تستيقظ الكرة الأرضية على موتٍ جديد وفريد، يجمع هول المأساة، وعبثية الألعاب الإلكترونية. على الهواء مباشرة، وعبر كاميرا مثبتة إلى رأسه، يقوم إرهابيٌّ يمينيٌّ متطرف، معادٍ للإسلام وللمهاجرين كما عرَّف نفسه، بتصوير مجزرة ارتكبها بسلاحه الآلي، أزهق فيها قرابة 50 روحًا، للمصلين في صلاة الجمعة في مسجديْن، في إحدى المدن الهادئة، بدولة نيوزيلندا، التي كانت دائمًا معزولة عن كل البقاع الساخنة، بموقعها القصي في الركن الجنوبي من العالم، وبالأجواء المسالمة التي تغلب عليها.

سعادة استثنائية تبدو على وجه الإرهابي، في المقاطع التي التقطها لنفسه قبل بدء الجريمة، وكأنه مقبل على نزهة لطيفة، وليس مجزرة مروعة . منشوراتٌ عديدة له على مواقع التواصل الاجتماعي تؤكد إيمانه التام بما فعل، ورموز تاريخية مختارة بعناية، سجَّلها على البندقية التي ارتكب بها الجريمة، أغلبها يعود إلى الحروب الإسلامية المسيحية في العصور الوسطى، تشي بالأبعاد الثقافية والفكرية للجريمة.

هل يمكن لبشرٍ طبيعيٍّ سويٍّ من منظور الصحة النفسية أن يرتكب مثل تلك المجزرة، دون أن يطرف له جفن؟


المرض النفسي الذي نجرُّه دائمًا إلى قفص الاتهام

دائمًا ما يتفجرّ ذلك السؤال القديم الجديد، مع كل جريمة إرهابية مروعة تهزُّ الإنسانية، خاصة عندما تسارع وسائل الإعلام بوصم مرتكب الجريمة بأنه مختل نفسيًا .. الخ، خصوصًا وهناك نمطٌ إعلامي شائع يتمثَّل في التركيز على الجرائم التي يرتكبها المرضى النفسيون،مما أسهم في ترسيخ صورة المريض النفسي في الذهن العام، كمصدر محتمل للخطر والجريمة. أظهرت بعض قياسات الرأي العام أن غالبية الأمريكيين يعتقدون أن المرضى النفسيين أكثر

بالفعل تواترت الدراسات والأدلة على وجود علاقة قوية بين المرض النفسي والجريمة، إذ نسبة معتبرة من المجرمين، يحملون درجاتٍ متفاوتة من المرض النفسي، وهناك عوامل خطر عديدة مشتركة، تزيد فرص حدوث كل من الجريمة والمرض النفسي، وأهمها إدمان المخدرات والكحوليات، والذي يزيد فرص ارتكاب المرضى النفسيين للجرائم 4 أضعاف، كما أظهرت دراسة نشرت عام 2012م.

كذلك أظهرت بعض التقارير أن دعاة تنظيم داعش الإرهابي، يركزون على استهداف بعض الأشخاص المصابين بأمراضٍ نفسية أو اضطراباتٍ في الشخصية، تجعلهم أقرب للعنف، لكي يقوموا بهجمات الذئاب المنفردة في أوروبا وغيرها، خاصة أثناء لقائهم بمثل هؤلاء ف ي السجون. حيث يسهل إقناع هؤلاء بالأيديولوجيا المتطرفة، وتجييش مشاعرهم للحد الأقصى الذي يسهل ارتكابهم للجرائم.

لكن رغم كل ما سبق، لا يمكن القطع بوجود علاقة سببية بين المرض النفسي وجرائم العنف، إذ قد يكون هناك جذور بيئية، ووراثية وسلوكية .. الخ مشتركة، وراء كليهما، تسبب هذا التزامن بينهما لدى الكثيرين.

في دراسة أجريت على 60 إرهابيًا كولومبيًا مسجونين بتهم تتعلق الجماعي، والاغتصاب، والاتجار بالمخدرات .. الخ، تبيّن أن غالبيتهم لا يعانون من أمراضٍ نفسية، بل تكمن المشكلة في اعتقادهم الزائد في أن الغاية تبرر الوسيلة، مع تحييد أي عواطف وكوابح أخلاقية، طالما هناك مكاسب مادية من وراء العمل. دراسة موسعة عام 2011م، أظهرت أن معظم من يرتكبون جرائم القتل الجماعي، لا يعانون أمراضًا نفسية واضحة يمكن ربطها سببيًا بارتكاب تلك الجرائم.

كذلك أظهرت دراسات حديثة في الولايات المتحدة الأمريكيةعام 2017م، أن علاقة المرض النفسي بجرائم العنف باستخدام الأسلحة النارية غير قوية. وأظهرت دراسة عام 2004م على 60 واقعة استهداف واسع بالرصاص، أن أقل من 6% من المرتكبين كانوا يعانون أمراضًا نفسية. بالإضافة إلى ذلك، فتبعًا لدراسات أخرى، فإن المرضى النفسيين مسؤولون عن 3-5% من عموم جرائم العنف في الولايات المتحدة الأمريكية، رغم أن النسبة العامة لمن يعانون من درجاتٍ مختلفة من الأمراض النفسية هناك، حوالي 18%.

على العكس، فهناك أدلة على أن المرضى النفسيين أكثر عرضة أن يكونوا هم الضحايا. أ ظهرت دراسة ضخمة شملت حوالي مليوني مواطن دانماركي، أن احتمالية التعرض لجرائم العنف تزداد عند من تمَّ تشخيص إصابتهم بالأمراض النفسية. والغالبية العظمى من المرضى النفسيين، مواطنون صالحون، ملتزمون بالقانون، غير ميالين للعنف.


لماذا يرتكب البعض مثل تلك المذابح؟

تتشابك قائمة كبيرة من الدوافع في محاولة تفسير مثل هذا السلوك، فالنفس البشرية أعقد بكثير من أي محاولاتٍ للتنميط أو التبسيط، جانب كبير من تلك المسببات المباشرة وغير المباشرة، لا علاقة قوية له بالأمراض النفسية المعروفة.

تتواف ر أدلة علمية على أن مجرد حب الظهور، والشعور بالأهمية، قد يفسر جانبًا من ارتكاب البعض لمثل تلك الجرائم العنفية المتطرفة. هناك أيضًا الوحدة والعزلة الاجتماعية، وتأثيراتها الجسيمة على سلوك الشخص، ومدى تعاطفه الإنساني مع غيره، فهي تجعل البعض أكثر قابلية لارتكاب الجرائم البشعة. التعرض للعنف الأسري الشديد يعتبر من أهم عوامل الخطر أيضًا.

من أهم الأسباب التي تزيد فرص ارتكاب البعض للجرائم الكبرى، كالقتل الجماعي، الشعور بالإذلال، والعار، لأسبابٍ سياسية أو اجتماعية أو شخصية .. الخ حيث يحاولون من خلال العنف استعادة ثقته بأنفسهم self-esteem.

في واقعة مذبحة نيوزيلندا الأخيرة، هناك أسبابُ واقعية أخرى – كالهوس بالإسلاموفوبيا – ذات أبعادٍ أيديولوجية ثقافية، أو حتى اجتماعية واقتصادية .. الخ، قد تكون أقرب إلى الصواب من المرض النفسي في تفسير ما حدث، خصوصًا وأن القاتل قد ترك مانيفيستو متكاملًا، يشرح فيه الأبعاد الفكرية والتاريخية والثقافية .. الخ التي دفعته بشكل واعٍ لارتكاب تلك الجريمة، متعمدًا ذلك القدر من البشاعة، وذلك لإخافة المسلمين خصوصًا، والمهاجرين عمومًأ، من التفكير في الهجرة إلى تلك البلاد.

اقرأ أيضًا: مانيفيستو اليمين المتطرف .. قراءة في عقل إرهابي نيوزيلندا.

هناك أيضًا قضية اضطرابات الشخصية وعلاقتها بالجريمة.


الشخصية السيكوباتية والجريمة

يركز الكثيرون على بعض أنماط الشخصية كعامل خطر مستقل لارتكاب الجرائم. من أبرز تلك الشخصيات إثارة للجدل والفضول، الشخصية المعادية للمجتمع، والمعروفة باضطراب الشخصية السيكوباتية. لأن النفس البشرية أكثر تعقيدًا من كل القوالب كما نؤكد دائمًا، فلا يوجد شخص يتمثل فيه نمطٌ ما من الشخصية بنسبة 100%، إنما نتكون جميعنا من نسب متفاوتة من تلك الأنماط، وقد يغلب أحدها على الباقين، فيصبغ الشخصية بلونه.

جديرُ بالذكر أن سمات السيكوباتية تنطبق على حوالي 4% من الأمريكيي ن، وهذا رقم ضخم بالملايين. تتدرج شدتها من مجرد بعض المشاكل العائلية والزوجية، أو بعض السلوكيات الخاطئة تجاه الآخرين كالكذب والخداع، وصولًا في التمثُّل الأقصى إلى غياب تام للضمير.

لكي يكون شخصٌ ما سيكوباتيًا، فلابد أن يكون عمره فوق 18 عامًا، وسبق أن أظهر سلوكًا سيئًا، أو عدوانية .. الخ في سنيّ الطفولة. تمتلك الشخصية السيكوباتية الكثير من الصفات التي تؤهلها لارتكاب الجرائم بمختلف أنواعها، ومن أبرزها الاندفاع، والتهور، والعدوانية، ونقص الإحساس بالمسئولية، وجفاف المشاعر خاصة التعاطف الإنساني، وكذلك صعوبة تكوين علاقات عاطفية مستقرة، والميل إلى ابتزاز الآخرين وخداعهم.

مثال ذلك الداعشي عمر متين، والذي نفَّذ هجومًا مسلحًا في ولاية أورلاندو عام 2016م، راح ضحيته 50 شخصًا من مرتادي أحد النوادي الليلية للشواذ. حيث أظهر تتبع حياة عمر، ميله للعنف والعدوانية منذ سنوات الطفولة، حتى أن أحد زملاء الدراسة ادعى أنه أثناء الصف الخامس، سمعه يتخيل عن رغبته في قتل عدد كبير من الناس في هجومٍ مسلَّح. كذلك تحدَّثت زوجته عن اعتدائهم عليها جسديًا بشكلٍ متكرر.

يفاقم المشكلة، أن الشخصية السيكوباتية نادرًا ما تطلب العون الطبي النفسي، رغم المعرفة الواعية لدى الغالبية العظمى من حامليها، بمدى الضرر الذي يسببه سلوكهم للآخرين. لكن عمومًا، لا يمكن اتهام كل شخصية سيكوباتية أنها مشروع مجرم في أي لحظة، فالكثير منهم قد لا يصل إلى حد ارتكاب جرائم يحاسب عليها القانون.

وعمومًا، فالبيئة المحيطة، والظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية، تساهم بقدرٍ مهم في مدى حدة، وتطرف أعراض اضطرابات الشخصيات. ولا تحتكر الشخصية السكوباتية جرائم العنف بمفردها، فهناك الكثير من المجرمين نرجسين، أو انبساطيين .. الخ من الأنماط.

بالنسبة للعلاج المباشر، فهناك العلاج النفس-سلوكي، والذي يتضمن تمارين كيفية إدارة الغضب، والسيطرة على الانفعال، والتحكم في رد الفعل .. الخ. أما العلاج الدوائي، فليس له دور كبير في اضطرابات الشخصية عمومًا، ويتم اللجوء له في حالة تطور الأمر إلى الإصابة بأحد الأمراض النفسية كالاكتئاب، أو نوبات القلق الشديد، … الخ.


الخلاصة ..

هناك ميل للمبالغة في الجذور المرضية النفسية للجرائم، خاصة تلك الأكثر بشاعة، رغم تعارض الأدلة العلمية بين النفي والإثبات، وأحيانًا ما يكون هذا التركيز على الخلفية النفسية لمرتكبي الجرائم، حيلة لمحاولة تقليل حجم مسئوليتهم عما حدث.

وعمومًا فالجذور السياسية، الفكرية، والثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية .. الخ لمثل تلك الجرائم البشعة، أكثر بروزًا، وهي الساحة الرئيسة للعمل لتقليل احتمالات تكرار مثل تلك الظواهر الكارثية، بجانب زيادة القيود على إمكانية الوصول للأسلحة النارية.