بوفاة النبي، صلى الله عليه وسلم، بدأ الخلاف في الأمة، كان أول أمره خلافاً سياسياً، حتى تطور إلى خلاف عقدي، انبثقت عنه فرق ومذاهب شتى، خوارج فشيعة إمامية واثنى عشرية وحشاشين وغيرهم.

بالتوازي كانت الحركة العلمية تنشط، وأخذت المذاهب الفقهية تتشكل وتأخذ موقعها من الحالة العلمية للأمة، خمسة مذاهب فقهية بقت، وثلاثة مذاهب عقدية كبرى (أشاعرة ومعتزلة وأهل حديث)، آل الصراع بين المذاهب العقدية إلى انزواء مدرسة الاعتزال باعتبارها ليست مدرسة سنية، وبقي الصراع دائراً بين الأشاعرة وأهل الحديث، كلهم يدعي أنه يملك الكوكب الدري كاملاً.


الأشعري والأشاعرة

في كتاب «الأشعري والأشاعرة في التاريخ الديني الإسلامي»، يفتح جورج مقدسي باب السؤال على مصراعيه، حول حقيقة المذهب الأشعري والمكانة التي لعبها في التاريخ العلمي الإسلامي، وحقيقة الصراع بينه وبين مذهب أهل الحديث.

يصيغ الكاتب سؤالاته مباشرة فيلج إلى باب من التشكيك في المكانة التي لعبها علماء المذهب الأشعري في تاريخ الأمة، ويشكك في مكانة المذهب وكم معتنقيه منذ ظهوره.

فهو يرى أن الصورة التي رسمها مؤرخو المذاهب للمذهب الأشعري هي في الحقيقة صورة مذهب أهل الحديث، بيد أن نوعًا من التحايل على الكتابة التاريخية أوصل إلينا تصوراً مغلوطاً عن توزع القوى بين المذهب الأشعري ومذهب أهل الحديث.

يعود مقدسي إلى مرحلة أسبق في سؤاله عن حقيقة المدرسة الأشعرية وهو: هل كانت الأشعرية حقًا خطًا ممتدًا على نهج الإمام أبي الحسن الأشعري أم أنها كانت مدرسة مستقلة لا علاقة لها بما خلص إليه الأشعري في عقيدته؟

للجواب عن هذا السؤال يشكك مقدسي في نسبة كتاب «الاستحسان» للإمام الأشعري، وهو كتاب يؤكد فيه على جواز الاشتغال بعلم الكلام ويهاجم من حرم الاشتغال به، كما يشكك في نسبة الجزء الثاني من كتاب «مقالات الإسلاميين» للإمام الأشعري، وذلك بناء على أن الأشعري بدأ منهجه، بعد تخليه عن عقلانية المعتزلة، أقرب للأثريين، ويرفض كون الأشعري مرّ بمرحلتين عقديتين، أو أن يكون له رأيان في مسألة كالتأويل، إذ يكون في قول أقرب لأثرية أهل الحديث، وفي آخر أكثر عقلانية.

ويستدل مقدسي على تلك النتيجة التي تقول بكون المذهب الأشعري مذهباً عقلياً تطوراً بعيداً عن مقولات الإمام الأشعري الذي كان أقرب للأثريين؛ بتتبع نهاية كبار علماء الشافعية الأشاعرة كونهم أعلنوا توبتهم عن الاشتغال بعلم الكلام آخر حياتهم وأنهم عادوا إلى تحريم الاشتغال به، أمثال الجويني والغزالي الذي ألف بنفسه «إلجام العوام عن علم الكلام».

والسؤال الثالث الذى يطرحه مقدسي في كتابه هو: هل كان المذهب الشافعي مذهباً أشعرياً خالصاً، أم أن الأشعرية كانت بدعة فيه أول الأمر؟

يتتبع جورج مقدسي كتاب تاج الدين السبكي «طبقات الشافعية» ليخلص عبر إعادة البحث فيه إلى أن هذا الكتاب وضع لدس المذهب الأشعري في صفوف الشافعية، وأن جل الشافعية لم يكونوا أشاعرة، بل كانوا ينكرون على المشتغل بعلم الكلام عملاً بقول الشافعي إمام المذهب. ومعضداً بذلك أيضاً عودة إمامين من أئمة المذهب عن الاشتغال بالكلام وهما الجوينى والغزالي.

يجزم مقدسي في خاتمة كتابه بأن المذهب الأشعري حمل أسباب انهياره في طياته، وأنه كان يصارع للبقاء ولم يكن مذهب جمهور الأمة، بل ويخرج المذهب الأشعري عن زمرة مذاهب أهل السنة.


في مواجهة الكتاب

هناك سؤال نحتاج إلى أن يجيبنا الكتاب عليه؛ بعد كل هذا التشكيك في تاريخ ومرويات الأشاعرة التي قدمها إلينا، وهو لماذا وكيف ساد المذهب الأشعري في القرون المتأخرة والتي سبقت ظهور الوهابية مباشرة؟

فلو كانت النتيجة التي خلص إليها الكتاب؛ ألا وهي احتواء المذهب الأشعري على عوامل ضعفه وانهياره وهي الجنوح الزائد للعقل، كما كان المذهب الظاهري الذي انهار لتطرفه ضد العقلنة، فأدى ذلك لاندثار المذهب، فلماذا إذاً لم نشهد اندثار المذهب الأشعري أيضاً؟

كما أن مقدسي يعيب على الأشعرية تعاملهم مع تغير المذهب بناء على نظرتهم لتغير الآراء الفقهية وسعة المذاهب لتحمل آراء مختلفة في المسألة الواحدة، وتطبيق ذلك على مذهب عقدي يفترض فيه الجزم وأن يتباين تشكله عن تشكل المذاهب الفقهية، فلماذا إذاً يقارن في خاتمة كتابه بين مذهب عقدي ومذهب فقهي من حيث مسببات الانهيار كما فعل في مقارنته المذهب الظاهري بالأشعري؟

ثمة أمر آخر؛ وهو ما وصل إليه في خاتمة كتابه من إخراج للمذهب الأشعري من مذاهب أهل السنة وجعله مذهباً دخيلاً متسلقاً محتاجاً لأن يحمله المذهب الشافعي والشافعية ليبقى متعلقاً بمذاهب أهل السنة.

يخرج مقدسي المذهب الأشعري من حظيرة أهل السنة كونه مبالغاً في العقلانة، ويبني بحثه على النظر في بنية الأشعرية داخل المذهب الشافعي ليثبت أنه دخيل عليه، فلماذا لم يفعل مثل ذلك مع المذهب المالكي المتمركز في أفريقيا والمشتهر بأشعريته بالجملة، فإمام كالإمام السنوسي كان مدافعاً شرساً عن المذهب الأشعرى وهو إمام مالكي، ولا يكاد يتخلف ذلك في إمام للمذهب المالكي، فلماذا تخير تتبع المذهب الشافعي والجزم بناء على ذلك التتبع بخروج الأشعرية عن مكانتها المتخيلة في صيرورة التاريخ العلمي الإسلامي.

كما يقرن جورج مقدسي بين مذهب أهل الحديث أو مذهب الحنابلة وآراء الإمام ابن تيمية العقدية، رغم وجود اعتراضات وتحفظات واضحة من الحنابلة على آراء ابن تيمية فيما يخص العقيدة، تمتد إلى حنابلة العصر الحديث، بخلاف السلفية المعاصرة.


لماذا هو كتاب مهم؟

كان النقاش العقدي واحداً من ضمن الأسئلة الكبرى التي أثيرت على الملأ عقب ثورات الربيع العربي، بطبيعة الحال عادت عين النقد والتشكيك إلى كافة الاتجهات العقدية وأعيد فتح النقاش القديم بين الأشاعرة والأثرية في خضم محاولة كل الفرق كلامية أو فكرية أو سياسية كانت، أن تحصل على مكان لها في موقع مميز على الساحة.

لم يحصل الصراع القديم على نظرة جادة وفاحصة ومحايدة، ولم يمهل أي من المذهبين فرصة لإعادة قراءة مقولاته والنظر في طريقة تشكله بجدية.

صحيح أنه ومع التغيرات التي تمر بها السلفية المعاصرة بعد تلقيها ضربات قاسمة في بلاد الربيع العربي وفي مهدها ومرعاها، المملكة العربية السعودية، بدأ نقاش جاد حول تاريخ السلفية وظروف تشكلها ونقد واضح لمقولاتها، وتمخض عن ذلك تحولات في الأوساط السلفية على المستوى الفقهي والسياسي، لكن الموقف من المسألة العقدية يظل هو الكرة التي يدفع بها إلى الملعب كلما أرادت السلفية إثبات البقاء والتمايز.

لذا تكمن أهمية الكتاب كونه يفتح باب السؤال عن القضية العقدية لا من حيث هي مسائل كلامية علمية، بل من حيث هي مذاهب ذات تأثر وتأثير في حركة التغير التاريخي.

والسؤال الذي يبقى مفتوحاً هو: هل من الممكن أن نشهد في الفترة القادمة جراء هذه المراجعات والأوبات والتغيرات في الفرق الإسلامية، إعادة لجمع أجزاء الكوكب الدري، لا جمع يمحي التمايز ويفقد ثراءه، لكن يخلق لنا مواقف أقل تطرفاً، ورجالاً قادرين على الجمع والفرق والمفاصلة دون مقاتلة، والولوج إلى حقيقة الديانة لا الوقوف عند حروف المذهب؟