محتوى مترجم
المصدر
Jacobinmag
التاريخ
2018/03/23
الكاتب
WILLIAM SMALDONE

في بداية مايو/آيار 1893، سار عشرات الآلاف من الجماهير في شوارع فيينا بمناسبة اليوم العالمي للعمال الذي أعلنته الرابطة الاشتراكية الأممية حديثة النشأة آنذاك (تأسست في 1889). في هذا اليوم، ذكَّرت تلك المظاهرات العالمَ بالقوة المتصاعدة للحركة العمالية، كما أثارت المطالب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية من ساعات العمل اليومية وحتى حق الاقتراع العام. تلقّف حزب العمال الديمقراطي الاشتراكي تلك الدعوة وأخذ يحشد لها في العاصمة فيينا.

التحق بالحزب ثلاثة طلاب من فيينا: كارل رينر (ثلاثة وعشرين عامًا) ورودلف هيلفردنج (ستة عشر عامًا) وماكس أدلر (عشرون عامًا)، وجميعهم أعضاء في مجموعة طلابية اشتراكية محلية. وبحماسة مفرطة، كونهم جزءًا من حركة جماهيرية تريد تغيير العالم، لم يرتدع الثلاثة عندما فضّت قوات البوليس المظاهرة بعدما سمعت نداءات بـ «الجمهورية الحمراء»، واعتقلت المشاركين ووضعتهم تحت المراقبة، ولكن ظلّ الشباب الثلاثة يلتقون لمناقشة أفكار إيمانويل كانط وكارل ماركس وغيرهما.

رودلف هيلفردينج، الاشتراكية، النمسا
المفكر والمناضل الاشتراكي النمساوي رودلف هيلفردينج

في عام 1895، قام الثلاثي بتأسيس مجموعة أُطلق عليها «الجمعية الحرة للطلبة والأكاديميين الاشتراكيين»، وعلى الرغم من أن الجمعية لم يكن لها اتصال بزعماء حزب العمال الديمقراطي الاشتراكي كمؤسس الحزب فيكتور أدلر، فإنها دعمت بنية الحزب وظلّت لثلاثين عامًا من تأسيسها ممرًا إلى قيادة الحزب. في 1899، ساعد هيلفردنج، أدلر على الفوز برئاسة المجموعة، وبعد ذلك بعام انضم إليهم أوتو باور.

سرعان ما ظهر الرجال الأربعة [كارل رينر، رودلف هيلفردنج، ماكس أدلر، أوتو باور] كأبرز المنادين بـ «الماركسية النمساوية»، واحدة من مدارس السياسات الاشتراكية التي حاولت الجمع بين الأهداف الثورية والممارسات المنفتحة على الإصلاح، ونظرًا لدورهم تجاه أحد أكبر الأحزاب الأوروبية الاشتراكية، وكذلك لقيادة هيلفردنج لأبرز حزب اشتراكي (الحزب الاشتراكي الألماني)، سيحمل الماركسيون النمساويون رسالتهم المتميزة إلى ما وراء حدود الإمبراطورية النمساوية المجرية بكثير.


سياسات الماركسية النمساوية

في مطلع ذلك القرن تزايدت الاشتراكية في النمسا. ومثل الاشتراكية الأممية، برز حزب العمال الديمقراطي الاشتراكي كمنظمة موحدة، بعد عقود من اضطهاد السلطة ومن الانقسام الداخلي بين مجموعات «الراديكاليين» و«المعتدلين». اجتمعت الفصائل معًا تحت قيادة فيكتور أدلر في «مؤتمر هاينفيلد» عام 1889، حيث قاموا بوضع برنامج صارت مبادئه الأساسية مع بعض التعديلات هي المرشدة لرؤية الحزب وللممارسة السياسية للعقود الثلاثة التالية.

تضمّن «برنامج هاينفيلد» جزأين رئيسيين: الأول مجموعة من المبادئ النظرية الأساسية التي أكدت أن السبب الأساسي في اللامساواة لم يكن المؤسسات السياسية الفاسدة، ولكن الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وهنا كان دور العمال المنظَّمين أن يعكسوا هذه العلاقة التي أعاقت النمو الفكري وأنتجت الفقر الجماعي والبؤس المتزايد للطبقات المتنامية من السكان. أما دور الحزب الذي كان مُعدًا لاستخدام كل «الوسائل العملية والقانونية» فقد كان مساعدتهم على القيام بمهمتهم التاريخية.

أما الجزء الثاني من البرنامج، بعد تأكيد عالمية حزب العمال الديمقراطي الاشتراكي وإدانة التمييز بين الأمم أو التمييز على أساس الأصل أو الجنس، فذكر مجموعة من المطالب المحددة: قانون العمل، مجانية التعليم العام، ساعات العمل الثمانية، الضرائب التصاعدية على الدخل، الحقوق النقابية، الفصل بين الكنيسة والدولة، الاستبدال بالجيش الدائم ميليشيا شعبية، وكذلك استحداث نظام اقتراع عام ومباشر سري وقائم على المساواة.

بالنسبة لللديمقراطيين الاشتراكيين كانت الامتيازات العمالية أمرًا حاسمًا، فقد رأوا أن الكفاح الطبقي هو رافعة التحول الاقتصادي، لكنهم جادلوا بأن هذا الكفاح يمكن خوضه بضحايا وبعنف أقل إذا كانت الطبقات الحاكمة جاهزة للاعتراف بالحقوق الديمقراطية الأساسية، كمشاركة العمال في الانتخابات وفي الحكم.

كما جادلوا أيضًا بأن الثورة لا يمكن فرضها ببساطة، وإنما يمكن أن تظهر فقط كنتيجة للاضطرابات الواسعة في سياق أزمة اقتصادية أو سياسية حادة. كانت مهمة الديمقراطية الاشتراكية «ليس تنظيم الثورة، ولكن الانتظام من أجل الثورة؛ ليس صنع الثورة، ولكن استخدامها»، وهو ما يعني تعليم العمال وبناء الحركة من خلال الكفاح الانتخابي والنقابات والإصلاحات التي أبرزت قوة التضامن العمالي.

إن ما قدمه الماركسيون النمساويون كان مسارًا «معتدلًا» بوضوح، فقد رفضوا «الاشتراكية التدريجية»، أطروحة إدوارد برنشتاين، وكذلك دعوته الاشتراكيين للتحالف مع الليبراليين في البرلمان. وفي نفس الوقت، عارضوا مطالب روزا لوكسمبورج بالحراك السياسي الواسع لقلقهم من أن مثل تلك الممارسات قد تثير صراعًا صفريًا في غير أوانه مع الدولة. وبدلًا من ذلك، رأوا توظيف الأدوات القانونية والمؤسسية القائمة (البرلمان والنقابات والإعلام) لبناء الحركة بأناة إلى أن يستحوذوا على سلطات الطبقة الحاكمة، وإذا حاولت النخب الحاكمة أن تتراجع عن الإصلاحات السياسية والاجتماعية، حينها فقط يجب على الحركة أن تدعم الفعل الثوري كالإضراب السياسي العام.

ولكن ولاء الماركسيين النمساويين للطرق القانونية لم يُقنع خصومهم من الطبقة الحاكمة، فقد كانت الإمبراطورية النمساوية-المجرية نظامًا شبه استبدادي حتى عام 1897، تنكر حقوق العمال، وتحدد سلطات ضئيلة للهياكل التمثيلية التي كانت مفتوحة أمام ذوي الأملاك فحسب، كما رُكّزت السلطة الحاسمة في الجهاز التنفيذي، وسيطرت الرجعية الكاثوليكية على الدولة والمجتمع، كما لم تكن الحريات المدنية مضمونة، وواجهت الحركة العمالية قمعًا مستمرًا. جعل حزب العمال الديمقراطي الاجتماعي قضيته هي الوصول إلى مجتمع مختلف وأكثر ديمقراطية، وهو الأمر الذي سيكون بالغ الصعوبة.


ممارسة السياسة

ألقى كل من هيلفردنج وأدلر ورينر وباور أنفسَهم في أنشطة الحزب بطاقة هائلة. وانطلاقًا من نظرتهم الثقافية كمربين ثوريين، أسسوا «مدرسة المستقبل Zukunft» للعمّال في فيينا عام 1903، ثم بعدها بعام أنشئوا صحيفة «الدراسات الماركسية» التي تولّى تحريرها هيلفردنج وماكس أدلر، حيث تفرغت لدمج النقد الماركسي في مدى متسع من المجالات.

وكطلبة لكارل جرونبرج، أحد الماركسيين الأكاديميين القليلين في أوروبا، فقد رأوا الماركسية كـ «علم اجتماعي يجب تطويره بأسلوب دقيق ومنهجي، من خلال الدراسات التاريخية والسوسيولوجية». خلال سنوات قليلة، وضع كل منهم معاييره الفكرية، كما نشروا العديد من الأعمال القيمة في الاقتصاد السياسي (هيلفردنج)، ومسألة القوميات (باور)، والقانون (رينر)، والفلسفة (أدلر).

وبينما كان ماكس أدلر يمتهن القانون ويركز اهتمامه الأساسي على الكتابة، تنقل رفاقه الثلاثة بين مناصب الحركة. وفي عام 1907، العام الذي حصل فيه العمال الذكور أخيرًا على حق الاقتراع الكامل، أصبح باور سكرتيرًا للوفد البرلماني الأكثر نفوذًا لحزب العمال الديمقراطي الاشتراكي؛ منصب رفيع جعله على تواصل مع قيادة الحزب، كما كتب وحرّر للجريدة اليومية للحزب «العمال Die Arbeiterzeitung»، وشارك مع رينر وأدولف برون في تحرير الجريدة الفكرية «الكفاح Der Kampf». وبينما أصبح رينر أحد أهم برلمانيي حزب العمال الديمقراطي الاجتماعي، انتقل هيلفردنج إلى ألمانيا، حيث مارس التدريس في مدرسة الحزب ببرلين، كما أصبح مدير التحرير بجريدة الحزب الاشتراكي الألماني الأكثر أهمية «إلى الأمام Vorwärts»، كما شارك بانتظام مع الجريدة الفكرية الأكثر انتشارًا للديمقراطية الاشتراكية الأوروبية «العصر الجديد Die Neue Zeit».

أعطت هذه المناصب في الحزب وفي الصحافة الماركسيين النمساويين نفوذًا كبيرًا لهم في نقاشهم في جميع مسائل الحزب من حيث النظرية والممارسة؛ فهم لم يصبحوا زعماء الحركة الفكريين والسياسيين فحسب، بل وصلوا أيضًا إلى عامة الجماهير.

إن محاولة الماركسيين النمساويين توجيه الديمقراطية الاشتراكية نحو مسار سياسي معتدل كانت له نتائج مختلطة. فبينما واصل الحزب والنقابات تطورهم، لاقت آمال الديمقراطية الاشتراكية في الإصلاحات الجوهرية نجاحًا قليلًا، حيث إن الانقسام القومي [ضمن الإمبراطورية النمساوية المجرية] جعل البرلمان عاجزًا. وبعد عام 1910، حطّم الطابع الإقليمي الحزب والنقابات. والأسوأ من ذلك، أن اندلاع الحرب في 1914 ألقى الماركسيون النمساويون أنفسهم في خضم الفوضى.

عارض هيلفردنج على الفور قرار قيادة الحزب الألماني دعم الحرب، واعتبرها خيانة للأممية الاشتراكية، ثم ترك الحزب الاشتراكي الألماني عام 1917 وأصبح زعيمًا للحزب الديمقراطي الاشتراكي الألماني المؤسّس حديثًا والمناهض للحرب. على الناحية الأخرى، دعم باور ورينر الحرب، واعتبراها صراعًا دفاعيًا ضد الرجعية القيصرية. أُسر باور على الجبهة الغاليسية وأمضى ثلاث سنوات معتقلًا في سيبيريا. وفي وقت أصبح فيه كبيرًا جدًا على الخدمة، أصبح رينر زعيمًا للمدافعين عن الجهود الحربية النمساوية، وخاض مع هيلفردنج نزالًا في الصحافة الاشتراكية.

مع ذلك، وبعيدًا عن مسار الأحداث، سرعان ما سيعود الماركسيون النمساويون لنفس المسار السياسي.


مسارات مختلفة

في عام 1910، كتب هيلفردنج في عمله العظيم عن الاقتصاد السياسي «الرأسمال التمويلي Finance Capital» أن الإمبريالية الرأسمالية من المحتمل أن تشعل حربًا قد تطلق «عواصف ثورية»؛ وهو ما حدث بالضبط. فقد أطاحت الثورة الروسية بالقيصرية في الفترة من فبراير/شباط وحتى أكتوبر/تشرين الثاني 1917، وأسّست أول حكومة عمالية في التاريخ الحديث. بعدها بعام انهارت كل من الملكية الألمانية والنمساوية-المجرية أمام الثورة الشعبية. وبحلول عام 1919، ظهرت ألمانيا كجمهورية تقدمية، على الرغم من أنها ما زالت رأسمالية، على رأسها حكومة ديمقراطية اشتراكية. انقسمت النمسا والمجر على أسس إثنية، وظهرت جمهورية نمساوية مستقلة تحت قيادة اشتراكية، تمثلت في كارل رينر كمستشار للجمهورية (رئيس الجمهورية)، وأوتو باور وزيرًا للخارجية.

كارل رينر، النمسا
كارل رينر، أول مستشار للجمهورية النمساوية (1870-1950)

خلال السنوات العاصفة لثورات ما بعد الحرب والثورات المضادة، تبنّى جميع الماركسيين النمساويين بقوة الاعتقاد بأن الاشتراكية يمكن بلوغها في إطار عمل جمهوري برلماني، فدعموا إضفاء الطابع الاجتماعي على الصناعات الرئيسية، وإدخال التخطيط الاقتصادي، وتعميم دولة الرفاه، وكذلك إنشاء مؤسسات جديدة لتمثيل العمال كمجالس المصانع.

وفي نفس الوقت، رفضوا النموذج البلشفي (ديكتاتورية البروليتاريا) المرتكز على المجالس العمالية، معتبرين أن تجريد غير البروليتاريين من حقوقهم السياسية طريق إلى الحرب الأهلية. وخوفًا من الإرهاب الذي استخدمه البلاشفة خلال الحرب الأهلية وتكريسهم للدولة البوليسية، رأوا أن الاشتراكية لا يمكن بناؤها في بلد أقليته من العمال ولا توجد به ديمقراطية. في النهاية، قاوموا الجهود البلشفية لشق الحركة العمالية العالمية إلى «اشتراكيين إصلاحيين» و«اشتراكيين ثوريين»، فقد رأوا أن «الرابطة الأممية الشيوعية» في يد البلاشفة وسيلة للسيطرة، وليست منظمة لإعادة توحيد الحركة العمالية العالمية.

علّق الماركسيون النمساويون آمالهم على أن يظهروا للبقية الباقية في الحركة الاشتراكية وجود سبيل أفضل، من خلال التعليم العام والتنظيم والسبل البرلمانية. انقسمت الحركة في ألمانيا إلى عدوّين: الديقراطية الاشتراكية والأحزاب الشيوعية، إلى أن عاد هيلفردنج إلى الحزب الاشتراكي الألماني وساعده على أن يصبح الحزب الأكبر في البرلمان، كما دعم دخول الحزب في تحالف حكومي مع الأحزاب المدنية والأحزاب غير الاشتراكية كوسيلة لدعم الإصلاحات المناصرة للعمال.

بالنسبة لباور في النمسا، فقد اتخذ طريقًا آخر، حيث أصبح زعيم الحزب الحاكم، وببراعة تبنى موقفًا راديكاليًا جنّب الحزب الانقسام. لكن على عكس هيلفردنج ورينر، عارض باور المشاركة في حكومة وطنية إلى أن يحوز الاشتراكيون الأغلبية المطلقة.

المفكر والسياسي الاشتراكي النمساوي أوتو باور (1881-1938)

بحلول عام 1928، في بلد يسكنه ستة ملايين مواطن، كان بإمكان الاشتراكيين التباهي بـ 600 ألف عضو، وبأربعين بالمائة من أصوات الناخبين. نعم ظلوا في المعارضة واضطروا للتنازل عن السلطة للحزب الاشتراكي المسيحي المحافظ، ولكن على جميع التقديرات بدت الحركة العمالية صاعدة ونابضة بالحياة، وكانت ما تزال زهرة تاجهم، فيينا الحمراء، صامدة.


فيينا الحمراء

كانت «فيينا الحمراء» [وصف أطلق على مدينة فيينا بين عامي 1918 و1934 حيث كانت الأغلبية في المدينة تصوّت لصالح الحزب الديمقراطي الاشتراكي] هي التجلي الهجين للثورة الإصلاحية للماركسيين النمساويين، فمن أجل الاقتراع العام المطلق في العاصمة، استخدم حزب العمال الديمقراطي الاشتراكي نفوذه على الحكومة المحلية لتحسين ظروف المعيشة لعامة الناس ولتدشين الدعم الجماهيري. فقد كانت السنوات التي تلت العام 1918 مباشرة سنوات صعبة على معظم النمساويين؛ تضخم متسارع وبطالة عامة ونقص في الغذاء وندرة في الإسكان الحضري ضربت أنحاء البلاد، كما ظلت حياة العمال صعبة حتى بعد تحسن الوضع في منتصف عشرينيات القرن العشرين.

استجابت حكومة فيينا لهذه الكوارث ببرنامج استثمار ضخم – دُفع ثمنه من خلال الضرائب التصاعدية على السلع الترفيهية والبضائع وكذلك الخدمات والملكية الخاصة – لتطوير البنية التحتية الحضرية، ودعم التوظيف، وبناء إسكان عام. فبين عامي 1923 و1934، أنشأت المدينة أكثر من 60 ألف وحدة سكنية، من بينها «بلدية كارل ماركس»، وهو مشروع مكون من 1400 وحدة سكنية يوفر للسكان الولوج لمجموعة من الخدمات كالمدارس والمساحات الخضراء. كذلك وفّرت المدينة عناية صحية شاملة، ونقلًا عامًا كفؤًا، وقطاعًا واسعًا من الخدمات الاجتماعية. وفي نفس الوقت، بنت أماكن عامة شملت المتنزهات وأحواض السباحة والمكتبات.

في نفس الوقت، استهدف الاستثمار في التعليم العام والإصلاحات التربوية والإعانات المقدمة لشبكة واسعة من المؤسسات الثقافية العمالية، إثراءَ حياة العمال، وإعدادَهم للمستقبل الاشتراكي، وحشدَ الدعم المحلي لحزب العمال الديمقراطي الاشتراكي في صورة عداء متزايد للحكومة القومية.

تجسّدت هذه الأهداف أيضًا في قوة الدفاع شبه العسكرية لحزب العمال الديمقراطي الاجتماعي، وكذلك في منظمة الحماية Schutzbund ذات الانتماء الجمهوري، وفي رابطة العمال للرياضة والثقافة الجسدية. فبينما هدفت «منظمة الحماية» إلى حماية الجمهوريين من الملكيين والميليشيات الفاشية التي شكلت تهديدًا متصاعدًا، كان مسعى الأخيرة هو تشجيع اللياقة البدنية وغرس القيم الاشتراكية من خلال دعم مجموعة متنوعة من الرياضات تشمل كل شيء من الجمباز إلى الجودو. سعت الرابطة لمحاربة الفردية والمنافسة والنزعة التجارية، ودعمت الأنشطة الجماعية والمنافسة الودية.

وتماشيًا مع الجهود طويلة المدى للحركة الاشتراكية لبناء ثقافة بديلة، نُظّمت دورة ألعاب أوليمبية عمالية ترفض قومية «الأولمبيات البورجوازية»، وتحثّ العمال في المقابل على «التجمع سويًا كإخوة وأخوات تحت راية الاشتراكية». مع مرور الوقت، أصبحت الرابطة أكثر ارتباطًا بمنظمة الحماية الجمهورية، وأصبحت التدريبات الرياضية والعروض العامة أكثر عسكرية بشكل متزايد. لقد أصبحت الرابطة وعلى رأسها أكثر من 300 ألف عضو أكبر منظمة رياضية للعمال في العالم، وجسّدت جنبًا إلى جنب مع منظمة الحماية الجمهورية قوة الحركة العمالية.


مواجهة الفاشية

كشف الماركسيون النمساويون القوة التنظيمية الباهرة للحركة، وفازوا في الإصلاحات السياسية والاجتماعية، ونظر الاشتراكيون في كل مكان بإعجاب إلى مدينة العمال التي أنشئوها، وحاولوا إجراء إصلاحات مشابهة أينما استطاعوا. وفي منتصف عشرينيات القرن العشرين، اعتبر الماركسيون النمساويون هذه المكاسب أساسًا آمنًا للتقدم نحو المستقبل،كما اعتقدوا أن التاريخ كان في صفهم.

مع بروز الرأسمالية الاحتكارية، ظنّ الماركسيون النمساوييون أن النظام الاقتصادي سيكون أقل عرضة للكوارث، وبالتالي سيكون من السهل احتواؤه تحت السيطرة الاشتراكية الديمقراطية في المستقبل، ومن هنا كان الانهيار الاقتصادي عام 1929 وبروز الفاشية كحركة جماهيرية صدمة لم يكونوا مُستعدين فكريًا أو عمليًا أو نفسيًا للتعامل معها.

وكمعظم المنظرين الماركسيين في هذه الأيام، لم يكن للماركسيين النمساويين أي استجابة فعّالة للركود الاقتصادي المفتقد لـ «الثورة»، بل اقترحوا بدلًا من ذلك سياسات تقليدية مثل الميزانية المتوازنة والتقشف لتصحيح مسار السفينة الرأسمالية. وعندما فشلت هذه السياسات، تراجعوا عنها على أمل أن يتلاشى الركود قريبًا وأن يتعافي الاقتصاد مطيحًا بأشرعة الفاشية السياسية.

على الجانب العملي والسياسي، كان إصرار الماركسيين النمساويين على الالتزام بالقواعد الدستورية والبرلمانية يتركهم عاجزين في مواجهة الأعداء، كالحزب النازي في ألمانيا والفاشية الدينية في النمسا التي «التزمت» بالوسائل البرلمانية وفي نفس الوقت مارست العنف في الشوارع. وعندما ناسبتهم اللحظة، كانوا مستعدين للتخلص بلا مواربة من القواعد الجمهورية الليبرالية، في حين كان الاشتراكيون مترددين وفي حالة من الشلل، يواجهون صراعًا دمويًا عامًا واندلاع حرب أهلية خشوا من افتقادهم القدرة على كسبها.

عندما حكم الفاشيون – أولًا في ألمانيا عام 1933، وبعد عام في النمسا – كانوا قادرين على إبادة اليسار المنظم وكذلك الاشتراكيين والشيوعيين بسهولة مروعة. حتى عندما لجأ الاشتراكيون لحمل السلاح كما حدث في النمسا، لم يستغرق الأمر بضعة أيام حتى سحقتهم الدولة.


الإصلاح والثورة

أوتو باور، النمسا
أوتو باور، النمسا

دفع أغلب قادة الماركسيين النمساويين ثمنًا فادحًا لفشلهم. فبينما نجا رينر من الرايخ الثالث ليصبح أول رئيس للجمهورية النمساوية الثانية، هرب هيلفردنج وباور إلى المنفى، حيث حاولوا عبثًا أن يستأنفوا القتال. توفي باور في باريس عام 1938، واعتقلت حكومة فيشي الفرنسية [الحكومة الموالية للنازيين بعد احتلال النازيين فرنسا] هيلفردنج في آرل في أول فبراير/شباط 1941 وسلمته للنازيين، حيث انتحر في سجن الغوستابو بعدها بفترة قصيرة.

إن نهاية الماركسيين النمساويين المأساوية هوّلت من مصاعب ربط الإصلاح الاشتراكي بالممارسات اليومية التي تربط الإصلاح بالثورة. وككل الاشتراكيين الديمقراطيين في تلك الفترة، فشل الماركسيون النمساويون في ربط استنتاجاتهم الراديكالية مع مطالبهم الآنية. لم يكن هنالك نقاش حول الاستراتيجيات والتكتيكيات التي ستضع الحزب على طريق السلطة، أو حول الأسلوب الذي يمكن توظيفه للدفاع عن التقدم الديمقراطي أمام القوى غير الديمقراطية. كان هنالك فقط الفرضية القائلة بوجوب دفع الطبقات الحاكمة ثمنًا غاليًا لعدم احترامها لحقوق العمال، بينما يتولى الحزب السلطة ويحوّل المجتمع دون توظيف للفعل الجماهيري.

لا ينبغي للاشتراكيين ذوي النزعة الإصلاحية الوقوع في نفس الخطأ هذه الأيام.