إذا انطلقنا من حقيقة أن داعش تتبنى في أدبياتها القتل بالصورة المعروفة فعليًا وتنظّر له، فهل ينفي ذلك فرضية تلاعب أجهزة الاستخبارات بهذه التنظيمات الجهادية لتحقيق أهدافها وتبرير تدخلاتها في المنطقة؟ أم يُعد ذلك مبالغة في «نظرية المؤامرة»؟

في الواقع، هذه التنظيمات لا تفرض شروطًا معقدة لفلترة صفوفها بمعايير أمنية دقيقة، وهناك عشرات المواقف التي أقرت فيها داعش والقاعدة بوجود خروقات في صفوفها وفي مستويات قيادية عليا أيضًا. من هذه المواقف على سبيل المثال لا الحصر، إعدام داعش لأحد شرعييها، ويدعى «أبو عبد الله الكويتي»، مفتي مجزرة الشعيطات في دير الزور التي أعدم فيها 700 شخصًا بعد أن ثبتت – بحسب زعمها – عمالته لصالح المخابرات المركزية الأمريكية.

في السنوات الأخيرة تبنت داعش المئات من أحداث القتل النوعية، ووثقت جلها بصورة سينمائية احترافية، لعل أكثرها إثارة للجدل 6 أحداث في 6 دول، كانت كلها غامضة ومثيرة للجدل في توقيتاتها وفاصلة في مستقبل هذه الدول، وصبت جميعها في صالح الثورات المضادة وهي: الهجوم على صحيفة شارلي إيبدو في فرنسا، وكرم القواديس في سيناء، وحرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة، وحريقان متتاليان في المركز الثقافي الفرنسي في غزة، واغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي في تونس، وذبح الرهائن الأقباط المصريين مؤخرًا في 15 فبراير/شباط 2015.

اعتبرت فضيحة اغتيال المعارض اليساري شكري بلعيد في 6 فبراير/شباط 2012 أوضح الأمثلة على الإطلاق لإثبات فرضية تنفيذ «اليد» الداعشية لعملية دبرتها «رأس» مخابراتية. العملية التي كادت تعصف بمستقبل الحياة السياسية في تونس بتدبير انقلاب عسكري تم إحباطه في اللحظة الأخيرة. السؤال الآن: هل تنطبق هذه النظرية على حادث ليبيا؟ بصيغة أخرى: هل في ليبيا «يد» داعشية مثل «كمال القضقاضي» منفذ عمليتي الاغتيال في تونس، تتلاعب به «رأس» مخابراتية مثل «أحمد الرويسي» لخدمة الثورة المضادة؟!

«احتجز تنظيم داعش 21 مسيحيًا مصريًا منذ 45 يومًا، بدوافع أيديولوجية، هي الانتقام من احتجاز الكنيسة لأخوات مسلمات، فبذل النظام المصري قصارى جهده لتحرير الرهائن، لكنه فوجئ ببث التنظيم فيديو الذبح، وعلى الفور ألقى الرئيس خطبة تهديد عصماء مقتضبة، واجتمع بمجلس الدفاع الوطني وأعلن الحرب على المتطرفين في ليبيا، فدك سلاح الطيران معاقل داعش في درنة بعد أقل من 3 ساعات من الخطاب، ثم طالبت مصر وفرنسا وإيطاليا الأمم المتحدة باجتماع عاجل، ثم وقع السيسي صفقة شراء 24 طائرة رافال فرنسية اكتشف بالصدفة أنها جاءت بوقت مناسب، ثم طالب مجلس الأمن بالتدخل..»

هذه هي الرواية التي يريد النظام المصري (وداعش أيضًا) تثبيتها في أذهاننا ، لكن في العملية 5 تساؤلات غامضة تحتاج لتوضيح!


الانتقائية الإعلامية مع حوادث القتل

أولًا: ما سر الانتقائية في تعاطي الأذرع الإعلامية للنظام المصري مع حوادث القتل؟ وهل النظام حريص على كل الدم المصري، أو قطاع منه، ويتعامل مع تهديدات طارئة بهذا الشأن؟

في 10 فبراير/شباط 2015، أي قبل 5 أيام من حادث قتل الرهائن المصريين بليبيا، قُتل 40 مشجعًا مصريًا خنقًا بالغاز ورميًا بالخرطوش أمام استاد الدفاع الجوي، وبعد أقل من 24 ساعة كان الرئيس المصري يحتفل مع نظيره الروسي بالعروض المسرحية في الأوبرا، ولم يُنشر على تليفزيون الدولة عن الحادث إلا 4 دقائق في نشرة التاسعة ليس فيها صورة ولا فيديو ولا تعليق، ناهيك عن التشفي الذي مارسته القنوات الخاصة (الأذرع الإعلامية، كما أسماها المشير السيسي قبل أن يتولى الرئاسة) بالضحايا واختلاق الأكاذيب.

دعنا لا نذهب بعيدًا في حادث يحتمل التأويل. إذن، لماذا يقيم النظام الحداد على قتلى الجيش المصري على يد داعش في سيناء ولا يذكر قتلى الجيش في كوت ديفوار هذا الشهر إلا في خبر عابر؟

عد بنا لصلب الموضوع .. حسنا، لنعد! لماذا لم يعلق النظام ولا الأذرع الإعلامية على مقتل 7 مسيحيين مصريين وإلقائهم في قارعة الطريق في ليبيا في فبراير من العام الماضي، ثم عاد ليعلن الحرب الشاملة فجأة على حادث مماثل في فبراير من هذا العام؟


ثانيًا: هل يهتم النظام المصري بحياة المصريين في ليبيا؟

قبل شهرين من هذا الحادث، اختفى 21 صيادًا مصريًا في ليبيا، لم تقم أي من أجهزة الدولة بالتواصل مع أي طرف للاطمئنان على سلامتهم. ومع الضغط الإعلامي، زعمت الحكومة مؤخرًا أنها تجري اتصالاتها وتقوم بخطوات جدية لإعادة المصريين.

وفي مداخلة هاتفية لمحافظ كفر الشيخ مع التليفزيون المصري في 14 فبراير/شباط 2015، سألته المذيعة: ما آخر تطورات قضية الصيادين المحتجزين؟ قال: علمنا أنهم محتجزين لكن لم نعرف الجهة المحتجزة!

وبعد أن نشرت قناة الجزيرة أمس 16 فبراير/شباط 2015، فيديو لشهادة بعض الأهالي في وقفة أمام نقابة الصحفيين تفيد بوجود الصيادين في معسكر اعتقال (وحددوا مكانه) تابع للواء المتقاعد خليفة حفتر حليف النظام المصري بعد الانقلاب، سارعت الحكومة المصرية بالنفي.

وعلى التوازي، حاولت قناة «سكاي نيوز عربية» الإماراتية (أحد المنابر الدعائية للنظام المصري والمؤيدة لحفتر) بمعالجة الأمر، فأجرت اتصالًا مع أحد الأشخاص زعم أنه أحد الصيادين وأنه ورفاقه ليسوا معتقلين، وأنهم محتجزون في مركز الهجرة غير الشرعية ويعاملون معاملة طيبة، ثم أعطى الهاتف لشخص آخر عرف نفسه أنه مسؤول المركز وأنه على استعداد لتسليم المصريين؛ لكنه أفاد أن السلطات المصرية لم تتواصل مع الحكومة الليبية (يقصد حكومة طبرق) حتى الآن!

يعني بلغ بالحكومة المصرية حد الاستهانة بأرواح المصريين أنها لم تتكبد عناء اتصال واحد مع حكومة حليفها «حفتر» طوال شهرين، وحتى هذه اللحظة لم يخرج الصيادون. نفس الحكومة تود إقناعنا أنها ستشن الحرب حفظًا لكرامة المصريين.

بالعودة مرة أخرى لقضية الرهائن الأقباط فالأمران سواء، أفادت حكومة الإنقاذ المنبثقة عن المؤتمر الوطني الليبي في مؤتمر صحفي أمس أنها لم تتلق أي اتصال من الجانب المصري للقيام بأي خطوة للبحث عن الرهائن أو الوصول لطرف خيط.


الترتيب المسبق

ثالثًا: هل تفاجأ النظام المصري بالحادث؟ وهل كانت ردود أفاعله تلقائية على مستوى حدث «طارئ»؟

فيديو الذبح خرج لوسائل التواصل الاجتماعي في حدود العاشرة مساء. وخطاب السيسي المسجل الذي لم يبد فيه متفاجئًا أذيع في تمام الثانية عشر صباحًا. أي أن التحقق من صحة الفيديو والاجتماع بمجلس الدفاع الوطني وكتابة الخطاب ومراجعته وتسجيله ومونتاجه وبثه تم في أقل من ساعتين. وبعد 3 ساعات فقط تم توجيه عدد من الضربات لأهداف في درنة بليبيا.

هذه الأهداف بغض النظر عن كونها مدنية كما أظهرت الصور، وباعتبارها أهدافًا عسكرية، فإنها قد تحتاج لعدة أيام لتحديد الإحداثيات بدقة في جغرافيا معقدة ديموغرافيًا وسياسيًا كما في ليبيا. وبفرض تحديدها مسبقًا، وبغض النظر عن بعدها عن المكان المفترض للذبح (طرابلس) بـأكثر من 1000 كيلومتر، هل كان السيسي يتنظر ذبح المصريين بعد 45 يومًا من الصمت والإنكار للتحرك؟

ومن حسن المصادفة أن فرنسا التي أعلن رئيسها بعد حادثة شارلي إيبدو أن بلاده لا تنوي التدخل في ليبيا، غير رأيه فجأة وأبدى استعداده للتدخل في ليبيا، وقرر أن يطالب مع مصر وإيطاليا، الأمم المتحدة، باجتماع عاجل الأربعاء المقبل.

ومن حسن الطالع والمصادفة البحتة، أن مصر كانت حددت ذات اليوم موعدًا لتوقيع الصفقة المثيرة للجدل بشراء 24 طائرة رافال وفرقاطة بحرية من فرنسا.


داعش ودماء المسلمين

رابعًا: لماذا اختارت داعش رهائن مصريين، وهل هم حريصون فعلًا على المسلمات المحتجزات في الكنائس؟

في ليبيا آلاف المظلوميات الداخلية، فُعل بالنساء «المسلمات» كما الرجال، من رجال القذافي ما هو أبشع ألف مرة. هل انتهوا من كل معاركهم الكبيرة والصغيرة ولم يتبق إلا مظلومية سيدة مسلمة محتجزة في كنيسة في دولة أخرى؟ اختاروا من مليون مصري في ليبيا مسيحيين من «صعيد مصر» ويدركون عواقب هذا الاختيار على تهديد السلم المجتمعي في مصر. ما الجدوي من إثارة حرب أهلية في دولة أخرى وأنت مستضعف ظاهرياً في دولتك؟

نتفهم أن تنتج داعش فيلما يظهر حجم سيطرتها في الرقة، لكن بأي منطق يظهر المتحدث في فيديو الذبح وكأنه المسيطر على ليبيا من شرقها لغربها رغم مخالفة ذلك للواقع وانحصار نفوذ التنظيم وسيطرته في مساحات صغيرة؟

هل داعش حريصة على دماء المسلمات في الكنائس المصرية؟ بالطبع لا كبيرة جداً؛ فهي التي تعمدت قبل أيام التسبب في إعدام العراقية ساجدة الريشاوي في الأردن بعد حرق الطيار معاذ الكساسبة، وبالمثل كانت قادرة على تحرير «المسلمات» من الكنائس المصرية في صفقة تبادل.

صفقات التبادل ليست محرمة في قاموس داعش وبالتوازي مع بث فيديو الذبح كان الرصاص ينطلق في سماء كركوك بالعراق ابتهاجاً بإتمام صفقة تبادل بين داعش والأكراد حررت فيها بعض «منتسبيها».


الحقيقة

في سبتمبر 2014،نشرت صحيفة العربي الجديد 20 وثيقة مسربة تضم بنودًا خطيرة للغاية، زعمت أنها لاتفاقات تعاون عسكري واستراتيجي بين الجيش المصري وجيش اللواء المتقاعد خليفة حفتر في ليبيا.

في الوثيقة إعلان للحرب بأدق تفاصيلها قبل ظهور كل هذه التعقيدات. نفى النظام المصري في البداية، لكن بالتوزاي مع النفي، بدأ للتمهيد للحرب من خلال «الأذرع الإعلامية». فتجد «العراف» توفيق عكاشة الذي سبق وتنبأ بإقالة طنطاوي وتعيين السيسي وزيرًا للدفاع، يتنبأ مرة أخرى بشن مصر حربًا في ليبيا ويحدد الموعد بستة أشهر. تجد أيضًا عمرو أديب ووائل الإبراشي (وغيرهم ممن ذكروا في تسريب مكتب السيسي الشهير «بتكتب ورايا يا أحمد؟») مهدوا للحرب قبل شنها وقبل ظهور تهديدات يزعم النظام أنها «طارئة».

المسرح أعد لكن المشهد كان ينقصه إخراج جيد وتبرير قوي لإلقاء الشباب المصري في محرقة ليبيا، وكأن حادث الذبح هو القشة التي قصمت ظهر البعير:

– الخطاب أعد مسبقًا، على الأقل «نصه»، وإحداثيات الأهداف في درنة حُددت مسبقًا، واتفاق فرنسا مع مصر للتدخل حُدد مسبقًاـ بالضبط كما حُدد موعد توقيع الصفقة في زخم حادث الذبح. هذه الصفقة التي فهم الجميع أنها جيوسياسية؛ فلو كنت مكان السيسي لم أكن لأجد توقيتًا أفضل من هذا، فلن يسألني أحد عن جدوى إهدار 6 مليارات دولارات في ظل اقتصاد مهترئ على وشك الانهيار لشراء 24 طائرة صنعت في الثمانينات من القرن الماضي، وفشلت فرنسا في بيعها لأي دولة أخرى في العالم.

– أما أحمد قذاف الدم، فلا يُستبعد قيامه هو أو غيره بدور أحمد الرويسي في التلاعب العملياتي بداعش. ففي 17 يناير/كانون الثاني 2015، ظهر قذاف الدم في حلقة مع وائل الإبراشي وأشاد بداعش.

وعلى ذكر درنة، فإن صحيفة العربي الجديد نقلت في أحد تقاريرها أن النظام السوداني يزعم اعتقاله أحد المنتمين لداعش في درنة، وأنه باستجوابه تبين عمله لحساب المخابرات المصرية.