يتباهى مؤسسو دولة -الاحتلال الصهيوني- بنقاء عرقهم ونسبهم الذي يعود إلى سيدنا يعقوب، عليه السلام، وأن نسبهم يعود إلى الأسباط الاثنا عشر من نسله، ولكن هل يهود اليوم حقًا من ذلك النسل؟ أم كونوا سبط ثالث عشر ليس له علاقة بأرض فلسطين أو بيعقوب -عليه السلام.

هذا ما سنحاول الإجابة عليه في هذا المقال..

البداية: إمبراطورية الخزر

الخزر هم شعب أو قبيلة من أصل تركي، امتدت حدود إمبراطوريتهم في جنوب شرق روسيا في منطقة الفولجا والقوقاز، وذلك في القرن السابع الميلادي حتى القرن الثاني عشر الميلادي، استطاعو في ذلك الوقت تكوين مملكة قوية، وكلمة «خوزاريم – خازاريم» هو النطق العبري لكلمة «خزر»، وينطق أحيانًا بـ«خازارا» أو «كوزاري»، وربما يعود إلى الكلمة التركية «قزمق» بمعنى يتجول أو يتنقل كالبدو، المشتق منها كلمة «قوزاق» وربما يعود إلى كلمة «قوز» أو جاز بمعنى «جانب الجبل المتجه إلى الشمال».

إضافة إلى ذلك أشار الكاتب «آرثر كوستلر» في كتابه «القبيلة الثالثة عشر» أن البدايات الأولى لظهور الخزر تجمع على أن الخزر كانوا جزءًا من الإمبراطورية التركية العربية في آسيا الوسطى في حوالي منتصف القرن السادس الميلادي، ولاحقًا حصل الخزر على استقلال كامل، وأقاموا دولة خاصة بهم وكانوا يقومون بهجرات وغارات باتجاه الشرق حتى وصلوا أوروبا الشرقية واستقروا فيها في القرن الحادي عشر الميلادي، ورغم ذلك لم يُكونوا دينًا خاصًا بهم، بل اعتمدوا في المجالات الثقافية والروحية على الشعوب المجاورة لهم، فكان اختيارهم للدين ينبع من اعتبارات دنيوية وليس روحانية، كما وضح بروفسور «بيتر .ب. جولدين» أستاذ التاريخ التركي والشرق الأوسطي في جامعة «روتجيرز» بالولايات المتحدة، في بحثه « The conversion of the khazars to Judaism».

فيوضح لنا بروفيسور «مصطفى عبد المعبود» أستاذ دراسات التلمودية والمشنا في جامعة القاهرة (وهو مترجم أجزاء المشنا الستة من عبرية القرون الوسطى إلى العربية)، في كتابه «يهود الخزر وفرية نقاء اليهود العرقي»، بأن ديانة الخزر آنذاك كانت الديانة الشامانية وهي ديانة وثنية يهيمن عليها «الشامان» وهو (كاهن – وساحر- وطبيب) الذي يدعى المقدرة على شفاء المرضى والسيطرة على الأرواح الشريرة ويدعى معرفة الغيب، ولم تعرف الإمبراطورية أي تعصب ديني، فأتيحت حرية العبادة لجميع سكان المملكة حتى بعد اعتناق الطبقة الارستقراطية الحاكمة لليهودية.

اعتناق الخزر اليهودية

تشير عديد من المصادر العربية والروسية والتركية إلى أن اعتناق «الخاقان» أي ملك الخزر كان في القرن السابع الميلادي، واتبعه حاشيته ثم شعبه بعد ذلك، وبعضها يشير إلى أنه اعتنق اليهودية في فترة حكم الخليفة العباسي «هارون الرشيد»، ولا تبتعد المصادر اليهودية كثيرًا عن هذا التاريخ، ففي كتاب «يهودا هاليفي» أن ملك الخزر تحول إلى اليهودية سنة 740م، بعد رؤيا رآها.

ويؤكد دكتور عبد الوهاب المسيري -رحمه الله – في موسوعته «اليهود واليهودية والصهيونية»، أن اعتناق ملك الخزر لليهودية قد تزامن مع الفترة التي بلغت فيها هذه المملكة أوج قمتها وسيطرتها السياسية والعسكرية أي بين القرنين (الثامن والعاشر الميلادي)، وأثناء تلك الفترة (789 – 809) اعتنق ملكها «بولان» اليهودية ومعه أربعة آلاف من النبلاء وجعلها الديانة الرسمية للدولة، وهذا ما أكده أيضًا المؤرخ المسعودي فأشار إلى أنهم تهودوا أثناء حكم هارون الرشيد، ويبدو أنهم عرفوا اليهودية من خلال المهاجرين الذين فروا من اضطهاد الدولة البيزنطية بخاصة في عهد «هرقل» في القرن السابع الميلادي.

كتب أحد يهود الأندلس «حسداي ابن شبروط – شفروط»، حين عرف بقيام المملكة إلى ملك الخزر، فيما عرفت بعد ذلك باسم «المراسلات الخزرية» يسأله عن القبيلة العبرية التي ينتمي إليها، وعن أمور أخرى، فيما أكد ملك الخرز أن أصله تركي وليس ساميًا، ولا علاقة له بأسباط إسرائيل العشرة المفقودة ولا بفلسطين وإنه لم يزرها قط، وليس هذا فحسب بل ذكر له كيف تهود الملك بولان في بداية الأمر، فيقول إنه بعث في طلب أصحاب الديانات السماوية وأقام بينهم حوارًا ليشرح كل منهم دينه ويناقش الأديان الأخرى، وحينها اقتنع الملك باليهودية واعتنقها، ويقول «كوستلر» إن اليهودية التي اعتنقها «بولان» كانت اليهودية القرائية التي تؤمن بالعهد القديم فقط من دون التلمود، ثم تطورت بعد ذلك إلى اليهودية الحاخامية أو الربانية.

الفرقة القرائية ودورها في تهويد الخزر

ظهرت الفرقة القرائية[1] في العراق في القرن الثامن الميلادي، وكان للقرائين حركة تبشيرية قوية جدًا على عكس بقية الفرق اليهودية، ومن المعروف أن القرائية ظلت في الخزر قائمة بشكل واضح جدًا حتى النهاية، ولا تزال قُرى اليهود القرائية الناطقة بالتركية موجودة حتى الآن في روسيا، ولم يكن التهويد كاملًا فاحتفظ السكان بعديد من العادات الشامانية من تراثهم التركي البدائي، فكانوا على سبيل المثال يقتلون الملك بعد مرور 40 عامًا من حُكمه، وهذا دليل على استمرار عادات الخصب حتى بعد اعتناقهم اليهودية، وهذا يفسر عدم اهتمام يهود العراق بهم؛ لأنهم يرون أنهم ليسوا يهودًا خُلصًا.

أوضح «أبو عبيد البكري» في كتابه «المسالك والممالك»، سردية عربية لاعتناق ملك الخزر «بولان» اليهودية، (ويعتبر حدثًا جللًا في تاريخ تلك المنطقة الممتدة من الفولجا حتى القوقاز)، إن سبب تحول ملك الخرز إلى اليهودية بعد أن كان وثنيًا، يتلخص فيه أنه اعتنق المسيحية ثم أدرك بهتان عقيدتها، ثم ناقش هذا الأمر مع أحد كبار الموظفين من حوله، فقال له: «أيها الملك إن من لهم كتب مقدسة ثلاثة فأرسل في استدعائهم واطلب منهم أن يوضحوا قضيتهم ثم اتبع من يمتلك الحقيقة».

وبالفعل بعث لهم الملك، وجاء حاخام يهودي وأسقف مسيحي ولم يتمكن رجل الدين الإسلامي من أن يصل فقد رشا اليهودي أحد الحرس ليضع له السم في الشراب ومات، هذا ما ورد في كتاب البكري، في حين دخل اليهودي والأسقف في مناظرة، انتهت بعجز الأسقف من أن يشرح حججه، بينما أعلن اليهودي أن عقيدته صحيحة، فاعتنق الملك باليهودية في نهاية الأمر.

بينما حرصت المصادر اليهودية على ذكر اسم الحاخام اليهودي العبقري الذي استطاع أن يقنع الملك باعتناق اليهودية وهو «إسحاق سنجري» وكان يقطن في مدينة يونانية واقعة على ساحل مرمره، كما أشارت الموسوعة العبرية «האנציקלופדיה העברית».

يتساءل «كوستلر» في كتابه «القبيلة الثالثة عشرة» عن السبب المنطقي وراء دخول مملكة كاملة إلى اليهودية، فهذا بلا شك حدث فريد، ففي أوائل القرن الثامن استقطب العالم بين قوتين عظميين تمثلان «المسيحية والإسلام» والتحمت مذاهبهما الأيديولوجية سياسية القوة التي تابعتها بوسائل الدعاية الكلاسيكية والتدمير والفتح العسكري، ومثلت إمبراطورية الخزر قوة ثالثة، وأثبتت أنها تعادل أيًا من القوتين سواء أكانت خصمًا أو حليفًا، ففرصتها الوحيدة للاحتفاظ بهذا الاستقلال هو ألا تتخذ المسيحية أو الإسلام دينًا لها، لأن اعتناق إحدى هاتين الديانتين كان معناه خضوعًا بطريقة آلية إما لسلطان الإمبراطور الروماني، أو لسلطان الخليفة في بغداد، وهذا ما رفضته الإمبراطورية، ولم يكن لهم أي صلة بيهود العراق أو حتى وسيلة اتصال بهم.

وفيما يخص بتأثير اليهودية على أنماط المملكة الخزرية، فتتمثل في اللغة والحياة العامة، فاستخدم شعب الخزر أسماء الأعلام اليهودية وكانوا يتحدثون ويكتبون بالعبرية وحافظوا على الختان، وبنوا المعابد ودربوا حاخامات ليقوموا بتدريس التوراة والعهد القديم وفيما بعد التلمود، وحافظوا على الاحتفال بأعياد الحانوكا -عيد الأنوار- وعيد الفصح، وطقس يوم السبت، كما وضح لنا البروفسور «د. م. دونلوب» أستاذ التاريخ ودراسات الشرق أوسطية في جامعة كولومبيا بالولايات المتحدة، في كتابه «The history of the Jewish Kharzas».

يهود الخزر بعد سقوط المملكة

بعد ثلاثة قرون من ازدهار المملكة الخزرية، ما لبثت أن انهارت المملكة خاصة بعد هجمات المغول بقيادة «جنكيزخان» وبعض هجمات الروس الذين أرادوا التوسع في حدودهم، فعاد اليهود أدراجهم لدول أوروبا سواء مَنْ تهودوا في مملكة الخزر أو اليهود الفارين من نير الإمبراطورية البيزنطية، وتوزعوا في مختلف بلاد أوروبا، وكونوا ما يُعرف باسم اليهود الأشكناز أي يهود أوروبا، في مقابل اليهود الذين عاشوا في الشرق الأوسط وهم اليهود السفاراد أي يهود الشرق.

وضح لنا بروفسور «مصطفى عبد المعبود» أن معظم الدراسات التاريخية تنسب يهود اﻷشكناز إلى الخزر، ولكن من الممكن أن الكثير من اليهود الأشكناز من الأوروبيين الأصليين، وليس فقط من الخزر كمنطقة جغرافية محددة، فالمعلومات المتاحة لا تكفي لتأكيد مثل هذا الأمر، ولكن ما هو مؤكد أنهم ليسوا من نسل بني إسرائيل، وأن معظم اليهود بعد تلك الفترة تمركزوا في بولندا.

وضح لنا «كوسلتر» أن اليهود الأشكناز هم يهود رفضوا فكرة الاستمرار العرقي اليهودي في فلسطين، ودافعوا عن حقهم في أن يظل يهوديًا منتميًا للبلد التي يعيش بها، وهذا ما يظهر واضحًا في خطاب «جولدا مائير» لحث اليهود على الهجرة إلى فلسطين، فقالت: «إن اليهودي الإنجليزي الذي ينشد بحكم إنجليزيته نشيد (حفظ الرب المملكة)، كيف يمكن في نفس الوقت أن يكون صهيونيًا؟ إنني أصدق من يقولون إن اليهود في أمريكا كانوا يبكون في لحظات الخطر التي حاقت بنا … ولكنني أقول إن دموعهم لا تكفينا… بعد أن دولة صهيون… لا يمكن أن يعَّد صهيونيًا إلا ذلك الذي يحمل حقائبه ويأتي على الفور، وفق ما ورد في كتاب دكتور «عبده الراجحي»، في كتابه «الشخصية الإسرائيلية».

استخلص «كوستلر» من كل الأبحاث والوثائق، أن الأغلبية العظمى من يهود اليوم ليسوا من أصل فلسطيني، وإنما من أصل قوقازي وأن تيار الهجرات اليهودية الرئيس لم ينبثق من حوض البحر المتوسط عبر فرنسا وألمانيا متوجهًا نحو الشرق، ثم عائدًا أدراجه مجددًا، إنما تحرك في اتجاه ثابت دائمًا من القوقاز عابرًا أوكرانيا إلى بولندا ومنها إلى وسط أوروبا، وعندما حدث في بولندا هذا الاستيطان الذي لم يسبق له مثيل، لم يكن في جانبه (في الغرب) إلا عدد قليل ولا يعتد به من اليهود.

يوضح لنا بروفسور «مصطفى عبد المعبود» محاولة الصهيونية أن تؤسس نظرية الحقوق اليهودية في فلسطين على أساس عرقي، إذا تدعي أن اليهود بالمعنى العرقي، شعب ارتبط دائمًا بفلسطين أو أرض الميعاد، وأن هذا النقاء العرقي وهذا الارتباط الأزلي يبرران الاستيلاء على فلسطين، ولكن تهود الخزر وتهود الآدوميين (وهم سُكان القبائل التي قطنت أرض كنعان قديمًا بجوار العبرانين وغيرهم من الأقوام)، وغيرهم من الأقوام المجاورة، يمثل تحديًا لهذه الفكرة الخاصة بالنقاء العرقي، والأصل الخزري ليهود الغرب، بينما يظهر لنا دكتور «عبد الوهاب المسيري» أن الصهيونية تُعرف الهُوية اليهودية الآن تعريفيًا إثنيًا فضفاضًا ولا تركز إلا نادرًا على النظرية العرقية ونظرية النقاء العرقي، كما تؤسس نظرية الحق اليهودي على الارتباط الإثني والديني والحضاري وليس على الارتباط العرقي.

لم يقتصر نفي هذا الادعاء من العلماء العرب المسلمين والمسيحيين، بل وضح لنا كلا الباحثين «ماكس مارجليوس وهو عالم لغة – ألكسندر ماركس وهو مؤرخ» وهم يهوديان إسرائيليان، في كتاب لهما بعنوان « A history of the Jewish people»، فكتبوا في هذا الكتاب أنه ليس من المقبول عمليًا أن يظل شعب ثلاثة آلاف سنة محتفظًا بنقاء دمائه دون أن تختلط بدماء غيره من الشعوب، وبخاصة أن هذا الشعب لا يشبه شعبًا آخر في عدم الاستقرار؛ فظل يطوف أرجاء الأرض منتشرًا شرقًا وغربًا ثم يأتي في العصر الحديث ليقوم بتجميع هذا الشتات العجيب بدعوى أنهم إسرائيليون لم يختلطوا بغيرهم، وأنهم منحدرون من نسل الأسباط ولا يزالون يحفظون انتسابهم إليها.

لقت هذه الدعوى سخرية فيقول «فيليب حتى» وهو مؤرخ لبناني: «والبحث عن الأسباط العشرة وادعاء بعض الجماعات في إنجلترا والولايات المتحدة أنها متسلسلة منها، أمور تدعو للسخرية، فيقول «ويل ديورانت» وهو فيلسوف ومؤرخ أمريكي، «والحق في وجود جنس نقي في الشرق الأوسط وغيره من بين الآلاف من تياراته الجنسية التي تتلاطم فيه أمر يتطلب مستوى من الفضيلة لا يعقله عاقل»، وفقًا لما ذكره دكتور عبده الراجحي، في كتابه الشخصية الإسرائيلية.

كما أن علماء الأجناس أثبتوا أنه لا يوجد عرق جنسي نقي واحد، فحاول دكتور محمد عوض معالجة تلك المسألة وهو عالم أجناس مصري معاصر، أن الذين يزعمون أن اليهود جميعًا من سلالة إسرائيل (يعقوب)، كلما يقفون لحظة واحدة ليدركوا أن هذا وَهم ولو كان صحيحًا لكان اليهود اليوم جميعًا متشابهون في السحنة والمنظر والتقطيع، ولو نظرنا إلى اليهود اليوم لوجدنا بينهم الشُقر ذوي العيون الزرقاء والخضراء، ورأينا بينهم السمر ذوي الشعر المجعد في هضبة الحبشة -يهود الفلاشا- والصفر المغول، ورأينا بينهم طوال القامة وقصار القامة وذوو الرؤوس العريضة والطويلة، ويوشك ألا يكون هناك اختلافات بين السلالات البشرية أكبر مما تجده بين الجماعات اليهودية، في مختلف القارات وليس مما يقبله العقل أن تكون هذه الطوائف كلها من سلالة جنسية واحدة[2].

فهذا يهدم ما هو رائج بأن دولة الاحتلال الصهيوني لا تمنح الجنسية الإسرائيلية لأي شخص إلا بعد تحليل الحمض النووي (DNA)، وهذا عكس ما يحدث، فإنهم يمنحون الجنسية لأي شخص يريد أن يهاجر إليهم أيًا كانت جنسيته أو دينه، وما زال حتى الآن لا يوجد دستور في دولة الاحتلال، نظرًا للسؤال الأبدي الذي لن يجده له إجابة وهو «مَنْ هو اليهودي؟».

المراجع
  1. أنشأها داود بن عنان، وتسمى أيضًا بالفرقة العنانية، وهو أحد علماء العراق تكونت في القرن الثامن الميلادي، في عهد الخليفة العباسي «أبي جعفر العباسي»، أي بعد نحو نشأة اليهودية بعشرين قرن، تؤمن بالعهد القديم فقط ولا تعترف بالتلمود أو بتشريعات الربانيين، وأطلق عليها «قرائين» نسبة إلى «مقرا» أي العهد القديم بمعنى الكتاب أو المكتوب، وألغى عنان كل تشريعات الحاخامات وأدخل تفسير جديد للعهد القديم.
  2. نقلًا من كتاب كوستلر، القبيلة الثالثة عشر.