ليست المرة الأولى في عالمنا العربي والإسلامي، التي تسعى الحكومات للتحديث الاجتماعي والثقافي بقرارات فوقية سلطوية، على النهج الذي بدأت فيه المملكة العربية السعودية في الآونة الأخيرة.

و هو نهج يخطئ من يقرؤه اليوم بمعزل عن موجة الاعتقالات التي شهدتها السعودية مؤخرا، للعديد من الشخصيات الدعوية والإعلامية البارزة في المملكة، أو بعيداً عن الأزمة الراهنة مع قطر، إذ يبدو بالفعل كلام السفير الإماراتي في واشنطن «يوسف العتيبة» عن الخلاف الفلسفي مع القطر بخطوط رغبة التحالف الرباعي في «حكومات علمانية» تهيمن على المنطقة العربية، كسياق مناسب في الحقيقة لفهم الكثير من خلفيات الأزمة الجارية اليوم في منطقة الخليج.

يقدم لنا تاريخ العالم الإسلامي وماضيه القريب عبرة كبيرة عن مآل ذلك التحديث المصحوب بالقمع، وعما سيفضي إليه، وعن مفارقة التحديث بين بلادنا وبين أوروبا والعالم الغربي، الذين أفضى بهم التحديث إلى الديمقراطية وأفضى بنا إلى نمط السلطة القائم لدينا وإعادة إنتاج العنف في مجالنا العام بشكل مستمر وتصدير فوائضه إلى الخارج بين الحين والآخر.

على غرار نشأة الدولة الحديثة في الغرب، التي انبثقت من قلب حرب الثلاثين عاماً الدامية، اقترن التحديث في العالم الإسلامي في بدايته، بالعنف والقسوة البالغين، لاسيما وأن ذلك التحديث ارتبط بالأساس بالحكم الاستعماري، الذي يمكن أن نعده دون مبالغة البنية القصوى للعنف تاريخياً، إلا أنه ورغم قسوة الاستعمار ومظالمه العديدة، كانت وللمفارقة أشد مراحل التحديث عنفاً وقسوة، هي المرحلة التي اضطلع فيها بتلك العملية،الحكم الوطني الحديث في العالم الإسلامي.

قام «مصطفى كمال أتاتورك» مؤسس الجمهورية في تركيا وجمعية الاتحاد والترقي التركية القومية، التي سيطر أعضاؤها على مفاصل الدولة العثمانية في أيامها الأخيرة، فى سبيل تأسيسهم للدولة التركية الحديثة بتكوينها الديموجرافي الحالي، باستئصال الوجود الاجتماعي لمئات الآلاف من الأرمن أثناء الحرب العالمية الأولى من داخل الأراضي التركية.

وبعد أن عاش المسلمون والمسيحيون جنباً إلى جنب لقرون طويلة على ضفتي بحر أيجه، أعاد الحداثيون القوميون الهندسة الاجتماعية لتركيا بالنهاية، وقاموا بترحيل المسيحيين اليونانيين الذين كانوا يعيشون فى تركيا إلى اليونان، بينما تم ترحيل المسلمين المتحدثين بالتركية في اليونان إلى الجهة الأخرى.[1]

ولم يشكل ما حدث مع اليونانيين الأرمن في الحقيقة سوى جزء من سياسات واسعة النطاق للتهجير القسري والتطهير العرقي والاستئصال الاجتماعي قامت بها النخبة العلمانية التي كانت تسيطر على مقاليد الحكم داخل الدولة العثمانية منذ تنحية السلطان عبد الحميد الثاني عام 1909، ضد العديد من الأقليات العرقية والدينية كالآشوريين، والسريان، والكلدانيين، والأكراد، والعلويين، إبان الحرب العالمية الأولى.

قام أتاتورك بعد توليه السلطة، بحظر الطرق الصوفية في تركيا، ومصادرة أملاكها، وإغلاق المدارس الدينية ومصادرة مداخيلها.

وقد تواصلت تلك السياسات بشكل منهجي،على يد مصطفى كمال أتاتورك بعد إلغائه الخلافة وترؤسه للجمهورية التركية الجديدة، إلى أن نجح فى إتمامها بالنهاية، واستطاع من خلالها أن يؤسس مجتمعا قوميا متجانسا (تركي مسلم سني) في الأخير بعد تطهيره من الأقليات العرقية والقومية،وفرض عقيدة علمانية صارمة عليه على النمط الفرنسي.

وفي السياق ذاته ولكن على المستوى الديني والاجتماعي هذه المرة، قام أتاتورك بعد توليه السلطة، بحظر الطرق الصوفية في تركيا، ومصادرة أملاكها، وإغلاق المدارس الدينية ومصادرة مداخيلها، كما قام كذلك بتغيير الكتابة العربية السائدة في تركيا واستبدلها بالأبجدية اللاتينية.

وأصدر أتاتورك فى هذا الإطار قوانين عرفت لاحقاً بإصلاحات أتاتورك تضمنت بعضها مواد تمنع غطاء الرأس للنساء وتحظر اللباس التقليدي وتلزم الرجال بالملابس الأوروبية،في تعد سافر على أبسط الحقوق والحريات الشخصية للأتراك.

ضمن نفس السياق، وعلى ذات الخطا، أصدر شاه إيران رضا بهلوي في سنة 1936 قانوناً عرف باسم قانون الملابس، يقضي بنزع الحجاب عن رءوس النساء، ويمنع العامة من ارتداء العمائم التي أمر بإبدالها بالقبعات، ويمنع إطالة الذقن ولبس العباءات[2]

وبالعودة إلى الوراء قليلاً في سياق العملية التحديثية أيضاً، إبان حكم محمد علي لمصر في مطلع القرن التاسع عشر تحديداً، فيجدر بالذكر أن هذا الأخير وحتى يستتب له الأمر في حكم البلاد، ويبدأ عملية التحديث الشاملة التي كان يعتزم إجراءها، قام بالقضاء بشكل عنيف على الطبقات التقليدية التاريخية المؤثرة في المجتمع المصري قضاء مبرماً.

حيث قام في هذا الإطار بمذبحة هائلة للمماليك داخل قلعة صلاح الدين بالقاهرة، استمرت بعدها حالة من الفوضى لمدة ثلاثة أيام، قام خلالها جنوده بقتل من تبقى من المماليك الآخرين في القاهرة، فضلاً عن انتهاكهم لحرمة المئات من البيوت.[3]

وقد قام كذلك السلطان العثماني محمود الثاني في هذا الإطار، بمذبحة أخرى بعد ذلك في تركيا، من أجل إنشاء جيش نظامي حديث أيضاً، حيث حاصر قوات الإنكشارية في ثكناتهم في إسطنبول، وضربهم بالمدفعية في العاشر من ذي القعدة 1241هـ /16 حزيران 1826م، ليصدر إثر ذلك فرماناً بإلغاء الانكشارية إلغاءً كلياً، ويتفرغ بدوره لإنشاء جيش عثماني جديد وفق النظم الأوربية الحديثة.[4]

وفي إطار التحديث العسكري أيضاً، ولكن خارج العالم الإسلامي هذه المرة تم القضاء في الشرق الأقصى من آسيا على طبقة محاربي الساموراي باليابان أواخر القرن التاسع عشر.

وقد كانت تلك سمة التحديث العسكري في العالم عموما، ولم يتبق في هذا الإطار من أنظمة فرسان وجندية القرون الوسطى في العالم الآن تقريباً، سوى الحرس السويسري الذي يقوم بحراسة البابا وقصره في الفاتيكان، ودولة منظمة فرسان مالطة، التي تعرف رسمياً ودبلوماسياً باسم «النظام العسكري ذي السيادة المستقلة لمالطا – Sovereing Military order of Malta ».

والتي يعتبر استمرارها، استمراراً رمزياً وليس عسكرياً بشكل فعلي، رغم الشبهات المتداولة عامةً حول علاقة تلك المنظمة التي تتمتع رسمياً بصفة الدولة، بشركة الخدمات الأمنية الشهيرة المعروفة سابقاً باسم بلاك ووتر، والتي غيرت اسمها حالياً إلى اسم آخر، بعد تعرض سمعتها للضرر عالمياً،بسبب ممارساتها في عراق ما بعد الاحتلال.

بالعودة مرة أخرى إلى موضوعنا، وتحديداً إلى محمد علي باشا،فجدير بالذكر أن هذا الأخير قام إثر ذبحه للمماليك، بالبدء مباشرةً في تأميم الحياة الدينية والقضاء على دور علماء الأزهر الذين سبق وكان لهم الدور الأكبر في إسناد السلطة إليه هو نفسه من قبل، من خلال الثورة التي قاموا بها ضد خورشيد باشا الوالي العثماني السابق له، فنفي محمد علي الشيخ عمر مكرم بالنهاية إلى دمياط، وسيطر بعد ذلك بدوره على نقابة الأشراف التي كان يتولاها هذا الأخير من خلال مجموعة من المشايخ الذى تحكم فيهم عبر المال واستقطاعات الأراضي .[5]

استطاع محمد علي أن يمحو نفوذ مختلف الطبقات الاجتماعية التي سبقت حكمه من الوجود والتأثير، وانفرد بحكم البلاد، وتفرغ لمشروع تأسيس الجيش

ثم شرع محمد علي بعد ذلك في وضع يده على الأوقاف المحبوسة على المساجد والعمل الأهلي والخيري وطلب العلم، وقام بوضع عوائدها المالية فى خزانة دولته.ثم ألغى بعد ذلك هذا الأخير الملكية الفردية للأراضي بمصر، وصار بذلك المالك الوحيد الحقيقي عملياً لأراضي القطر المصري كله، ليصير فلاحو مصر كلهم بذلك أقنانا عند محمد علي وأسرته.[6]

وفي أثناء ذلك عموماً أثقل محمد على كاهل المصريين بالسخرة والضرائب المختلفة، وقام بفرض احتكارات مطلقه في الزراعة والصناعة والتجارة على كل شيء تقريباً في مصر .[7]

وعبر كل ما سبق استطاع محمد علي أن يمحو نفوذ مختلف الطبقات الاجتماعية التقليدية التي سبقت حكمه من الوجود والتأثير،وانفرد بحكم البلاد تماماً، وتفرغ بالنهاية لمشروع تأسيس جيش مصر الحديث، الذي لجأ في سبيل تكوينه، لخطف الفلاحين المصريين وضمهم قسراً إلى سلك الجندية، حيث كان المجندون يقادون من الريف والحضر على السواء إلى المعسكرات مكبلين بالسلاسل كالأرقاء.

ولعل سائر ما فات يعطينا لمحة بسيطة وعابرة، عن تلك الفترة التي بدأت فيها عجلة التحديث تكتسح في طريقها كل شيء في العالم التقليدي القديم للمسلمين، لتجعل من واقعهم الاجتماعي والثقافي و الاقتصادي والسياسي والقانوني بالنهاية مسخاً مشوهاً، فلا هم استطاعوا أن يصلوا إلى حداثة حقيقية مكتملة المعالم بعد ذلك كالحداثة الأوروبية، ولا استطاعوا من ناحية أخرى أن يحتفظوا بإرثهم وتقاليدهم الاجتماعية حتى يراكموا عليها، وينجزوا تطورهم الذاتي بشكل تدريجي وطبيعي.

ونلاحظ هنا أنه وبينما أفضت من جهة أخرى سيرورة التحديث في العالم الغربي إلى الديمقراطية، أدى فرض الحداثة في المقابل في العالم الإسلامي بهذا الشكل القسري والعنيف إلى إنتاج بنية اجتماعية وسياسية استبدادية بالنهاية،عملت لاحقاً بشكل تلقائي على إعادة إنتاج العنف في المجال العام العربي والإسلامي بصورة آلية شبه متكررة.

المراجع
  1. ] كارين أرمسترونج,أسطورة العنف الديني,ترجمة محمد معاذ شعبان,مجلة ذوات ,عدد 6 , 2015
  2. كورت شارف,إيران في ظل الثورة الإسلامية – معالجة الماضي من خلال الأدب, ترجمة: حسين الموزاني, مجلة فكر وفن , إصدارات معهد جوته, العدد 98, السنة 51, 2013,ص32
  3. عبد الرحمن الرافعي, تاريخ الحركة القومية، وتطور نظام الحكم، ج3 عصر محمد علي, الهيئة المصرية العامة للكتاب, ص 107–120.
  4. ليلى الصباغ, الإنكشارية, الموسوعة العربية, م عن المجلد الرابع , ص72
  5. عبد الرحمن الرافعي, تاريخ الحركة القومية، وتطور نظام الحكم، ج3 عصر محمد علي. القاهرة, الهيئة المصرية العامة للكتاب, ص 85–105
  6. Vatikiotis, P.J. 1991. The History of Modern Egypt: From Muhammad Ali to Mubarak. Baltimore: The Johns Hopkins University Press, p. 55
  7. عبد الرحمن الرافعي, تاريخ الحركة القومية، وتطور نظام الحكم، ج3 عصر محمد علي. القاهرة, الهيئة المصرية العامة للكتاب, ص 519––545