في يوم اثنين مشمس وهادئ منذ نحو ثمانية وسبعين عامًا، وبحلول الساعة الثامنة والربع تقريبًا بتوقيت اليابان، ألقت طائرة «إينولا جاي» (Enola Gay) أول قنبلة ذرية في التاريخ والتي عرفت باسم «الولد الصغير» (Little Boy) على مدينة هيروشيما اليابانية، مخلفة انفجارًا مهولًا ارتفع لأكثر من 500 مترٍ في السماء، وهو انفجار قُدِّرت قوته بنحو 15000 طن من متفجرات «TNT».

وبفعل الحرارة الرهيبة التي سببها الانفجار تفحم الأشخاص الموجودون في محيطه، واحترقت الطيور في الجو، وانهار عدد كبير من الأبنية. ووصف الناجون الانفجار بـ «لمعان ضوء شديد أعقبه الشعور بحرارة مفرطة».

وقدرت الإحصائيات وفاة قرابة 90% من الأفراد الموجودين على مسافة ميلٍ واحدٍ (كيلومتر ونصف تقريبًا)، كذلك تدمير الأبنية الواقعة في نفس المحيط بالكامل. وخلال الانفجار الأوَّلي توفي نحو 70000 فردًا، ووصل العدد خلال السنوات التالية إلى 200 ألف فرد تقريبًا ممن تضرروا بالإشعاع النووي وما سببه من مشكلات.

لماذا لجأ العالم إلى تصنيع أول قنبلة ذرية؟

استخدام القنبلة النووية لأول مرة تاريخيًّا في اليابان يعود إلى عدد غير قليل من الأسباب، فخلال هذه الفترة وقعت الحرب العالمية الثانية الضروس بين دول الحلفاء التي تتضمن الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفيتي والصين، وبين دول المحور التي تضم ألمانيا واليابان وإيطاليا. قُدِرت وفيات هذه الحرب بنحو 70 إلى 85 مليون وفاة، وجرت على مدى 6 سنوات، بدءًا من العام 1939 إلى 1945، عام استخدام القنبلة الذرية الأولى.

وقد هرع العلماء من مختلف دول العالم إلى محاولة تصنيع القنبلة الذرية فور إعلان فريق من العلماء في معهد «القيصر فيلهلم» للكيمياء بمدينة برلين خلال شهر ديسمبر/كانون أول من العام 1938 عن توصلهم إلى كيفية حدوث الانشطار النووي، ويعني انقسام النواة الخاصة بالمادة إلى أجزاء أصغر، الأمر الذي يتسبب في إصدار كم هائل من الطاقة. وتتضمن الفريق علماء عدة، هم: أوتتو هان، وفرتز ستراسمان، وليز مايتنر، وأوتتو روبرت فرايخ.

سبَّب ذلك الأمر ذعرًا على المستويات السياسية والعلمية على مستوى العالم، فهو يعني احتمالية نجاح الدولة الألمانية المتناحرة مع دول عدة في تصنيع سلاح جديد لا قِبَل لهم به، الأمر الذي قد يسبب هزيمة ساحقة لهم.

في العام التالي، تحديدًا في اليوم الثاني من شهر أغسطس، أرسل العالم ألبرت أينشتاين رسالة إلى الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت كتبها بالتعاون مع عالم الفيزياء ليو سيزيلارد، وفحواها إمكانية الاعتماد على تفاعلات الانشطار النووي المتسلسل (Fission Chain Reactions) في تصنيع قنابل «بالغة القوة»، وقد آمن أينشتاين أن الألمان سيسعون إلى ابتكار هذا النوع من الأسلحة، لذا فقد حرَّض الرئيس الأمريكي على الإسراع تجاه تطويرها أولًا.

محاولات اكتشاف الذرة

نحو العام 430 قبل الميلاد أسس ديموقريطس نظرية «الذرة»، وأطلق عليها آنذاك اسم «Atomos»، وتعني «غير قابل للتجزئة»، ومنها يأتي الاسم الإنجليزي «Atom».

آمن الفيلسوف اليوناني أن الذرة أصغر مكونات المواد، هي أجسام صلبة متجانسة غير قابلة للتدمير، وتتحرك الذرات بعدد لا نهائي في الفضاء حتى تتوقف. ورغم الصحة النسبية لنظريات فلاسفة الإغريق، فهم لم يستطيعوا دعم آرائهم بأي ملاحظات واقعية أو تجارب علمية.

وظلت هذه النظريات ثابتة دون تحول جذري يُذكَر حتى أتى الكيميائي جون دالتون الذي قدم النظرية الذرية بشكلها المتطور المتوافق نسبيًّا مع اقتراحات ديموقريطس، وتتضمن النظرية 5 فرضيات: كل المواد تتكون من أجسام شديدة الصغر تُسَمى الذرات، وهذه الأجسام غير قابلة للتدمير أو الانقسام، وكل الذرات الخاصة بالعنصر الواحد (Element) تشترك في نفس الصفات، بينما تختلف ذرات العناصر المختلفة في الكتلة، وأخيرًا تتفاعل هذه الذرات بعضها مع بعض لتشكل مركبات جديدة.

وفي العام 1911 اقترح العالم الفيزيائي النيوزلندي إرنست رازرفورد أول شكل للهيكل المكون للذرة الذي أُطْلِق عليه «نموذج رازرفورد الذري». افترض هذا النموذج أن الذرة تحوي جزيئًا صغيرًا موجب الشحنة أسماه «النواة» (Nucleus) يدور حولها جزيئات خفيفة سالبة الشحنة أسماها «إلكترونات» (Electrons).

وفي العام 1913 ظهر «نموذج بور الذري» الذي قدمه العالم الدنماركي نيلز بور، وهو النموذج الذي يُعد ركيزة أساسية من ركائز ميكانيكا الكم (Quantum Mechanics). وقد أشار بور إلى أن الذرة تمتص الإشعاعات أو تطلقها تحت تأثير تغير وضع الإلكترونات وحالتها. وتُعَد ميكانيكا الكم أحد العلوم المهمة التي مهدت دراسة التفاعلات النووية لاحقًا.

لاحقًا في العام 1932 أكد الفيزيائي البريطاني السير جيمس شادويك – بما لا يدع مجالًا للشك – وجود النيوترونات، المكون الثاني للنواة الذرية، وهي جزيئات متعادلة الشحنات (غير موجبة أو سالبة).

كل تلك المحاولات السابقة إضافة إلى مزيد من المجهودات غير المذكورة أدت في الأخير إلى تطوير نظريات عدة في مجال الفيزياء الذرية وصولًا إلى اكتشاف الانشطار النووي الذي غيَّر التاريخ.

استجابة حماسية أمريكية

في التاسع عشر من شهر أكتوبر سنة 1939 أرسل الرئيس روزفلت ردًّا إلى أينشتاين فحواه تأكيد تأسيس لجنة تضم مدنيين وعسكريين من أجل دراسة عنصر اليورانيوم المشع الذي يُمكن استخدامه في بناء القنبلة الذرية، وصرحت هذه اللجنة لاحقًا بإمكانية إجراء تفاعل تسلسلي باستخدام اليورانيوم، لكن دون وجود دليل واضح.

وتضمن مشروع مانهاتن عددًا من المؤسسات العلمية الكبرى الأمريكية والبريطانية والكندية، أشهرها مختبر لوس ألاموس تحت قيادة العالم روبرت أوبنهايمر. وقد استطاع العاملون على المشروع تحقيق أول تفاعل نووي انشطاري، الأمر الذي أسهم أخيرًا في بناء القنبلة الذرية الأولى، التي جربها الفريق بالفعل في المنطقة الجنوبية من مدينة نيو مكسيكو.

وشاهد كثير منا الفيلم الذي قدم قصة حول خطوات تطوير القنبلة الذرية واختبارها، إلا أنه أهمل ذكر تأثير هذه التجربة السلبي في الشعب الأمريكي نفسه.

طبقًا لمقال منشور بصحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية، لم تكن مدينة نيو مكسيكو – بعكس ما هو شائع – مدينة خالية من السكان، فقد عاش في المدينة نحو 13000 شخص لم يدركوا أن مدينتهم ستتعرض لاختبار نووي، الذي وصفوه بـ «نهاية العالم».

بعد الانفجار تساقط الرماد المشع عدة أيام على أهل المدينة، وفي دراسة نشرها مركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها الأمريكي (CDC) عام 2010، أكد الباحثون أن مستوى الإشعاع بالقرب من بعض المنازل وصل إلى 10000 مرة أكثر من المسموح به في المناطق العامة، وقد سبب هذا الأمر إصابة مواطنين عدة بأنواع مختلفة من السرطانات على مدى 4 أجيال.

ولم يكن هذا التأثير السلبي هو الوحيد، فقد عانى أيضًا عمال مناجم من شرب المياه الملوثة، وتناول الطعام داخل هذه المناجم، ما أثر في صحتهم سلبًا.

ورغم إدراك الإدارة الأمريكية أن الاختبارات العلمية الألمانية لن تصل إلى تحقيق نتائج واقعية فيما يتعلق ببناء قنبلة ذرية، استكمل الأمريكيون مشروعهم، وسعوا إلى امتلاك أقوى سلاح موجود على وجه الأرض، واستهدفوا به مدينتي هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين، رغبة منهم في إنهاء الحرب، وتجنب اقتحام اليابان بريًّا، الأمر الذي سيؤدي إلى فقدان عدد كبير من الجنود.

استمرار تطوير السلاح المدمر

مع نهاية الحرب العالمية الثانية استمرت الولايات المتحدة في تطوير سلاحها النووي، خاصة مع معرفتهم أخبار مفادها تطوير الاتحاد السوفيتي – المنافس الاستراتيجي – سلاحًا مماثلًا، حيث اختبر قنبلته الذرية الأولى في التاسع والعشرين من شهر أغسطس عام 1949، واستمر ذلك التطوير طوال فترة الحرب الباردة التي انتهت في أوائل تسعينيات القرن الماضي.

وانضمت دول عدة إلى سباق التسلح النووي، فإضافة إلى الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، أجرت دول عدة اختبارات نووية بغرض تطوير الأسلحة، منها بريطانيا وفرنسا والهند والصين وكوريا الشمالية وباكستان ودولة الاحتلال الإسرائيلي.

وتطورت القنابل الذرية تطورًا كبيرًا من خلال هذه التجارب، فقد استطاع العلماء بناء القنابل الهيدروجينية، وهي قنبلة تعتمد على تفاعل الانشطار الخاص بالقنابل الذرية الأولى، والتفاعل الانصهاري (Fusion Reaction)، ويعني التحام المواد تحت ضغط شديد ودرجة حرارة مرتفعة منتجة قدرًا كبيرًا من الطاقة. ويمكننا القول إن هذا النوع من القنابل يستخدم القنابل الذرية القديمة كمحفز لبدء التفاعل الانصهاري شديد القوة.

وتُعرَف أكبر قنبلة نووية اختُبِرَت باسم «تسار بومبا» (Tsar Bomba) التي طورها الاتحاد السوفيتي، وقُدِّرَت قوتها بنحو 50 ميجا طن، ما يساوي تقريبًا 3500 مرة مثل قوة قنبلة «الولد الصغير» التي ألقتها الولايات المتحدة على مدينة هيروشيما، وأُطلِق عليها أيضًا اسم «ملك القنابل».

وصل قطر النيران التي أطلقتها هذه القنبلة إلى نحو 4 كيلومترات، وشعر الناس بالموجة التفجيرية (Blast Wave) على مدى 1000 كيلومتر. إن إلقاء قنبلة «الولد الصغير» على مدينة نيويورك – على سبيل المثال – قد يؤدي إلى وفاة نحو ربع مليون شخص، بينما قد يؤدي إلقاء «تسار بومبا» إلى مقتل نحو 7.5 مليون فرد.

واستمر تطوير هذه القنابل لإنتاج رءوس أصغر تستطيع الصواريخ حملها إلى مدى بعيد، ويصل المدى الانفجاري لمثل هذه القنابل إلى نحو 100 كيلو طن، ما يعني قدرة تفجيرية تساوي 5 أضعاف مجموع قوة أول قنبلتين نوويتين معًا.

ربما لم تشن الدول حروبًا نووية بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أن توفر هذه الأسلحة لدى دول عدة دومًا ما يهدد بوقوع حروب جديدة أكثر خطورة قد تؤدي إلى هلاك البشرية جمعاء.