في الآونة الحالية تدور النقاشات الموسّعة بين غالبية الآباء حول مستقبل أطفالهم وما ينعكس عليهم من قرار وزير التربية والتعليم المصري بتعريب المناهج والعلوم وتدريسها بعيدًا عن الإنجليزية. تنوعت الآراء بين مؤيد ومعارض، هل يقتل الوزير مستقبل أطفالنا؟ هل يؤدي ذلك لإنتاج جيل كامل من الأبناء لا يفقهون شيئًا في الإنجليزية ويتحدثون العلم بلغة غير علمية أكل عليها الزمن وشرب؟ أم هكذا تفعل الدول المتقدمة وتدرس العلوم باللغة الأم للحفاظ على هوية الطلاب وهكذا تنهض الدول؟ أم الأمر لا علاقة له بالهوية بل بأن تدريس المناهج باللغة الأم يجعلها أيسر لفهم الطلاب وأكثر استيعابًا؟

بين هذا وذاك لم يهتم كثيرون بالرأي العلمي وآراء الأبحاث والدراسات حول تدريس المناهج باللغة الأم للطفل، وكذلك الخلفية النفسية المتسببة في كل هذا التخبط.


للاحتلال هيئات متعددة

في المجتمعات التي تتعرض للانتكاسات، أو تعاني ويلات الحروب أو لا تكتمل ثوراتها من المتوقع أن تحدث لها هزيمة نفسية تؤدي إلى نتائج وخيمة، ينشأ عنها سلوكيات النفسية المهزومة التي تعبر عن نفسها في مظاهر شتى، مثل ارتداء ملابس مشابهة للمنتصر، وتبني لكنته، ولغته، وأسلوب حياته، ويبقى أي شيء آخر منافيًا لهذا المنتصر الغالب مثالًا للجهل والتخلف والرجعية.. مثلًا في حالتنا العربية، بعد هزيمة الثورات، ومن قبلها التبعية للغرب التي استمرت سنوات طوال، نشأت نفسية مهزومة تتمسك بشدة بالإنجليزية، تحدثًا وكتابة وممارسة لسلوك أهلها الأصليين، فتحول لساننا العربي ليستعير كلمات ليست من صلبه، واستكان أصحاب هذه الممارسات لتلك العقلية وافتخروا بها، وتحول أصحاب الرأي المخالف ليصبحوا رجعيين لا يفقهون شيئًا من مظاهر الحداثة والتمدن، عوضًا عن إدخال الكثير من المصطلحات الإنجليزية في قلب الجملة العربية، وإلحاق أبنائهم بمدارس اللغات المنمقة التي تتجاهل العربية ولا تضع لها سوى حسابات طفيفة في تعلُّم الطفل، وهذا ليس تقليلًا من شأنهم، بل لأن هناك فكرة تمحورت وشكلت خلية صلبة في عقلهم الواعي واللا واعي، هذه الفكرة تمحو كل ما هو عربي، وتعلي من شأن كل ما هو أجنبي.


تعريب العلوم بين الصواب العلمي والخطأ

في الفترة القصيرة الماضية برز قرار مصري رسمي بإلغاء تدريس المواد العلمية باللغة الإنجليزية وتعريب مناهجها، ليست هذه هي الإشكالة، بل ظهور الرافضين لفكرة إلغاء تعلم العلوم باللغة الإنجليزية، منددين بالقرار ومتهمين الدولة بالخيانة، وبتضييع مستقبل فلذات أكبادهم، داعمين وجهة نظرهم بأن اللغة الإنجليزية هي لغة المستقبل، ولغة العلم، ولغة الدراسة في الكليات، ولغة سوق العمل.. لهم كامل الاحترام، بل من المنطقي والمهم أن يكون تعلم لغة أجنبية ضرورة ملحة لزيادة فرص العلم والاطلاع على مصادر متعددة للمعرفة والثقافة، وهذا يطرح السؤال المهم: هل دراسة الطفل العلوم باللغة الثانية هي ما ستؤهله لذلك؟

كان هذا قديمًا سجالًا علميًا مفتوحًا بين العديد من العلماء والباحثين: «هل الأفضل لأبنائنا بدء تعلم العلوم باللغة الأم أم بلغة أجنبية يراد احتراف الطفل بها وزيادة إتقانه لهذه اللغة الثانية؟» لكن منذ فترة حسمت الأبحاث الجدال.

في بحث شامل نشرته منظمة اليونيسكو عام 2007 لدراسة تأثير تعلم العلوم والرياضيات بلغة غير اللغة الأم في العديد من الدول، خلصت لمؤشرات إيجابية لصالح الطلبة الذين يدرسون العلوم والرياضيات بلغتهم الأم، وأثبت ذلك العديد من الأبحاث الأخرى والآراء المختصة، فتعلم اللغات المختلفة (الإنجليزية وغيرها)، يكون فعالًا جدًا إذا ما تعلمه الطلاب كلغة منفصلة قائمة بذاتها، لا كوسيلة لتعلم العلوم المختلفة الأخرى، وهذه نقطة فارقة مهمة يجب الانتباه لها، الفارق بين تعلم العلوم بلغة أجنبية، وبين تعلم اللغة الأجنبية نفسها.


كيف يتعلم الطفل اللغة الثانية وما أنسب توقيت لذلك؟

من أكثر الطرق فاعلية في تعلم اللغات التعليم بـ «الغمر»، وفيها يتعلم الطفل لغة ثانية بالضبط كما يتعلم أبناء الأجانب لغتهم الأم، عن طريق أصوات اللغة المنضبطة والحديث بها من حوله، فالتعليم بالغمر لا يهدف إلى تعليم الطفل قواعد اللغة مثلًا ولا تفاصيلها الدقيقة، بل يحيطه باللغة كوسيلة للتعامل الطبيعي والاتصال بينه وبين الأفراد من حوله، عن طريق توفير شخص يحادثه بهذه اللغة فقط، ولا يسمح لذلك الشخص باستخدام أي لغة أخرى، شريطة أن يكون متحدثًا طليقًا بها.

كل هذا بعيد كل البعد عن دراسة الطفل العلوم كالفيزياء والرياضيات باللغة الثانية، بل إن الأبحاث تشير بوضوح إلى أن تعلم العلوم الطبيعية والمواد المنطقية، كالرياضيات والفيزياء والفلسفة والمنطق وغيرها، بلغة غير اللغة الأم، يُصعِّب على العقل استيعاب مفاهيمها، لما تحويه من مفاهيم منطقية ومفاهيم مجردة، تحتاج للرجوع إلى اللغة الأم للدارس -اللغة التي بُرمج عليها عقل الطفل أولًا- ليفهم بها ومن خلالها (العلاقات والمنطقيات) بين أجزاء تلك العلوم وبعضها، مثلًا كيف سيكون صعبًا على الصبية تدريس مفاهيم «الوقت» أو «الكم» أو «الزمكان» بلغة أجنبية غير لغة عقله الأولى، لكن في نفس الوقت سيكون قريبًا وقادرًا على الاستيعاب حين يفهمها بلغته الأم.

تقول «أنجلينا كيوكو Angelina Kioko»، بروفسور اللغة الإنجليزية واللغويات في جامعة الولايات المتحدة الدولية بكينيا:

فاللغة الأجنبية تظل في كل الأحوال لغة قاصرة على العقل، محدودة، لا تمتلك مؤشرات عليا في الدماغ، ولهذا فالسبيل الأمثل في التعليم هو فصل تعلم اللغة الأجنبية المراد تعلمها، وغمر الطالب فيها وقت دراستها، ومن ثم فصل كل ذلك عن تعليمه المواد الدراسية الطبيعية المختلفة. ليضطلع بالاثنتين بمهارة وإجادة، فالثراء اللغوي والإدراك باللغة الأم وتأسيس المفاهيم الأولى المجردة المبنية بالأساس على اللغة الأم يذلل العلاقات والمفاهيم الصعبة والمجردة في العلوم، ويدفع بالمنطق ويؤسس لطرق تفكير صحيحة في عقل الطفل، مما يسبب فهمًا حقيقيًا للمواد ومعاني أجزائها المختلفة.

وعلى صعيد اللغة الثانية يصبح من السهل فيما بعد نقل هذه المهارات والمفاهيم وطرق التفكير المؤَسسة بشكل سليم إلى اللغة الأجنبية، اللغة الأجنبية التي لم تهمل، بل هي مؤسسة على التوازي في دراسة منفصلة لها، فيتحقق للطفل الشقين، فهم أفضل وحقيقي للعلوم وتنمية لفكره، وإدراك للغة الثانية واضطلاع بها.

وبهذا المنوال عُرِفتْ المدارس الدولية في دول عديدة، فبدأت في تطوير برامجها ومناهجها التعليمية ليتخللها حصص باللغة الأم، لتخلق توازنًا في بيئة الطفل التعليمية.


خبرات الدول: فنار يدل على الطريق أم لكل دولة ظروفها الخاصة؟

تشير نتائج الأبحاث باستمرار إلى أن المتعلمين يستفيدون من استخدام لغتهم الأصلية في التعليم في سنوات الدراسة الأولى،ومع ذلك لا يزال العديد من البلدان النامية يستخدم لغات أخرى للتدريس في مدارسهم.

قد يبدو من الرؤية السابقة ومن آراء الأبحاث أن القرار صائب، نعم.. لكنه قرار قاصر سابق لآوانه، يحتاج إلى العديد من التعديلات ووضعه في سياق وزمان آخرين، فمثلًا تجربة السنغال التي تعد خير دليل على التخبط بين ما هو متاح وما هو مأمول، ففي مالي والسنغال ومعظم الدول الأفريقية التي كانت مستعمرات فرنسية لأكثر من مائة عام، حيث يتم استخدام اللغة الفرنسية في المجال العام، مثل الشئون الحكومية والتجارة والتعليم ووسائل الإعلام، كانت المناهج الدراسية زاخرة بمواد خاصة بفرنسا وشئونها وكيفية دعم العلاقات وسبل التبادل التجاري معها، ففي امتحـان نهايـة المرحلـة الابتدائيـة مثلًا كان لا بد من سؤالين أو أكثر يتعلقان بفرنسا.. هذه أزهى صور تمكن المستعمر من التغلغل في عُقر دار الدولة المحتلة.

وضعت السنغال ما يسمى بـ «الخطة العشرية للتربية والتكوين»، وبنت محاور خمسة، من بينها: هيكلة المؤسسات التعليميـة بتطوير شـامل للخريطـة المدرسية، والعمل على مطابقة التعليم مع احتياجات الدولة، وفي عام 1947م دعا «لوبول سنغور – Léopold Sédar Senghor»، النائب في البرلمان، إلى ضرورة إدراج اللغـة العربيـة في منـاهج التعلـيم الإعـدادي والثـانوي العـام في المدارس باعتبارها لغة ثقافة وأدب وحضارة، ولأن هذا الإجراء يعد وسيلة لتوطيد العلاقات بين السنغال والدول العربية، لاسيما دول شمال أفريقيا الناطقة بالعربية، ولأن الهدف من وراء الإجراء كسب العلاقات الودية مع العالم العربي، ولأن هذه الخطة غير منطقية أو صحيحة، إذ كيف يبـدأ الطالـب دراسـة اللغـة العربيـة مـن المرحلة الإعدادية ثم الثانوية دون أن يمر بها في المرحلة الابتدائية؟ ونتيجة لهذا العبث لم نجد من يتقن اللغة العربية في السنغال.

كانت الخطة محكمة أكثر من قبل حكومة دولة مالي، فقد تم وضع برنامج لتحويل الدراسة الرسمية باللغات القومية في المرحلة الابتدائية، وربط طرق تدريس اللغتين الأولى والثانية بالتعلم النشط، لجعل اللغة الثانية لغة تطوير للجوانب الأخرى غير الدراسة، ليصبح الطلاب ثنائيي اللغة في نهاية المطاف.

ويمكننا من خلال الخبرة السابقة لدولتي السنغال ومالي أن نضع رؤية شاملة للوضع من خلال إرساء خطة زمنية محكمة، وبرنامج خاص لتطوير اللغة الثانية، بجانب دراسة العلوم باللغة الأم، مما يطور من قدرات الطالب ويؤهله لسوق العمل بكل سهولة ويسر، فليس في ذلك تهميش لغة ما لصالح الأخرى.. يأتي هذا ضمن حفنة من قرارات الوزارة، من بينها العمل على تحسين البنية التحتية للتعليم بمؤسساته، وتعريب مناهج دولية ذات شأن، وتدريب المعلمين ليصبحوا أكثر كفاءة والتحسين من وضعهم المادي.


لنعلم في النهاية أن تعلم اللغة الثانية يجب ألا يتعارض مع هويتنا وتفضيلنا للغتنا العربية، ولنضع في أذهاننا الخلاص من الهزيمة النفسية التي رسخها المستعمر بعد أن أصبحت لغته الأجنبية رمزًا للقوة والنجاح والسعادة والعيش الرغد، وربما العلم كذلك، رغم أن اللغة العربية هي إحدى لغات العلم دون شك، فالكثير من المفاهيم الأجنبية هي في مصدرها عربية، لكننا نسينا ذلك وسط الهزيمة.

إذن فلنتعلم لغتهم كلغة منفردة بأساليب شتى ومتعددة، لكن دون إقحامها في منطق تفكير أطفالنا وتشتيتهم بدراستهم علومًا منطقية (كالفيزياء والرياضة) بهذه اللغة.

فالعِلمُ لا يُحابي أحدًا.. قرار «التعريب» من وجهة نظر علمية صائبٌ، وهكذا علينا تعليم العلوم لأبنائنا، باللغة العربية لغتهم الأم، لكن القرار نفسه يحتاج لرؤية أوضح وظروف استعدادٍ أخرى وهيكلة لأسلوب التعليم.