بحلول عام 2009 كانت الجامعات المصرية تشهد مرحلة ازدهار للأنشطة الطلابية باختلاف توجهاتها وأهدافها وأنواعها، كنت تجد كلمات مثل: «عندي اجتماع»، «ننظم فعالية»، «نحضر جلسات لمؤتمر كذا»؛ كلمات دارجة في لغة فئة من شباب الجامعة، وللعمل السياسي والحزبي من هذا نصيب.


يناير/كانون الثاني 2011

بحلول يناير/كانون الثاني 2011 بدا أن الحالة الجامعية والشبابية تأخذ منحى آخر، على الأقل في الفئة التى يمكن أن نعدها فئة مكترثة بالأوضاع العامة، بدا أن الباب فتح على مصرعيه لحالة عامة من النشاط المجتمعي، وظهرت فِرَقٌ ومؤسسات وجمعيات تعمل في مجالات مختلفة، وبطبيعة الحال كان للعمل السياسى منها نصيبا أكبر.

حتى هذه الأنشطة الجامعية وجدت نفسها تعيد صياغة أسئلة وجودها وأهدافها فمنها من استغل هذه الفسحة لينطلق بسرعة أكبر ومنها من أخذ يدفع عن نفسه التسيس في وقت بدى ذلك عملا بطوليا في ذاته. بحلول عام 2013 أغلق هذا الباب الذى كان قد فتح على مصرعيه، وضيقت المجالات أمام العمل العام والتطوعي، وبقيت بعض المؤسسات تصارع من أجل البقاء.

ظهر جليًا مع هذه التحولات في مسار العمل المجتمعي خلال السنوات الثلاثة، أن مجالات كانت مغلقة فُتِحت، وأن قائمة أولويات العاملين بها قد تغيرت، وبدى أن على رأس هذه القائمة في الفترة الأخيرة (التعليم، والفكر، والتربية) ثلاث مجالات يمكن بسهولة دمجها في مجال واحد.

بدت المؤسسات العلمية والتي تصارع من أجل البقاء هي الأخرى تظهر وتتعدد وتثبت أن الحاجة إليها أكبر، ظهر الحديث عن التعليم الموازي، أنماط التعليم ومشكلاته، نقد الأفكار والأيدلوجيات نقدا علميًا، نقد وسائل التربية التقليدية والحديث عن تربية الأطفال، وغيرها من الأفكار التي تنتمي إلى المحاور الثلاث.

أو يمكننا أن نقول ظهرت الحاجة إلى التأصيل العلمي لهذه الشلال من الأفكار والأيدلوجيات التي طفت على السطح خلال السنوات الثلاث، والتي كانت تتصارع مع بعضها البعض، وفي النهاية لم يثبت أحدها قدرته على الصمود والبقاء أمام الهزات الأعنف.


المؤسسات

من هذه المؤسسات التى ظهرت بحلول 2011 وكتب لبعضها البقاء لليوم، المؤسسات التي تهتم بالعلم الشرعي تدريسًا وتطويرًا، وشهدت إقبالا جيدا، حتى تبدلت كلمات مثل «عندى اجتماع»، بـ«عندي درس»، و«ننظم فعالية» لـ«أذاكر لامتحان» وهكذا.

لماذا تبقى مؤسسات كهذه الآن مع العلم أنه يمكن أن يشكل ما تقدمه إزعاجا للسلطة؟ لماذا أصلا تشهد هذه المؤسسات إقبالا؟ وما وضعها فى خريطة العمل المجتمعي؟ وما مدى فاعليتها؟ والأهم هل هي ظاهرة تظهر ثم تختفي أم أن الأمر من القوة بمكان ليتحول إلى ثقافة مجتمعية؟

أؤمن أن لكل فكرة أو فعل أصلا ثقافيا وأيدلوجيا ومعرفيا ترتكز عليه حتى وإن بدت منبتَّةَ الصلةِ عنه ظاهريا، وبالرجوع إلى 2009 وتحليل الأفكار التي قامت على أساسها المؤسسات الخيرية والأنشطة الطلابية؛ أجدها نتاجًا لخطاب ديني انتشر معها وقبلها، ارتكزت محاوره على تحسين الأخلاق والإيجابية في المجتمع، مختلطًا بأحاديث التنمية البشرية وتقدير الذات وحديث عن علم الإدارة وريادة الأعمال والنجاح وتخطي عقبات المجتمع مرورًا بمهارات عامة وصولًا إلى الحديث عن القدرة على تغير المجتمع.

حديث ربما كان مهمًا في وقته لكنه متفائل أكثر مما ينبغي، نفعي ومثالي أكثر من كونه حقيقي وواقعي، والدليل أنه لم يصمد مع توالي الصدمات، له مكانه للآن لكنه لم يصمد، عموما للحديث عن هذا معرض آخر.


التعليم الشرعى

معيار الحكم على الشيء ما إن كان ظاهرة يصدع صداها ثم تختفي أم لا، هو بمقدار تحول هذه الحالة إلى ثقافة عامة يتحدث بها المجتمع ويمارسها ويكبرها ويرى أثرها، وبقدر قدرة هذه الثقافة على الإجابة على الأسئلة الوجودية لأفراد المجتمع وحل مشكلاته والصمود أمام الهزات الفكرية التي تنتابه بقدر ما يمكننا الحكم على قوتها وتغلغلها وثبوتها في المجتمع، وشيء مثل هذا لا أدَّعي أن لديَّ القدرة الحقيقية والإمكانية لقياسه.

وبالحديث عن أسباب رواج بضاعة التعليم الشرعي يمكننا أن نسوق أسبابا لا ترقى لدرجة الاستقصاء لكنها تبدو منطقية إلى حين، أهمها هو البحث عن هذه الإجابات للأسئلة التي طرحت خلال السنوات الثلاث، والتي كانت تطرح قبلُ لكن لا تجد لها رواجا، أسئلة حول الدين وموثوقيته ومكانته، حول الوجود أصلا والتفاعل معه، حول وجودنا وأهدافنا.

بذيوع حاله التشكيك العامة في الدين وأصوله بذريعة ضرب الإسلامين والتخلص من سيطرتهم على عقول وأفكار المصريين، وكان طبيعيٌ أن تظهر ردة فعل بحثًا عن طريق للنجاة، فبين مستسلم للتشكيك ومتهرب من الدين برمته، وبين باحث حقيقي عن الإجابات كانت ردود الفعل. وكان للتعليم الشرعي نصيبٌ جيدٌ منها ويبدو أنه مع ما يقدمه من مناهج -عفا عليها الزمن – على حد تعبيرهم استطاع أن يقدم إجابات وافية للبعض.


البحث عن السلام

شهد عام 2011 حالة عامة من النشاط المجتمعي، استمرت حتي عام 2013 بتضييق المجال أمام العمل العام والتطوعي
كان التعليم الشرعي بالنسبة للبعض مجرد مجال جيد لتفريغ الطاقات والغضب وتحويله إلي رضا وسلام نفسي

أما عن هؤلاء الذين حصلوا على نصيب جيد من الصدمة في التيار الإسلامي السياسي، واكتشفوا عوج وعدم صلاحية كثير من الأفكار التي شاعت في خطاباته فمنهم أيضًا من عاد للبحث عن محتوى فكري آخر يملأ هذا الفراغ، أو عاد ليصحح مسار هذه الأفكار، وفي رحلة بحثه عرج على محطة التعليم الشرعي، ليجد عادةً أنه بحاجة لا إلى إعادة ضبط أفكاره، بل إلى إعادة ضبط أولوياته أو اكتشاف حقيقة ما عنده من معارف أصلا.

ربما بالنسبة للبعض هذا مجال مفتوح وجدوه أمامهم لتفريغ طاقاتهم وهم لم يعتادوا البقاء دون نشاط ، وربما وجد البعض وسيلة لضبط بوصلة حياتهم وأفكارهم بعد إعصار كان يجب أن ينتابها، ومنهم من يبحث عن سلام، سلام وفقط.

وربما أيضا هو مجال جيد لتفريغ الطاقات والغضب وتحويله إلى رضا كبير، أو لإدخال أيدلوجيات جديدة على حد سواء، التعليم بالمجمل أفضل المجالات لإلقاء الأفكار والأيدلوجيات لأدمغة خالية تتلقى منك العلم دون سابق معرفة، والتعليم الشرعي مجال خصب تؤصل فيه للأفكار التي تريد.

يمكن أن تنبش في كتب التراث لتجد أشعار السادة الصوفية وأقوالهم عن الاستسلام للقدر والحب الإلهي واللطف الخفي وحب الناس ومراسيل السلام، ويمكنك أن تجد النقيض كتب التكفير والتجهيل والتفسيق، يمكنك أن تجد مادة خصبة للحديث عن مواطن الاختلاف تجعل الدين جعبة تحتوى على كافة المتناقضات وعليك أن تختار أنت، وهنا فقط يمكنك أن تمايز بين ما تقدمه كل مؤسسة من فكر، يبدو متشابها بحد ويبطن اختلافا كبيرا.

الأصل موجود، والثابت موجود، يبقى صدق النوايا وبحث دائب وطول أمد تُستبان به أصول الأفكار والنوايا وراءها، وتُستبان به كنه الظاهرة، وما إن كانت بالون هواء إذا ما بلغ أقصى مداه انفجر، أو أنها جدول ماء يتدفق ببطء حتى وإن جف تجد أثره حوله.