حظي المسجد بمكانة مُعتبرة في الحضارة العربية الإسلامية عبر القرون، الأمر الذي يمكن فهمه من خلال الاطلاع على العشرات من المصادر التاريخية، والتي تضافرت مع بعضها البعض لإثبات الأدوار المؤثرة التي لعبها المسجد في الميادين الدينية، والاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية.

في هذا المقال، سنتعرض للأدوار التي لعبتها المساجد المصطبغة بالصبغة المذهبية، وذلك من خلال دراسة ثلاثة نماذج مختارة، وهي مسجد عقبة في القيروان بتونس، والعتبة الرضوية في مشهد بإيران، ومسجد إبراهيم الدسوقي في دسوق بمصر، على الترتيب.

القيروان: أقدم من المدينة جامعها

يقع جامع عقبة أو جامع القيروان، في مدينة القيروان الواقعة على بعد 160ك.م جنوبي تونس العاصمة. بحسب المشهور فإن هذا الجامع قد بني في 50ه، على يد القائد العسكري المسلم عقبة بن نافع الفهري، وكان أول جامع يُبنى في المغرب الكبير كله.

في واقع الأمر، لا يمكن فهم المكانة المهمة التي يشغلها جامع القيروان في الذهنية السنية المغاربية الجمعية، إلا بالرجوع لسيرة مؤسسه من جهة، وللأساطير التي ارتبطت بالمسجد، ولدوره المهم في نشر المذهب السني على مر العقود من جهة أخرى.

بحسب ما تتفق عليه المصادر الإسلامية، فإن عقبة هو تابعي، لم ير الرسول، وقد شارك في حركة التوسع الإسلامي في منطقة غرب إفريقية بصحبة والي مصر عمرو بن العاص، وفي زمن معاوية بن أبي سفيان، تولى عقبة منصب والي إفريقية وتمكن من تحقيق الانتصارات المتوالية على الأمازيغ والبيزنطيين، حتى وصل للمغرب الأقصى، ذلك قبل أن يُقتل على يد كسيلة بن لمزم -وهو أحد زعماء الأمازيغ- في منطقة تهودة -الواقعة في الجزائر الحالية- في 63هـ.

الدور العسكري المهم الذي لعبه عقبة في بلاد المغرب الكبير، حظي بأهمية مميزة في المِخيال السني، ذلك الذي يولي قداسة كبرى لمفهوم الجهاد، باعتباره الوسيلة الأكثر فاعلية لنشر الدين الإسلامي من جهة، ولتوسيع رقعة الإمبراطورية الإسلامية من جهة أخرى.

ومن ثم فلم يكن من الغريب أن نجد أن بعض المدونات المغاربية قد عملت على رفع مكانة عقبة من خلال ربطه ببعض المرويات النبوية المقدسة، ومن ذلك ما ورد في كتاب «الروض المعطار في خبر الأقطار» لأبي عبد الله محمد بن عبد الله بن عبد المنعم الحِميري المتوفى 900هـ، بخصوص النهي عن سكنى تهودة، وتفسير ذلك بالحديث المنسوب للرسول «سوف يُقتل بها -أي تهودة- رجال من أمتي على الجهاد في سبيل الله تعالى، ثوابهم كثواب أهل بدر، وأهل أحد، وأنهم ما بدلوا حتى ماتوا»، الأمر الذي جرى إسقاطه على عقبة ومن قُتل معه في المعركة.

جامع القيروان لعب دوراً كبيراً في عمران مدينة القيروان نفسها، حتى شاع بين التونسيين قولهم «أقدم من المدينة جامعها»، يقصدون بذلك أن جامع القيروان كان أول ما بُني في المدينة، وأنه كان النواة الأولى لها، إذ اجتمع فيها العرب ومن أسلم من الأمازيغ، ليؤسسوا أول مراكز الإسلام في المغرب الكبير.

ارتباط الجامع، وتأثيره على المجال السياسي يظهر بشكل صريح في سعي الكثير من الحكام لتجديده، وتوسيعه عبر القرون، الأمر الذي ظهر بشكل واضح في زمن حكم الأغالبة في الثالث الهجري، حتى قيل إن زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب، لما تولى الحكم سنة 201هـ، قد أنفق على تجديد جامع القيروان ما يقرب من 80 ألف مثقال من الذهب، وكذلك ظهر هذا الاهتمام في زمن الدولة الزيرية، في منتصف القرن الخامس الهجري، وذلك بحسب ما يذكر الدكتور أحمد فكري في كتابه «مسجد القيروان».

الأمر الذي تجدر ملاحظته هنا، أن الاهتمام بجامع القيروان كان يرتبط -في أغلب الأوقات- مع صعود الكيانات السياسية السنية الأغالبة/ الزيريون، والتي كانت تجد في الاهتمام بجامع القيروان، تأكيداً على هويتها السنية، المخالفة للكيانات السياسية المحيطة بها، والتي كانت في أغلب الأحيان تعتمد المذاهب الشيعية أو الخارجية –ومنها على سبيل المثال كلٌّ من: الدولة الفاطمية الإسماعيلية، والدولة الإدريسية الزيدية، والدولة الرستمية الإباضية، ودولة بني مدرار الصفرية.

على الصعيد العلمي، لعب جامع القيروان دوراً مهماً في نشر المذهب المالكي -وهو أحد أهم المذاهب الفقهية المتبعة عند أهل السنة والجماعة- وذلك عندما قدم إلى المغرب الكبير مجموعة من العلماء البارزين الذين درسوا في ساحاته، ومن أهمهم كلٌّ من: علي بن زياد المتوفى 183هـ، وأسد بن الفرات المتوفى 213هـ، وعبد السلام التنوخي، المشهور بسحنون والمتوفى 240هـ.

الأمر الذي حدا بالكثير من المغاربة لتسمية القيروان بـ«رابعة الثلاث»، في إشارة لكونها تحتل المكانة الأهم بعد مكة، والمدينة، وبيت المقدس، وهي المدن الثلاث التي تُشد الرحال إليها بحسب ما هو معروف في الثقافة السنية.

العتبة الرضوية: أكبر وقف في العالم الإسلامي

يطلق اسم العتبة الرضوية على مجموعة من الأبنية الدينية المتواجدة في مدينة مشهد التي تقع في شمالي شرق إيران، وقد عُرف هذا المكان بالعتبة الرضوية، نسبةً إلى الإمام علي الرضا، ثامن أئمة الشيعة الإمامية الإثناعشرية، والذي توفي في مدينة طوس القديمة في 203هـ.

على الرغم من الخراب الذي أصاب مدينة طوس، فإن مرقد الإمام الرضا، قد ظل محتفظاً بأهميته الفائقة عبر القرون، بسبب تجمع الشيعة الإمامية حوله، واتخاذهم له موطناً ومزاراً، للدرجة التي أعادت العمران لتلك البقعة الجغرافية، والتي سُميت باسم مشهد، نسبةً لمشهد الإمام الرضا. في الحقيقة، كان مرقد الرضا سبباً في بناء العديد من الأبنية الدينية التي أقيمت بالقرب منه، وكانت المساجد –بطبيعة الحال- هي أهم تلك الأبنية على الإطلاق.

الباحث في تاريخ العتبة الرضوية، سيجد أن المصادر الشيعية الإمامية قد عملت على إثبات قداستها، والتأكيد على قداسة الأرض المقامة عليها بكل وسيلة ممكنة، وذلك من خلال ربطها بأحاديث النبي والروايات المنسوبة للأئمة المعصومين، على سبيل المثال، ينقل الشيخ الصدوق المتوفى 381هـ في كتابه «عيون أخبار الرضا»، عن النبي قوله «ستدفن بضعة مني بأرض خراسان، ما زارها مكروب إلا نفّس الله كربته، ولا مذنب إلا غفر الله ذنوبه».

التداخل والاشتباك بين الدين والسياسة، ظهرا بشكل واضح في التطور الكبير الذي لحق بالعتبة الرضوية في القرن العاشر الهجري، وذلك بالتزامن مع وصول الصفويين للحكم في إيران. الصفويون الذين اعتنقوا المذهب الشيعي الإمامي الاثناعشري، وأصروا على تحويل الفرس إلى هذا المذهب، عملوا على استغلال الأهمية البالغة التي يحظى بها الإمام الرضا في النسق الشيعي الإمامي، ومن هنا فإنهم قد أعلوا من شأن العتبة الرضوية بكل وسيلة ممكنة، باعتبارها أهم مزار شيعي في إيران، فأنفقوا عليها الأموال الطائلة، ودعوا الإيرانيين إلى زيارة المرقد والتبرك به، كما سعوا لأن تكون هذه الزيارة بديلاً عن الحج إلى الأراضي المقدسة في شبه الجزيرة العربية، وذلك خوفاً من انتقال الأموال والذهب من بلاد فارس إلى الإمبراطورية العثمانية.

في سبيل إعلاء شأن العتبة الرضوية، قام الشاه عباس الأول برحلته الشهيرة إلى المرقد، وهي الرحلة التي قطعها مشياً على الأقدام من أصفهان إلى مشهد. في السياق نفسه تم نشر الأحاديث المشجعة على زيارة المرقد المقدس، ومن ذلك ما نقله المجلسي المتوفى 1111هـ في كتابه «بحار الأنوار» من القول المنسوب للإمام الرضا «ما زارني أحد من أوليائي عارفاً بحقي إلا تشفعت فيه يوم القيامة».

رغم زوال الدولة الصفوية في بدايات القرن الثامن عشر، إلا أن العتبة الرضوية قد ظلت محافظة على حضورها المؤثر؛ على سبيل المثال، من الممكن رصد الحضور القوي للعتبة في عام 1935م، عندما تجمع الآلاف من الإيرانيين في ساحة مسجد جوهر شاد -وهو أحد المساجد الكبرى الداخلة في الحرم الرضوي- للإعلان عن رفض قرار الدولة البهلوية بتغيير الزي التقليدي بالزي الغربي، ليفتح الجنود النيران عليهم، ويسقط ألف شخص ما بين قتيل وجريح في تلك الموقعة التي عبرت بوضوح عن أهمية العتبة باعتبارها رمزاً قوياً لحضور وغلبة التراث الإسلامي الشيعي التقليدي في إيران.

تأثير العتبة الرضوية ازداد قوة بعد نجاح الثورة الإسلامية في 1979م، الأمر الذي يظهر في كل ميادين الحياة في إيران، ولا سيما الاقتصادية، والسياسية، والدينية. على الصعيد الاقتصادي، استفادت العتبة من الأوقاف الهائلة التي أوقفت عليها عبر القرون، والتي جعلتها أكبر مركز للوقف في العالم الإسلامي، ويكفي أن نعرف أن ما يزيد عن الأربعين بالمائة من أراضي مدينة مشهد، تُعدّ جزءاً من موقوفات العتبة الرضوية. في السياق نفسه، استفادت العتبة من عوائد السياحة الدينية إليها، الأمر الذي يمكن فهمه إن عرفنا أن عدد زوار العتبة الرضوية في 2019م على سبيل المثال، قد وصل لما يقرب من الثلاثين مليون زائر.

تلك العوائد الضخمة تم استغلالها في سبيل تأسيس ما عُرف بـ«مؤسسة العتبة الرضوية المقدسة»، وهي الذراع الاقتصادي للعتبة، وتشرف على إدارة شبكة معقدة من الشركات الصناعية، والتجارية، والمالية، والزراعية، والتعليمية، والصحية، والثقافية، والطبية، كما أنها تمتلك حصة كبيرة في السكك الحديدية، والمطارات، وحقول النفط، وغير ذلك من المرافق الحيوية في شتى أنحاء الدولة الإيرانية.

أخيراً، يبرز تأثير العتبة الرضوية على الساحة الدينية، من خلال حضورها الدائم في كل ما يخص المذهب الشيعي الإمامي الاثناعشري، إذ اعتادت العتبة على استذكار جميع المناسبات الشيعية المهمة على مدار العام، فنجدها تكتسي بالسواد حزناً في ذكرى مقتل الحسين بن علي، وفي ذكرى أربعينيته، في شهري محرم وصفر على الترتيب، كما نجدها تتزين ابتهاجاً بحلول ذكرى الأعياد الشيعية، ومن أبرزها عيد غدير خم في الثامن عشر من ذي الحجة، وغير ذلك من الاحتفالات الخاصة بميلاد المعصومين الأربعة عشر.

دسوق: أكبر مساجد الصوفية

تقع مدينة دسوق في دلتا مصر، وتحديداً على فرع رشيد، وتتمتع بأجواء ريفية هادئة، بعيداً عن صخب المدن الكبرى، كالقاهرة والإسكندرية. في تلك المدينة الصغيرة، يوجد مسجد العارف بالله، سيدي إبراهيم الدسوقي، ويعدّ هذا المسجد أهم المزارات القائمة في تلك المدينة على الإطلاق، وذلك لشهرته، ولدوره المهم في عمران دسوق وازدهارها الاقتصادي.

بحسب ما هو شائع في المصادر الصوفية، فإن الدسوقي، هو برهان الدين إبراهيم بن أبي المجد عبد العزيز بن قريش الحسيني، ويتصل نسبه بالحسين بن علي بن أبي طالب، وتتفق أغلبية الآراء على أنه قد عاش لمدة 43 عاماً، وإن وقع الاختلاف في تحديد العام الذي توفي فيه، فذهب أكثر المؤرخين إلى وفاته في 676هـ، بينما رجح البعض أن تكون وفاته قد وقعت في 696هـ.

الأسطورة ارتبطت بالدسوقي منذ فترة مبكرة من عمره، إذ قيل إن بعض العارفين القريبين من دسوق قد بشروا بولادته، وأنه -أي الدسوقي- لما ولد انقطع عن الرضاعة فعرف الناس أن يوم مولده هو أول أيام شهر رمضان المبارك.

بحسب ما ورد في «الطبقات الكبرى» لعبد الوهاب الشعراني المتوفى 974هـ، فإن الدسوقي قد ارتبط بالأرض التي بُني عليها مسجده منذ فترة مبكرة من حياته، إذ تذكر الروايات أنه قد دخل في الخلوة في هذا المكان في صباه، وأنه لم يخرج منها إلا بعد بضع سنوات، وتحديداً عندما عرف بخبر وفاة والده.

تواجُد مسجد إبراهيم الدسوقي في دسوق، لعب دوراً مهماً في تحويلها من مجرد قرية صغيرة، إلى مدينة كبيرة، تكتظُّ بالسكان ويحيط بها العمران من كل جانب. هذا الربط بين المسجد وعمران المدينة، أشار له الكثير من المؤرخين، على سبيل المثال، يذكر مرتضى الزبيدي المتوفى 1205هـ في كتابه «تاج العروس وجواهر القاموس»، بأن دسوق هي «قرية كبيرة عامرة من أعمال مصر، وإليها يُنسب سيدي إبراهيم الدسوقي، صاحب المقام العظيم الكائن بها، وهذا القطب هو سبب عمرانها وشهرتها».

الإشارة إلى أهمية المولد الذي يُقام في مسجد إبراهيم الدسوقي في كل عام، وردت في كتابات القدامى والمحدثين على حد سواء، على سبيل المثال، ذكره علي مبارك في كتاب «الخطط التوفيقية»، وكذلك تحدث عنه الباحث الهولندي نيكولاس بيخمان في كتابه «الموالد والتصوف في مصر»، فقال إن المولد يقوم بالأساس على بيع كميات ضخمة من الحمص والفسيخ، مما يسهم في تحقيق الرواج الاقتصادي لمعظم أهل البلدة، الأمر الذي يمكن تفهمه على الوجه الأمثل إذا عرفنا أن أعداد الوافدين للمشاركة في مولد الدسوقي قد تصل في بعض الأحيان لما يقترب من المليوني وافد.

فيما يخص الناحية العمرانية، فسنجد أن المسجد وما حوله من عمائر قد حظيت باهتمام متزايد من قِبل الدولة على مر القرون؛ ويذكر أحمد عز الدين في كتابه «السيد إبراهيم الدسوقي»، أن أول مظاهر هذا الاهتمام قد وقعت في زمن الدسوقي نفسه، وذلك عندما زاره السلطان قلاوون، فطلب منه الولي الزاهد أن يوقف نصف أراضي جزيرة الرحمانية المقابلة لمدينة دسوق، على طريقته ومسجده، فرضخ قلاوون لطلبه، وكانت هذه الأراضي هي أول ما يتم وقفه للمسجد.

تلك الأوقاف تعاظمت بعد ذلك، وتم صرف ريعها على طلبة العلم والعاملين، كما أُدخل على المسجد الكثير من التعديلات في عهد السلطان قايتباي، وفي القرن التاسع عشر الميلادي، بُني المسجد على صورته الحالية على مساحة عشرين ألف متر مربع، وذلك بحسب ما تذكر الدكتور سعاد ماهر محمد في كتابها «مساجد مصر وأولياؤها الصالحون». من الجدير بالذكر، أن المسجد قد تم تجديده مرة أخرى في ستينيات القرن العشرين، كما تم الاعتناء بالميدان الذي يحيط به، حتى صار أكبر مسجد صوفي في العالم، كما أصبح واحداً من أكبر مساجد مصر على الإطلاق.