقوم

في 1930 وفي الذكرى المئوية لاحتلال التراب الجزائري. قامت فرنسا بتنظيم حفل بهيج هيئة له لمدة 7 سنوات، وصرفت عليه 130 مليون فرنك فرنسي. ليكون الخط الفاصل بين الجزائر الإسلامية، والجزائر المسيحية الفرنسية.

دامت هذه الاحتفالات 6 أشهر وحضر لها الرئيس الفرنسي آنذاك. وظن القادة أن بهذه الاحتفالات وبعد 100 سنة من المقاومة، أن شعلة المقاومة في نفوس الجزائريين قد أطفئت مرة وللأبد. وأن صفعت الداي حسن للسفير قد ردت كاملة ونيف.

 لكن في الظل تحبك قصائد أشهرها، قصيدة «هواري بلحواني»، الذي ولد في حي الحمري بمدينة وهران سنة 1902، والذي كتب قصيدة صحاب البارود والكرابيلا، لتكون الوقود الذي يشعل نار المقاومة مجددًا، ويطفئ خطط فرنسا لجعل الجزائر مسيحية.

لم تكن كلمات صحاب البارود والكرابيلا لتقتل المستعمر جسديًا، لكنها قتلت رهبته في نفوس الرجال والنساء، الذين حملوا أو أرادوا حمل السلاح. لكن فرنسا لم ترضخ لهذه المقاومة الثقافية، بل جابهتها بمثيلتها، تجلت في تحريف وتغيير لكلمات المقاومة والقصائد عامة، فلم يتبق من قصيدة صحاب البارود والكرابيلا سوى مطلعها اليوم.

أما صيغتها الحالية التي اشتهرت عالميًا لا تمت بصلة إلى القصيدة الأصلية لا من قريب ولا من بعيد. فهي اشتهرت مع مغني الراي الشاب خالد، كأغنية يرقص على أنغامها الكبير قبل الصغير.

وكما هو حال جل من قاوم بالثقافة، ضاعت معظم إصدارات المقاومة الجزائرية أو حرفت. وما بقي منها كما الحال مع «صحاب البارود والكرابيلا»، يتغنى به خارج سياقه.

مناداة للحرية في المغرب

عرف المغرب لموقعه الجغرافي الاستراتيجي تهافت القوى الاستعمارية عليه في القرن 19 والقرن 20. فكان لكل من ألمانيا، إسبانيا، البرتغال، وفرنسا، وكذلك بريطانيا حصتهم من أرض المغرب التي زخرت ولا تزال بخيرات طبيعية وبشرية.

لكن، كسائر كل الشعوب التي تريد تقرير مصيرها، قاوم المغرب الاستعمار بالرصاص وبالثقافة. فإن كانت حرب العصابات في الريف المغربي التي شنها «عبد الكريم الخطابي» ضد الاستعمار الإسباني ثورة في المقاومة المسلحة، فإن فن العيطة بأعلامه المعروفة والأخرى المنسية ثورة في محاربة المحتل بالكلمات والألحان في المملكة المغربية.

 العيطة

 يعتبر فن «العيطة» فنًا منسيًا، سواء داخل المملكة المغربية أو خارجها، وعادة ما يكنى بألقاب عدة، أعلاها مكانة هو كونه فن سوقي يعبر عن دواخل وأحاسيس الطبقات الفقيرة والمهمشة من المجتمع للمتعة والفرجة عامة. لكن لهذا الفن تاريخ عريق في مقاومة المستعمر الفرنسي في القرن الماضي.

ينقسم فن العيطة حسب المناطق الجغرافية بالمغرب وعرف تطورًا بتطور السنين و انفتاح المملكة على الخارج. حيث استعمل الآلات الإيقاعية أولًا ثم تبنى الآلات الوترية لاحقًا. أما اليوم فهو موروث مغربي قليل ما يتمعن المرء في كلماته.

وتعني كلمة العيطة، النداء، ويقول مؤسس أول مدرسة مغربية لتعليم هذا الفن، الفنان الشيخ جمال الزرهوني، تعني العيطة مناداة المجدوب أسلافه من أجل إغاثته. لكنه نداء كذلك لمحاربة أفراد وظواهر شاذة داخل المجتمع المغربي.

 امباركة البهيشية، شجاعة أنتجت قصيدة للشجعان

اسمها «امباركة بنت حمو البهيشية»، عاشت في بني ملال وسط المغرب، ولا وجود لتاريخ ميلادها ووفاتها. لكنها عاشت ما قبل فترة الحماية بالمغرب، وأثناءها.

عرفت امباركة البهيشية بلقب «النيرية»، وهو نوع من الخشب يستعمل في آلات النسج اليدوي، وذلك لصلابتها ودورها المحوري في تسخير جهود المقاومة في الأطلس المتوسط المغربي، والسهول الغربية للتصدي للمستعمر.

يقول «أحمد شعيلة الملالي»، عن الرواية الشفهية لقبائل بني ملال أن امباركة كانت تمتطي حصانها وبيدها وعاء مليء بماء الحناء، تقوم برشه على من تأخر من المقاومين عن الصف الأول أو خرج عن موقعه.

فكان المقاوم يفضل الموت في أرض المعركة بشرفه على أن يعود لقبيلته بعلامات الحناء التي تبين جبنه أمام الاستعمار.

ولم تكن امباركة تقاوم بالحناء فقط، بل بالأنغام والقصائد أيضًا. فهي مؤلفة قمة قصائد العيطة، قصيدة «الشجعان»، التي أيقظت الشعور السياسي عند عامة الناس الرافض للخضوع والانحناء لمطالب فرنسا.

ورغم تضارب الأقوال عن مغني قصيدة الشجعان، بين امباركة البهيشية و«فاطمة كوباس»، فإن فن العيطة فن مقاومة المستعمر في المغرب.

 أخذت من الخيرات، لكنها لم تأخذ حرية مصر

شهدت مصر أم الدنيا 74 عامًا من المعاناة لطرد الاحتلال البريطاني الذي أخذ من خيراتها، وتراثها ليعرضه في متاحف بريطانيا بذريعة أنه من حقه.

والحق لا يعطى، بل يأخذ. وأخذت مصر حقها ليس بالسياسة والسلاح فقط، بل بقصائد وأغان قاومت رهبة المستعمر البريطاني في نفس المصري البسيط، لتخلق وحدة قوية وروحًا كونية لطلب الحق الأصلي لكل بلد، وهو الاستقلال. فمن أعلام هذه الحركة الغنائية في مصر في القرن الماضي؟

 سيد درويش

داعب سيد درويش مشاعر المصريين البسطاء من العامة والأقلية في السلطة على حد سواء لشحن شرارة الثورة في وجه القوات البريطانية في ثورة 1919 بأغان وطنية سياسية من قبيل «بلادي بلادي لكي حبي وفؤادي»، و«قوم يا مصري مصر دايما بتناديك».

ولد «سيد درويش» في الإسكندرية في 17 مارس 1892. تابع دراسته لمدة عامين في جامع الأزهر بعد أن درس القرآن قبلًا.

ترك درويش دراسته ليتبع شغفه الموسيقي، فالتحق بمدرسة للموسيقى ثم بتشجيع من أحد أساتذته تخصص في الاطراب الديني. سمعه الأخوان عطالله فضماه لفرقتهما في 1910 ليسافر نحو لبنان، قبل أن يعود للإسكندرية ليؤلف أغاني شهيرة. كما اشتغل سيد في مجال البناء ليمول دراسته وفنه، فالغناء أوله شقاء لدى أغلب الفنانين.

كان عام 1919 عام درويش الفني بامتياز فقد قدم للساحة 75 لحنًا، وتقدم الجموع مغنيًا أناشيده، وقصائده لتكون الثورة فيه وفي ألحانه.

كما قدم سيد درويش مع الكاتب بديع خيري مسرحية بها العديد من الأغاني الوطنية منها «بنت مصر» التي تنعي أولى شهيدتي الثورة «حميدة خليل» و«شفيقة محمد».ولقبه الأديب عباس العقاد بإمام الملحين كما أخذ ألقاب أخرى مثل فنان الشعب.

توفي سيد درويش صغيرًا عن عمر 31 سنة فقط في 10 سبتمبر 1923، بعد أن كان أصبح بفضل موهبته ملحنًا لجل الفرق المسرحية في القاهرة ومصر، وبعد أن طور الموسيقى المصرية.

يا سعد من غيرك زعيم

أتت أغنية يا سعد من غيرك زعيم بعد اعتقال الزعيم الوطني «سعد زغلول» مع ثلاثة من زملائه «محمود باشا»، و«إسماعيل صدقي باشا»، و«حمد الباسل باشا»، من طرف الاحتلال البريطاني، ونفيهم إلى مالطة يوم 8 مارس 1919.

لتندلع الثورة في اليوم الموالي بتظاهر طلبة الجامعات في كل من القاهرة والإسكندرية والمدن الإقليمية، فلم يكن أمام البريطانيين إلا أن يطلقوا النار على المتظاهرين سقط على إثرها عديد من القتلى والجرحى، لكن الثورة لم تسقط.

وتغنت الجماهير بعديد من الأغاني التي تمجد في شجاعة وقيادة ونفس قائد الثورة «سعد زغلول»، من قبيل «يا سعد من غيرك زعيم» التي غناها «عبد اللطيف البنا»، ولحنها «زكريا أحمد».

كما تغنت المقاومة بأغان أخرى كأغنية «زغلول يا بلح- يا بلح زغلول»، وأغنية «منيرة المهدية» «شال الحمام حط الحمام- من مصر لما للسودان- زغلول وقلبي مال إليه- أنده له لما أحتاج إليه».

استمرت الثورة حتى أغسطس، وتجددت في أكتوبر ونوفمبر. لكن الأحداث السياسة استمرت، ولم تظهر نتائجها لصورة واضحة حتى سنة 1923، بإصدار الدستور وتجميع البرلمان.