بأشكال مختلفة وطرق تستعصي على الحصر، تتسلل عقائد وممارسات هندية إلى المجتمعات العربية والإسلامية تحت لافتات شتى شقت طريقها بقوة في الثقافة الاجتماعية العامة؛ إذ يُقبل عليها الباحثون عن طرق للتنمية البشرية، أو الساعون إلى تحصيل الصفاء الذهني، أو الراحة النفسية بعد مرورهم بتجارب مؤلمة في حياتهم الشخصية، ومن يريدون التخلص من الفراغ الروحي والوحشة النفسية التي يشعرون بها، أو حتى بدافع الفضول وحب المعرفة، والبعض يدفعون بأبنائهم لتعلمها لاعتقادهم أنها تساعد على النمو الذهني والفكري لدى الأطفال، وغير ذلك كثير من الأسباب.

الكارما والشاكرات والعلاج بالأحجار

خلال الفترة الأخيرة انتشرت ظاهرة جلسات «تنظيف الشاكرات» (Chakras) التي تعتمد على التعامل مع «سبعة مراكز طاقة في الجسم البشري»، بزعم أنها تتحكم في قدرة الإنسان على اتخاذ القرارات الصحيحة والتواصل مع الآخرين، وأنها من طرق العلاج النفسي والجسدي، وأصبحت مراكز العلاج بالتأمل والطاقة لها جمهورها الذي يرتادها للحصول على الطاقة الروحية لأغراض شتى فهناك شاكرا الجنس، وشاكرا القلب التي تسهم في جلب الحبيب، وشاكرا التاج التي تطرد الأرواح الشريرة وتحمي من الحسد، وشاكرا العين الثالثة التي تختص بإكساب البشر قوة الحدس والبصيرة الثاقبة!

وتلجأ لهذه المراكز بعض السيدات ممن تأخر حملهن أو تكرر إجهاضهن أو يعانين من مشاكل مع أزواجهن مثلاً، ويتم بيع أحجار منظومة تسمى أساور الطاقة، بألوان معينة وفقاً للديانة البوذية يتم ارتداؤها لهذه الأغراض، تباع بأسعار مختلفة، إضافة إلى ممارسة اليوجا (أو اليوغا) في ظل غياب الوعي لدى أغلب الناس بأنها ليست مجرد تمارين رياضية بل شعائر تعبدية في الديانات الوثنية الآسيوية.

كما يقبل الملايين من مرتادي الإنترنت على المواد التي تتحدث عما يسمى «الكارما» وقوانينها وتأثيرها في الحياة، باعتبارها من قوانين الطبيعة وهي أفكار تدور حول الثواب والعقاب غير المباشر، وسلسلة عمل القضاء والقدر، وكيفية محاسبة النفس وحب الذات، والتحصن من الحسد والعين.

ويشترك البعض في دورات مدفوعة الأجر لدى «مدربين» متخصصين، للتخلص من «الطاقة السلبية» في حياتهم، أو يسجلون في دورات «كارما الثراء» ليتعلموا كيف يصبحوا من الأغنياء، وهكذا أصبح هذا المفهوم لديهم دواء لكل داء، وعلاج لأي خلل في الحياة، والبعض يحاول ربط هذه المفاهيم بالدين الإسلامي عبر الاستشهاد بالآيات والأحاديث النبوية التي تتحدث عن الثواب والعقاب على أنها أدلة على شرعية الكارما دينيًا ردًا على الفتاوى التي أصدرها دعاة وعلماء يحذرون من خطرها.

ومؤخرًا طفحت وسائل التواصل الاجتماعي بهذه الأشياء، ولا يسمح أرباب هذه الصنعة للدخلاء بمناقشتهم، بل يتصرفون كأصحاب الديانات المغلقة، ويتبنون خطابًا غامضًا عبارة عن جمل متقطعة مليئة بالأخطاء الإملائية تتضمن مصطلحات يدندنون حولها، بأسلوب يتسم بالركاكة والالتباس ككلام العرافين وقارئي الكف، مما يمنحهم هيبة ووقارًا لدى مريديهم.

و«الكارما» أساسًا مفهوم هندي مرتبط بعقيدة تناسخ الأرواح (أي انتقال نفس الروح من جسم لآخر) يختلف من ديانة لأخرى؛ ففي الهندوسية ينال الإنسان نتائج أفعاله الخيرة أو الشريرة في المستقبل، أو بعد مماته في حياة أخرى عبر تقمصه جسدًا آخر ليس بالضرورة أن يكون بشريًا، ضمن حياة تسلسلية دائمة لا نهاية لها من الولادات والوفيات، مما يؤدي إلى التبادل المتبادل بين الكارما الجيدة والسيئة.

فمثلاً إذا ارتكب الإنسان خطايا وجرائم فقد يأتي في الحياة التالية على صورة فأر أو حيوان، وإن أحسن في حياته ربما جاء بعد ذلك في صورة روح مقدسة، فهي قانون الثواب والعقاب الكوني القائم على العدل، فمن يخطئ سيلقى جزاءه في حياته وإلا فسيُعاقب في الحياة التالية، فالدنيا ليست فقط دار ابتلاء بل جزاء أيضًا، ويطلق على دورة التنقل المستمرة بلا توقف من حياة لأخرى اسم «سامسارا».

أما مفهوم الكارما لدى البوذية، فيتفق مع الهندوس في أن ظروف الحيوات المستقبلية تنبني على ما ارتكبه الشخص في السابق، لكن ليس على أساس أن هذا نظام ثوابٍ وعقابٍ باعتباره أحد قوانين الطبيعة، ووفق هذا التصور الأفراد وحدهم هم من يخلقون حظهم الطيب أو السيئ.

أما مفهوم الكارما لدى الديانة الجينية فهو شيء يرتبط بروح كل شخص، ويظل الإِنسان يولد ويموت ما دامت الكارما مصاحبة له، ولا يمكن التخلص منه إلا بتحرير الروح من الملذات عن طريق الحرمان الشديد والاستغناء عن الشهوات، فحينئذ يتخلص من الكارما ويبقى حيًا خالدًا في النعيم، وهكذا تشترك الأديان الثلاثة في المفهوم العام للكارما، رغم أنها لا تمتلك تعريفًا واحدًا، بل عدة تعاريف مختلفة.

وفي يناير/ كانون الثاني الماضي أثار المدعو نشأت منذر، مدعي النبوة، المدعوم من الفلكية اللبنانية كارمن شماس، ضجة إعلامية كبيرة، حين ذاعت ادعاءاته حول الكارما والنباتية (عدم أكل لحم الحيوانات) وأنه صاحب رسالة سماوية لإنقاذ كوكب الأرض، وهو من تلاميذ شينج هاي، وهي سيدة فيتنامية كانت تعتنق البوذية ثم تركتها وأسست مذهبًا مستقلًا متأثرًا بالبوذية، وصفها نشأت بـ«المعلمة الروحانية الأولى على وجه الأرض».

جماعات التصوف الهندي

رغم حالة الاستهجان والاستهزاء الواسعة التي لاقاها مدعو النبوة، بخاصة من المصريين، فإن جماعات وتنظيمات هندية الأصل تحمل أفكارًا مماثلة أو أشد تطرفًا استطاعت التمدد في الدول العربية، لكنها لاقت قبولاً لممارستها وإقبالًا على تعلم أفكارها من شرائح مجتمعية معينة، مثل جماعة «أناندا مارجا» (ananda marga) التي تعني «طريق السعادة»، وهي جماعة متعددة الجنسيات بدأت نشاطها في مصر بشكل سري منذ عام 2004، تعتنق إحدى الديانات الهندوسية التي تقوم فكرتها على تناسخ الأرواح، والبحث عن الإله الغائب، وتمارس الدعوة إلى هذه الديانة بشكل منهجي بين المتوافدين عليها بدعوى تعلم رياضة «اليوجا».

واتخذ التنظيم معبدًا سريًا في حدائق المعادي بالقاهرة مقرًا له، واجتذبت هذه الطريقة الآلاف داخل مصر، منهم نسبة كبيرة من الأطفال وأبناء الطبقات الراقية ويهددون من يترك جماعتهم في مصر بالقتل بخاصة لو كان من الأجانب المقيمين في البلد.

وقد تأسست طريقة أناندا مارجا في الخمسينيات، على يد برابهات رانجان ساركار (1921:1990) وهو موظف كان يعمل في هيئة السكة الحديد بولاية البنغال الغربية بالهند، اخترع طريقة روحية خاصة به، بموجبها تم اعتباره التجسيد الحي للإله بالنسبة لعشرات الآلاف من الناس في دول عديدة، وأنشأ مريدوه منظمة كبيرة في الهند، انتشرت أذرعها في معظم أنحاء العالم تقريبًا، وأنشأت خلايا إرهابية مسلحة، تنشر دعوتها من خلال مراكز اليوجا، والمدارس، ومراكز توزيع مواد الإغاثة في حالات الكوارث، والمراكز الطبية ومشاريع تنمية المجتمع، وتركز علي تلبية احتياجات السكان المحليين، ومساعدتهم على تطوير أنفسهم، وتنشط وسط اللاجئين السوريين في لبنان الذين يعانون من أوضاع معيشية سيئة، فتستقطب أطفالهم إلى مدارسها وتنشئهم على ممارساتها الروحية كطقوس اليوجا.

ويقوم معتنقو هذه الديانة الهندوسية بتقديم كل هذه الخدمات لاعتقادهم بأن الإله الغائب لن تعود روحه مرة أخرى إلا إذا أصبح العالم خاليًا تمامًا من كل الشرور وفق تصورهم الديني، ويستغلون الكوارث والأزمات الإنسانية لنشر طريقتهم، فمثلًا كان أول وجود لهم في مصر عقب كارثة الزلزال عام 1992، واليوم ينشطون بين اللاجئين الأوكرانيين في أوروبا.

وقد أُلقِيَ القبض على شيخ الطريقة عام 1971، بسبب قتله ستة أشخاصٍ وإلقاء جثثهم في غابات ولاية بهار الهندية، كانوا اعتنقوا مذهبه ثم تركوه فكان جزاؤهم الإعدام، وبسبب اعتقاله شن أتباعه هجمات إرهابية واسعة في عدة دول وحاولوا اغتيال رئيس الوزراء، مورارجي ديساي، عام 1978، مما أجبر السلطات الهندية على الإفراج عنه في وقت لاحق من العام نفسه فتوقفت الهجمات الإرهابية في كل الدول.

كما انتشرت أفكار وسلوكيات من التصوف البوذي في العالم العربي تحت ستار التنمية البشرية أحيانًا؛ فبحسب الباحثة السعودية، الدكتورة فوز كردي، فإن دورات التنمية البشرية تخلط أشياء مفيدة ومهارات نافعة مع اعتقادات باطنية وطقوس وثنية تحت مسميات عدة مثل الهندسة النفسية ودورات الطاقة المختلفة كالتشي كونج والريكي وطاقة الألوان وغيرها.

وكثيرًا ما يتم الترويج لمثل هذه الأمور ليس على أنها فلسفات أو طرق دينية بل على أنها حقائق علمية تم التوصل إليها بعد دراسات وبحث، مثل دورات ما يسمى «البرمجة اللغوية العصبية (NLP)» وهي مجموعة من الممارسات والفلسفات تهتم بالتفكير في إدارة الحواس وبرمجتها، وتهدف لإعادة صياغة مدارك وتصورات الإنسان، وتقوم على فكرة التحكم في العقل الباطن والاعتقاد غير المحدود في قدرات النفس البشرية، وقد انتشرت أعداد كبيرة من الكتب المؤلفة والمترجمة إلى العربية في هذا الإطار، تستمد فلسفتها من خليط من الأفكار وتتأثر بالممارسات الشرقية والديانة البوذية (امتياز نادر، البرمجة اللغوية والعصبية، المنهل، ص22)، لكن طرق تعليمها وممارستها تختلف بحسب خلفية مدربيها لكن شهاداتها لا تُمنح إلا وفقًا للمنهج القياسي المعتمد.

وهناك أيضًا تقنية التأمل التجاوزي (Transcendental Meditation)، وهي شبيهة بالبرمجة اللغوية العصبية، أسسها مهاريشي ماهيش يوغي (Maharishi Mahesh Yogi) (1918 :2008) وهو معلم يوجا هندوسي ترك الهند وعاش في الولايات المتحدة الأمريكية وأسس جامعة عام 1971 سماها جامعة المهاريشي العالمية ثم تغير اسمها إلى جامعة مهاريشي للإدارة، وأسس منظمة «الدولة العالمية للسلام العالمي» لنشر أفكاره وأسس قناة فضائية خاصة به لهذا الغرض.

وفي حين تمكن المهاريشي من نشر دعوته وإنشاء مراكز له في أكثر من دولة عربية، تم طرد أتباعه من إمارة دبي، ونشرت رابطة العالم الإسلامي بيانًا تحذر منه (ناهد طليمات، أكذوبة الطاقة، دار شمس للنشر والإعلام، القاهرة، 2018، ص48)، وتحمل الطريقة برنامج تبشيري عالمي ولها مراكز تنتشر في أكثر من ستين دولة في العالم لممارسة اليوجا، وفق فلسفة تتضمن نصوصًا دينية صريحة تدعى وحي الإشراق تتحدث عن الآلهة الهندية وعلاقة هذه الرياضة بالعقائد الهندوسية وتمجيد المهاريشي، مع أنها أحيانًا توصف بأنها حركة لا دينية.

وخلال السنوات القليلة الماضية التي شهدت تراجع حضور التيارات الدينية في العالم العربي وما أحدثه ذلك من فراغ كبير، لاقت الحركات والتيارات الهندية أرضية خصبة في الدول العربية، على عكس مناطق أخرى تم إقصاؤها منها مثل الصين مثلاً، فعندما استطاعت جماعة متأثرة بالبوذية تدعى بالفالون جونج، جذب ملايين الصينيين الذين يعانون الخواء الروحي، شنت الأجهزة الأمنية التابعة للحزب الشيوعي الحاكم، حملات أمنية عنيفة قتلت خلالها الآلاف من أتباع الطريقة، وتم إعلانها جماعة محظورة، وهرب العديد من أعضائها للخارج لممارسة شعائرهم بحرية وهي عبارة عن خمسة تمرينات يوجا أساسية، وكذلك المواظبة على شرب الشاي الأخضر.

التصوف والعقائد الهندية

تشترك مذاهب الصوفية الهندية في اشتمالها على وسائل مختلفة لممارسة الرياضة الروحية حتى يصل الشخص إلى الاستنارة الكاملة والتي يزعمون أنها ذروة السمو الروحي أو ما يعرف في البوذية والجينية بـ«النيرفانا» عندما يفقد الشخص الشعور بالمؤثرات الخارجية وينفصل تمامًا بذهنه وجسده عن العالم الخارجي ويخرج من سلسلة تناسخ الأرواح، وفي مذهب «زن» تسمى «ادارسانا جنانا» أو (معرفة المرآة) أي رؤية الشخص كل الأشياء بوضوح كما يرى وجهه في المرآة الصافية ويتجاوز كل الحجب (د.ت.سوزوكي، التصوف البوذي والتحليل النفسي، دار الحوار للنشر والتوزيع، ص136)، وفي الهندوسية تسمى حالة «موكشا» عبر الاتحاد مع الروح العليا «براهمان».

وقد تحدث العلماء قديمًا عن التأثير الهندي على التصوف الإسلامـي وانتقال العديد من الممارسات مثل تعذيب النفس بالتخلي عن متطلباتها الدنيوية كنوع من التعبد، وهي ممارسة تصل أحيانًا إلى المبالغة المفرطة كالتخلي عن ارتداء الثياب أو تناول الطعام تمامًا كما في حالة الرهبان الجينيين، وكذلك وجود مفاهيم لدى بعض الصوفية تتشابه مع عقائد هندية مثل «الحلول» (اعتقاد أن الخالق يحل في جسم المخلوق) و«الاتحاد» (الاعتقاد بأن كل المخلوقات حتى الحشرات لها روح إلهية)، و«الفناء» (حالة يصل إليها الشخص بعد ممارسة الرياضة الروحية تعد ذروة التجربة الروحية وهي عبارة عن الذهول عما سوى الله فلا يحس الشخص بنفسه ولا بما حوله وفقًا لما يقول البعض).

وقد قارن البيروني بين أتباع المذاهب الهندية والصوفية وتحدث عن ذلك في كتابه «تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة»، وذهب بعض المستشرقين مثل ريتشارد هارتمان (Richard Hartman)، وماركس هورتين (Max Horten) إلى أن التصوف تأثر كثيرًا بالحضارة الهندية القديمة (محمد عبد الله الشرقاوي، المستشرقون ونشأة التصوف الإسلامي، دار البشير للثقافة والعلوم، ص29-30).

ويُنسب إلى الحسين بن منصور الحلاّج (858-922م) أحد أبرز أعلام التصوف، أنه كان يسافر إلى الهند، واعتنق أفكار الحلول والاتحاد ووحدة الوجود، بعد رجوعه من هناك، وقد رجح المستشرق النمساوي ألفرد فون كريمر (Alfred von Kremer)، أن الحلاج أسهم في إدخال أفكار وحدة الوجود إلى التصوف متأثرًا بالهنود القدماء، ويرى هورتين أن التصوف في القرن الثالث الهجري كان مشبعًا بالأفكار الهندية وأن الحلاج تحديدًا كان أبرز من ظهر هذا التأثير عليهم كأوضح ما يكون (مقدمة أبي العلا عفيفي لكتاب (في التصوف الإسلامي وتاريخه) لرينولد . أ . نيكلسون، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1947).