شهدت الآونة الأخيرة انتشار الكثير من المناقشات والمجادلات حول ما يعرف باسم الدين الإبراهيمي الجديد. بحسب ما ذكرته العديد من الوسائل الإعلامية، فإن الدين الإبراهيمي هو محاولة للتوفيق بين كافة الأديان الإبراهيمية الكبرى -اليهودية والمسيحية والإسلام- وذلك بغية خلق حالة من الهدوء والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط المفعمة بالصراعات الطائفية والمذهبية.

الباحث في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، سيجد أن تلك المحاولات التوفيقية قد عُرفت لأكثر من مرة، وكان الهدف من ورائها هو العمل على التوفيق والتقريب بين المسلمين وجيرانهم من أصحاب الديانات المختلفة.

في هذا المقال نستعرض محاولتين للتقريب بين الإسلام والهندوسية، وهما السيخية والدين الإلهي على الترتيب، وقد تزامنتا مع حكم واحد من أعظم سلاطين دولة المغول بالهند، ألا وهو السلطان جلال الدين أكبر.

عصر جلال الدين أكبر

حكم السلاطين المغول الهند لفترة تزيد عن القرون الثلاثة، وذلك بدءًا من لحظة تأسيس الدولة على يد ظهير الدين بابر في 1526م وحتى سقوطها بعد خلع محمد بهادر شاه على يد البريطانيين في 1857م.

بحسب ما هو معروف، فإن الإمبراطور جلال الدين محمد أكبر، كان ثالث أباطرة المغول في الهند، كما كان أكثرهم قوةً ونفوذًا، إذ امتد حكمه لمدة خمسين عامًا، وتمتعت الدولة في عهده بالاستقرار والأمن.

في عام 1556م، ارتقى أكبر لعرش الإمبراطورية المغولية وهو في الرابعة عشرة من عمره عقب وفاة والده نصير الدين همايون، وكان مربيه، الأتابك بيرم خان، هو الذي تولى الوصاية في تلك المرحلة الحرجة، حتى إذا ما بلغ أكبر العشرين من عمره في 1561م، فإنه قد قام بإبعاد بيرم خان عن السلطة، وانفرد بالحكم وتمكن من إحكام سيطرته على كامل أقاليم الهند.

على الرغم من كثرة وتعدد الثورات والحركات الانفصالية في المملكة، فإن أصعب المشكلات التي تعرض لها جلال الدين أكبر خلال حكمه، قد تمثلت في الصراع الديني القائم بين الهندوس الذين يمثلون الأغلبية الغالبة من الرعية، والمسلمين من ذوي الأصول المغولية، والذين شكلوا النخبة الحاكمة.

في محاولة لتخفيف حدة التوتر الطائفي في بلاده، تزوج جلال الدين أكبر من الأميرة جودا باي، والتي تعود أصولها إلى قبائل الراجبوت الهندوسية المعروفة بالقوة والبأس، وأنجب منها ابنه وولي عهده نور الدين جهانكير.

أكبر الذي بدأ حكمه مسلمًا سنيًا ملتزمًا، أدرك بعد عشرين عامًا كاملة أن وقوفه في الصف الإسلامي سيحرمه من تأييد أغلبية شعبه من الهندوس، ولذلك فإنه قد تسامح إلى حد بعيد مع إحدى الديانات التي ظهرت قبله بفترة، وهي الديانة السيخية، ذلك قبل أن يقدم على الخطوة الأكثر جرأة وخطورة، عندما أعلن في عام 1582م عن اعتناقه لما سماه وقتها بـ«الدين الإلهي».

السيخية: أفكار المعلم نانك التي تسامح معها أكبر

بحسب أرجح الأقوال، فقد ولد مؤسس الديانة السيخية، والمعروف باسم نانك في 1469م، وذلك في إحدى القرى القريبة من لاهور عاصمة البنجاب، وكان أبواه هندوسيين ينتميان لطبقة الكشاتريا ذات المقام الرفيع في النظام الاجتماعي الشائع في الهند القديمة. في شبابه تولى نانك إحدى الوظائف الحكومية في مدينة سلطانبور، وتزوج ورزق بطفلين، وبعدها تعرف بمنشد ديني مسلم يدعى ماردانا، وبدأ بصحبته رحلة السعي للبحث عن الدين الحق.

تذكر التقاليد السيخية أن نانك قد اختفى يومًا ما في الغابة بعد أن استحم في النهر، وأن روحه قد انتقلت لتقابل الله الذي قال له: «أنا معك، لقد جعلتك سعيدًا، وأولئك الذين سيطلق عليهم اسمك أيضًا، اذهب وردد اسمي، وفعل الخير، والطهارة، والعبادة والتأمل…».

بعد ثلاثة أيام فحسب، ظهر نانك للناس وبدأ يدعو لدينه الجديد، وأخبر الجميع أنه ليس هناك من هندوسي ولا مسلم، وبعدها اصطحب صديقه ماردانا في رحلة طويلة في شمال وغرب الهند، وفي كل مكان كانا يصلان إليه، كان نانك ينشد ترانيمه التبشيرية فيما كان ماردانا يعزف على آلة وترية صغيرة الحجم، وذلك بحسب ما ورد في «موسوعة تاريخ الأديان» للباحث السوري فراس السواح.

تعاليم نانك تمحورت -بالمقام الأول- حول التقريب بين الهندوسية والإسلام بكل طريقة ممكنة، على سبيل المثال، نجده وقد أطلق على ربه لقب «الاسم الحق»، حتى يتجنب أي اسم قديم مثل الله أو راما أو براهما؛ وفيما أخذ من الهندوسية فكرة تناسخ الأرواح، فإنه اقتبس من الإسلام إباحته لأكل لحوم الحيوانات، ورفضه لعبادة الأوثان والصور والأيقونات.

 الباحث جون نوس عمل على تحديد أهم سمات الديانة السيخية المبكرة، فذكر في كتابه ديانات الإنسان» أن «التوحيد هو الركن الأساسي في السيخية، وهو يتوازى مع الاعتقاد الإسلامي، بينما تتفق الكثير من العقائد الأخرى التي تؤمن بها مع الهندوسية بشكل من الأشكال. السيخية هي فعلاً نموذج بارز ومميز على التوفيق الفعال».

دعوة نانك وماردانا لم تحقق نجاحًا يُذكر حتى وصلا لمنطقة البنجاب في شمال الهند، في تلك المنطقة تحديدًا تجمع الكثير من السيخ -والتي تعني التلاميذ- حول الرجلين، وفي 1538م توفي نانك بعد وفاة صاحبه المقرب ببضع سنوات. بحسب ما هو شائع عند السيخ، فإن نانك عيّن أحد تلاميذه قبل وفاته، ليتولى الإشراف على أمر الدعوة من بعده.

ولما اختلف تلاميذه حول الطريقة التي يتعاملون بها مع جثمانه بعد وفاته، وإن كان من المفترض أن يحرقوه مثل الهندوس أم يدفنوه كعادة المسلمين، فإنه قد أمرهم في لحظاته الأخيرة أن يضع كل فريق من الفريقين وردة، واحدة يمين جثمانه والثانية إلى يساره، ثم ينظروا صباحًا للوردة الأكثر نضارة، فيأخذوا برأي أصحابها، وبالفعل نفذ السيخ الأمر، وتركوا الوردتين بجوار جثمان نانك في غرفة مغلقة، حتى إذا ما طلع الصبح وفتحوا الغرفة وجدوا الوردتين على حالهما من النضارة، أما الجثمان فقد اختفى، فيما اعتبره السيخ رمزًا وإشارة للتوحيد الكامل الذي عقدته دعوة نانك بين الهندوس والمسلمين.

على النقيض من الكثير من الدعوات الدينية التي عرفتها شبه القارة الهندية عبر تاريخها الطويل، فإن السيخية قد كُتب لها البقاء والاستمرارية، وذلك بسبب تعاقب القادة الأقوياء على رئاستها، الأمر الذي سمح بتطور الديانة بحسب ما تعرضت له من تحديات ومشكلات، كما ضاعف من قدرتها على الحشد والتعبئة ومواجهة الأعداء. على سبيل المثال، قام أرجان، وهو المعلم الخامس للسيخية، بخطوة مهمة في الحفاظ على السيخ عندما صنّف كتاب الغرانث، وهو الكتاب المقدس الذي جمع فيه الترانيم الشفوية لنانك، وحفظها بذاك من الضياع والنسيان.

أيضًا، يمكن تفسير بقاء السيخية بحالة التسامح الديني التي سمح بها جلال الدين أكبر، فمن المعروف أن أكبر قد قرأ الغرانث وزار المعلم أرجان ولم يجد بأسًا في إتاحة الفرصة لنشر تعاليم نانك في شتى أنحاء الإمبراطورية، الأمر الذي اختلف تمامًا بعد وفاة أكبر، ذلك أن الإمبراطور المغولي الجديد جهانجير قد دخل في صدام عنيف مع السيخ، وتبعه في ذلك أغلب أباطرة الدولة المغولية.

وهو ما دفع بالمعلمين الجدد للسيخ لتغيير إستراتيجيتهم والإعلان عن حالة الحرب وضرورة رفع السلاح ضد المعتدين، إذ «أعيد تفسير الله بحيث يمكن إخراج شخصية الرب بهيئة إله متشدد للحشود في زمن الخطر العظيم»، وكان من أشهر المعلمين الذين قالوا بذلك، المعلم العاشر غوفيند سينغ المتوفى 1718م والذي اشتهر بلقب غوفيند الأسد.

هذا التعامل المرن مع المستجدات السياسية والاجتماعية، سمح للسيخية بالبقاء حتى اللحظة، لدرجة أنها قد أضحت خامس أكبر دين في العالم من حيث عدد المتبعين، وذلك بعد كل من المسيحية والإسلام والهندوسية والبوذية على الترتيب.

الدين الإلهي: عقائد الهند في دين واحد

تتفق المصادر التاريخية مع بعضها البعض على أن الإمبراطور جلال الدين أكبر كان مسلمًا متدينًا في الشطر الأول من حياته، إذ كان حريصًا على إقامة الصلاة في أوقاتها المعلومة، وكان يبدي تعظيمه للأولياء والصالحين، كما اشتهر بسماعه الحديث الشريف من الشيخ عبد النبي أحمد الكنكوهي، وبزياراته المتكررة لمقام الولي معين الدين الجشتي، وبتعظيمه للشيخ سليم بن بهاء الدين السيكوري، وذلك بحسب ما يذكر الدكتور محمد سهيل طقوش في كتابه «تاريخ مغول القبيلة الذهبية والهند».

العديد من المؤرخين أكدوا على أن أكبر كان يمارس شعائر الإسلام على مرأى ومسمع من الجميع، إذ كان كثيرًا ما يرفع الآذان والإقامة في المساجد، كما أنه كان يبدأ حروبه بندائه الشهير «يا هادي، يا معين»، وهو النداء الذي كان له وقع السحر على رجاله بحسب ما يذكر الدكتور جمال الدين الشيال في كتابه «تاريخ دولة أباطرة المغول الإسلامية في الهند».

أكبر، الذي ولد لأب سني وأم شيعية، عمل على خلق حالة من حالات التسامح المذهبي في مملكته الواسعة، فأمر في 1575م بإنشاء عبادت خانة -أي دار العبادة- في مدينة فاتح بور سيكري، ونظم فيها المناقشات الجادة بين علماء السنة والشيعة، وفي أحد أيام سنة 1579م اعترف الفقهاء من الجانبين بأن السلطان هو صاحب الحق في الفصل في الأمور الدينية، وذلك في حالة أن وقع الخلاف بين الفقهاء المعتبرين، الأمر الذي جعل أكبر يعتقد فيما بعد بأنه قد صار مسؤولاً بشكل كامل عن الحالة الدينية في مملكته.

على إثر تلك الفتوى، قام أكبر بإتاحة الفرصة للأديان الأخرى للمشاركة في الجلسات العلمية التي كانت تعقد تحت إشرافه المباشر في دار العبادة، وتدريجيًا تم تقسيم هذا البيت إلى أربعة أقسام رئيسة، وفي كل قسم منها تواجد ممثلون وعلماء من المسلمين والهندوس والمسيحيين والزرادشتيين.

بعد فترة، أعلن الإمبراطور عن تأسيسه لدين جديد، وأطلق عليه اسم «الدين الإلهي»، وضمّن فيه بعض الأصول والمبادئ المعروفة في كل من الهندوسية والإسلام، وسرعان ما دخل الكثير من رجال الدولة في هذا الدين تباعًا، وقد حدد الدكتور الشيال أصول هذا الدين الجديد في الدعوة إلى:

توحيد الله، والذي هو حجر الزاوية في الإسلام، وتطبيق الطقوس الصوفية المستمدة من الديانتين الهندوكية والزرادشتية، وفرض الإيمان بوحدانية الله، وأن أكبر هو خليفته على الأرض، وأن على المؤمنين بهذا الدين أن يقدموا للإمبراطور أربعة أشياء، وهي الثروة والحياة والشرف والدين.

في السياق نفسه، عمل المؤرخ الأميركي ويل ديورانت في كتابه الموسوعي «قصة الحضارة» على وصف الملامح العامة للدين الإلهي، فقال: «كان مزيجًا من كل ديانات الهند، يؤمن بإله واحد يعبده الجميع ويختلف من طائفة إلى أخرى».

بحسب ديورانت، فإن هذا الدين الجديد كان ينص على تناسخ الأرواح، وكان أكبر قد مزج فيه بين كافة العقائد المعروفة في الهند في زمنه، فنجده وقد لبس القميص والحزام المقدسين المعروفين عند الزرادشتيين، ويضع الألوان على رأسه مثلما يفعل الهندوس، كما وافق الجانتيين في الامتناع عن صيد الحيوانات، وفضلاً عن كل ما سبق فإن أكبر قد تسامح مع المسيحية، وأطلق يد اليسوعيين للتبشير في بلاده بحرية كاملة.

نجاح أكبر في نشر الدين الإلهي في عموم الهند، ما لبث أن انتهى بوفاته في 1605م، ذلك أن ابنه وخليفته نور الدين جهانكير كان مسلمًا سنيًا محافظًا، وقد عمل منذ اليوم الأول لحكمه على إحياء السنة والقضاء على كل مظاهر البدعة، ولاقت جهوده الإصلاحية تأييدًا عظيمًا من جانب العلماء المسلمين في الهند، والذين تزعمهم في ذلك الوقت الشيخ أحمد السرهندي، وذلك بحسب ما يذكر أبو الحسن الندوي في كتابه «الإمام السرهندي حياته وأعماله».