لن يكون «مارك زوكربيرج» هو رائد الأعمال الأول ولا الأخير الذي يشاهد طفله الذي رَبَّاه واعتنى به وأعطاه كل وقته وجهده ليراه من أكبر الإمبراطوريات التقنية على مستوى العالم، وقد أُجبر على تركه ليشق طريقه من بعده على يد أصحاب رءوس الأموال الآخرين.

العبقري الراحل «ستيف جوبز» قد سبقه إلى هذا المصير وأجبر على ترك شركة أبل يوم السادس عشر من سبتمبر/ أيلول عام 1985، حتى لو كان قد عاد إلى منصبه بها مرة أخرى رسميًّا بعد 12 عامًا في نفس اليوم بالضبط!

كذلك «ترافيس كالانيك» مؤسس شركة أوبر – التي تعتبر اليوم أضخم شركة تقنية في قطاع المواصلات في العالم –أُجبر على مغادرتها كرئيس تنفيذي للشركة يوم الحادي والعشرين من يونيو/ حزيران عام 2017 بعد سلسلة من الإخفاقات التي تسبب بها، ولكنه احتفظ برغم ذلك بوجوده في مجلس إدارتها وبحصته منها، لكن لا أحد يعلم ما إذا كان سيتمكن من العودة إلى منصبه مرة أخرى في المستقبل خصوصًا مع التقدم الذي تحرزه الشركة بدونه.

فهل هذا هو المصير الذي ينتظر «مارك زوكربيرج» بعد كل الإخفاقات التي وقعت – ولا تزال – تقع فيها شركة فيسبوك؟


مارك يرفض … وبشدة

منذ التحقيق في قضية تسرب واستغلال بيانات المستخدمين لشركة تحليل البيانات (كامبريدج أناليتيكا) للتأثير على أصوات الناخبين في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة، ومارك زوكربيرج يلتزم في حديثه أمام كاميرات الإعلام هذا الوجه جامد الملامح الذي لا يدل على أي انفعال، حتى إنه انطلقت الشكوك الساخرة حول ما إذا كان مارك قد مات واستبدلو به إنسانًا آليًّا.

وهذا ما التزم به أيضًا في حديث تلفزيوني أجرته قناة CNN معه في مقر فيسبوك، ولكن الوضع قد اختلف عندما سألته الصحفية بشكل مباشر عما إذا كان يفكر في الانسحاب من منصبه الحالي كرئيس مجلس إدارة الشركة، فنجده وقد ابتسم لأول مرة ابتسامة انفعالية ذات مغزى وكان جوابه القاطع: «هذه ليست الخطة».

وعندما حاولَت دفعه للكلام أكثر بسؤاله: «هل من الممكن أن يغير أي شيء هذا القرار؟»، أجاب بنفس الابتسامة: «أعني … في النهاية، مع مرور الوقت، لن أظل هكذا للأبد. ولكن أنا أعتقد بالتأكيد أن هذا لا معنى له حاليًا».


أعضاء مجلس الإدارة يعتقدون العكس

يوم الثلاثين من مايو/آيار المقبل هو يوم مرتقب في فيسبوك بخصوص هذا الشأن، حيث سيتم عقد اجتماع مع مالكي الأسهم في الشركة، ومن المنتظر أن يتم طرح الأمر على الطاولة للحديث الجاد بشأنه، خصوصًا مع مطالبة العديد من أعضاء مجلس الإدارة بضرورة تنحي مارك عن منصبه منذ أواخر عام 2018.

يبدو أن مجلس الإدارة قد فاض به الكيل مع كل السقطات والعثرات التي تواجه فيسبوك، والتي ناقشت بعضها في مقال حذف فيسبوك نهائيًّا أصبح ضروريًّا لهذه السقطات التقنية، بالإضافة إلى انتفاض العديد من المستخدمين ورفعهم لشعار #DeleteFacebook على مختلف المنصات الاجتماعية ضد الشركة بعد اكتشاف تلاعبها ببياناتهم الخاصة وعدم قدرتها على تحمل المسئولية، وحقيقة ما تسببه من إدمان وأضرار نفسية بعضها عن عمد، ولقد ذكرت بعض منها أيضًا في مقال صحتك النفسية أم فيسبوك؟ لماذا يجب أن تحذف حسابك للأبد.

حتى إن نفسية المستخدمين ليست هي الوحيدة التي أصبحت تتأثر سلبًا بفيسبوك، بل العاملين بالشركة أيضًا! فلقد ذكر تقرير من صحيفة وول ستريت أن كل الأحداث التي مرت بالشركة خلال الفترة السابقة قد أثرت على روح الموظفين المعنوية بشكل كبير.

الأمر الذي ظهر في نتيجة استطلاع أُجري داخل الشركة على حوالي 29 ألف موظف، والذين لا يزال أكثر من نصفهم يؤمن بأن مستقبل الشركة لا يزال واعدًا، وهذا بانخفاض قدره 32% عن العدد صاحب نفس الإجابة من العام السابق! و53% منهم لا يزالون يؤمنون بأن فيسبوك يجعل العالم أفضل، بانخفاض 19% عن العام السابق.

ومع الأنباء الجديد بتغريم فيسبوك مبلغ 5 مليارات دولار من لجنة التجارة الفيدرالية لاتهامه بانتهاك خصوصية المستخدمين؛ كان كل هذا دافعًا لأعضاء مجلس الإدارة وحاملي الأسهم لأن يفكروا جديًّا في تنحية مارك زوكربيرج عن منصبه كرئيس مجلس إدارة فيسبوك.

ومن أهم الأسباب التي قصمت ظهر البعير هي فضيحة أخرى لم أذكرها في المقال الأول وهي تعاقد الشركة مع مؤسسة العلاقات العامة (ديفاينرز) لتحسين صورتها بعد دعوات المقاطعة والكراهية التي تنالها بشكل متزايد مؤخرًا.

فضيحة ديفاينرز

ما حدث هو أن هذه المؤسسة لم تكتفِ بمهمتها هذه فقط، بل أخذت مهمة أخرى على عاتقها وهي تشويه سمعة المنافسين مثل جوجل وكل من يقود الاحتجاجات ضد فيسبوك من الجهات الإعلامية وحتى الأشخاص، فقامت بإنشاء موقع إلكتروني مخصص لهذا الأمر، وربطت كل من يهاجم فيسبوك بمعاداة السامية وبالملياردير اليهودي المثير للجدل جورج سوروس الذي تحدثنا عنه في مقال جورج سوروس: بحثًا عن عالم ليبرالي.

ولقصة هذا الرجل مع فيسبوك أبعاد كثيرة ربما أقصها عليكم تفصيليًّا في مقال قادم، ولكن خلاصة الأمر أن جورج سوروس قاد منذ فترة الهجوم على فيسبوك لدرجة وصفه بأنه «يهدد المجتمع»، وذلك في الخطاب الذي ألقاه في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس عام 2018. حتى إن هناك منظمة جديدة ظهرت تدعى (التحرر من فيسبوك)، بعد البحث والتقصي وراءها علم الباحثون بأن جورج سوروس يمول العديد من أفرادها.

وبعدما فضحت صحيفة نيويورك تايمز في تحقيق استقصائي مطول أمر مؤسسة (ديفاينرز) وعلاقتها بفيسبوك، أنكر مارك زوكربيرج تمامًا علمه بكل ما حدث، وبعد إجراءات وتحقيقات مطولة تم الإعلان عن أن رئيس قسم الاتصالات والسياسة بالشركة (إليوت شرايج) هو من كان مسئولًا عن كل هذا منذ البداية، وإثر هذا تمت إقالته، وقد نشر إليوت مذكرة توضيحية يعترف فيها بتفاصيل الأمر.

ديكتاتورية مارك

الأمر الآخر هو القوة المهيمنة التي يمسك بها مارك زوكربيرج في يده، فمن خلال دوره المزدوج بالشركة كمدير تنفيذي ورئيس مجلس الإدارة؛ فإن لديه وحده 60% من القوة التصويتية بها، أي إن أي رأي معارض له داخل إدارة الشركة لا معنى له حرفيًّا.

وقد نوه حاملو أسهم فيسبوك بهذا الأمر بشدة في الوثيقة التي قدموها إلى هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية بتاريخ الثاني عشر من أبريل عام 2019، حيث وصفوا إدارته للشركة بأنها «ديكتاتورية»، وقالوا:

يتحكم مارك زوكربيرج بأغلبية الأصوات باستخدام هيكل أسهم متعدد الطبقات مع حقوق تصويت غير متساوية. لا يمكن للمساهمين الدعوة إلى اجتماعات خاصة، وليس لديهم الحق في التصرف بموجب موافقة كتابية.

وفي العرض السادس من الوثيقة قدموا طلبًا صريحًا بتعيين رئيس مجلس إدارة مستقل، وقد قالوا في هذا الشأن:

يشغل مارك زوكربيرج – الرئيس التنفيذي لشركة فيسبوك – منصب رئيس مجلس الإدارة منذ عام 2012. وتمنحه حصصه من الفئة المزدوجة ما يقرب من 60% من أسهم التصويت، مما يترك لمجلس الإدارة – حتى مع وجود مدير مستقل – إمكانية محدودة للتحقق من سلطة السيد زوكربيرج.
وأضافوا:

ولكن … هل يستطيعون؟

نعتقد أن هذا يضعف التحكم في فيسبوك والإشراف على الإدارة. بينما سيؤدي اختيار رئيس مجلس إدارة مستقل إلى السماح للمدير التنفيذي بالتركيز على إدارة الشركة، وتمكين رئيس مجلس الإدارة الجديد من التركيز على الرقابة والتوجيه الاستراتيجي.

تحدث موقع CNBC مع خبراء عدة حول هذا الموضوع لمعرفة مدى قدرة أعضاء إدارة شركة فيسبوك على إجبار مارك زوكربيرج على التنحي من منصب رئيس مجلس الإدارة، وكانت الإجابة بالإجماع هي لا صريحة.

ذلك لأن السلطة الموجودة تحت إمرة مارك من خلال وظيفتيه بالشركة ومن خلال قوته التصويتية تجعله هو الآمر الناهي بها، ووجود بقية الأعضاء مجرد شكل صوري؛ لا قوة لهم سوى رفع صوتهم بالاعتراض ذي الفعالية المنعدمة. فحسب قوانين الشركة يستطيع مارك أن يطرد أيًّا منهم في لحظة وبدون أي أسباب.

معنى هذا أنه لو انزعج من أحدهم وأحس بمحاولته للانقلاب عليه فسيسرحه في لحظتها ولا أحد يستطيع مساءلته عن ذلك، أو حتى التصويت على هذا القرار. أما لو اجتمعوا على الانسحاب من إدارة الشركة كشكل من أشكال الاعتراض ففي الغالب لن يعبأ لهم أحد، ذلك لأن المستثمرين يعرفون جيدًا أن القوة الحقيقية في يد مارك، ووجوده هو الأهم، أما هؤلاء فيمكن استبدالهم بسهولة.

وإذا فكروا في اللجوء إلى القضاء فستكون قضية خاسرة لا محالة، لأنه «ليس من غير القانوني عدم القيام بعمل جيد» كما يقول (ستيورات جرانت) المحامي بمؤسسة «Bench Walk Advisors»، والذي يضيف العبارة الناهية بقوله:

إذا أراد زوكربيرج أن يبقى رئيسًا، فإن زوكربيرج سيبقى رئيسًا.

ورأي الخبراء الأوحد في النهاية هو أن أعضاء المجلس لن يمكنهم عزل مارك زوكربيرج من منصبه إلا بأن يقنعوه بشكل كامل بأن هذا هو الأصلح للشركة ومستقبلها ليتخذ هذا القرار بنفسه، وعليهم فعل ذلك لو أرادوا التغيير الحقيقي للأفضل.

فما الذي تخبئه الأيام القادمة لهذا الصراع الداخلي المحتدم؟ وإلى أي شيء سيفضي في النهاية؟ هل سيقتنع مارك بالتخلي عن رئاسة فيسبوك؟ هل سيكون هناك تغيير جذري يعيد الثقة في فيسبوك أم أنه في طريقه إلى الانهيار؟ هذا ما سيكشف عنه المستقبل القريب.