وذكر لي من جاء بعدهم رجل أندلسي من بلاد الثغر اسمه فَلِشْ: أن كُتَّاب الديوان السلطاني بمذريل (مدريد) قالوا: بلغ نهاية جميع الأندلس بصغارهم ثمان مائة ألف مخلوق؛ أكثرهم خرجوا بتونس.
أفوقاي على الحدود الفرنسية الإسبانية في العام 1611م

المورسكي في فرنسا القرن السابع عشر!

في العام 1609م صدر أمر الملك فيليب الثالث (1578 – 1621م) ملك إسبانيا بطرد المسلمين المورسكيين من الأندلس بالكلية، وهو القرار الأليم الذي لا تزال أصداؤه ماثلة حتى يومنا هذا. لقد ظل قرار الطرد ساريًا منذ ذلك العام ولمدة عامين آخرين حتى كان آخر من خرج من الأندلسيين في العام 1611م.

ولما كانت وسائل النقل قليلة لعدد الأندلسيين الذي بلغ ثمانمائة ألف مُهجّر في بعض التقديرات كما يقول شهاب الدين أحمد الحجري المورسكي المعروف بأفوقاي نقلاً عن أحد عمال الديوان الملكي الإسباني في مدريد، أو على أقل تقدير ثلاثمائة ألف مُهجّر، وقد خرج هؤلاء على عجلة من أمرهم لا يحملون معهم إلا ما خف وزنه وعظمت قيمته، فقد طمع فيهم البحّارة الذين نقلوهم من الأندلس إلى تونس والمغرب والجزائر، وصار النهب مأساة أخرى لا تقل بشاعة عن مأساة الطرد والتهجير القسري من الوطن الأم.

لقد جاء عدد من هؤلاء المورسكيين المنهوبين إلى سلطان الأشراف السعديين في المغرب السلطان مولاي زيدان بن المنصور أحمد السعدي في العام 1020م/1611م يطلبون منه أن يُرسل سفارة من قبله إلى أحد الأندلسيين القاطنين في فرنسا كي يرسلوا شكواهم إلى قاضي الأندلسيين في فرنسا لإعادة الحقوق المسلوبة، خاصة أن مُلاك هذه السفن كانوا من فرنسا وهولندا، وكانت علاقات فرنسا الدبلوماسية قوية مع العثمانيين والمغاربة آنذاك، الأمر الذي قبله سلطان السعديين، وأصدر قراره بسفر هذه السفارة المكونة من خمسة رجال منهم المورسكي المترجم أفوقاي شهاب الدين الحجري، الذي كان قد أثبت جدارته في الديوان السلطاني السعدي بثقافته الواسعة، وتمكنه من اللغات القشتالية والبرتغالية.


من باريس إلى بوردو

انطلقت بهم الرحلة من مدينة أسفى على المحيط الأطلنطي واستمرت باتجاه الشمال مدة شهر حتى وصلت إلى ميناء هافر الواقع على بحر المانش، ومنها انطلقوا إلى مدينة روان ثم إلى مدينة باريس التي يقول عنها أفوقاي: «هي دار سلطنة الفرنج، وبينها وبين مدينة روان نحو الثلاثة أيام … بيوتها عالية، وكلها عامرة بالناس، وديار الأكابر مبنية بالحجر المنجور إلا أنه بطول الزمن يسود لون الحجر. وتقول النصارى: إن أعظم مدن الدنيا القسطنطينية، ثم مدينة بَرِيش ثم مدينة أشبونة ببلاد الأندلس. وكان من حقهم أن يذكروا مصر إلا أنهم يقولون لها القاهرة الكبيرة، وإذا جمعنا مع مصر مصر العتيق وبولاق وقايتباي لم ندر من هي أعظم بريش أو مصر بما ذكرنا؟!».

قدم الوفد المغربي المورسكي عريضة الدعوى إلى الديوان الحكومي الفرنسي.

في باريس قدم الوفد المغربي المورسكي عريضة الدعوى إلى الديوان الحكومي الفرنسي، وكانت فرنسا آنذاك تخضع لحكم الملك لويس الثالث عشر (1601 – 1643م).

تسلم الوفد المغربي تصريحًا بالإقامة السفر إلى مقابلة قاضي الأندلسيين، وهو القاضي الفرنسي الذي كان قد عينه الفرنسيون لحل المشاكل العالقة بين فرنسا والمورسكيين، وكان مقر إقامته الدائم على ما يبدو من نصّ أفوقاي مدينة بُوردو في جنوب غرب فرنسا، وهي المقاطعة التي لا تزال على الحدود الإسبانية الفرنسية، ولما وصل أفوقاي إليها علم أن القاضي ذهب إلى آخر قرية فرنسية على الحدود مع إسبانيا وهي قرية يُسميها «سان جوان ذلز saint jean du luz»، التي كان قد هُجّر إليها عدد من المورسكيين الذين كانوا يقطنون بالقرب من الحدود الفرنسية الإسبانية، يقولُ: «فمشيتُ إليه، وذلك عام عشرين وألف (الموافق 1611م)، وكانوا فيه آخر من خرج من الأندلس، وذكر لي من جاء بعدهم رجل أندلسي من بلاد الثغر اسمه فَلِشْ: أن كُتَّاب الديوان السلطاني بمذريل (مدريد) قالوا: بلغ نهاية جميع الأندلس بصغارهم ثمان مائة ألف مخلوق؛ أكثرهم خرجوا بتونس».

رأى شهاب الدين الحجري في بُوردو البضائع المورسكية المنهوبة لكن القاضي الفرنسي لم يُسلم إليه تلك المنهوبات التي يُسميها أفوقاي «الحوايج»، الأمر الذي اضطرهم إلى الرجوع إلى باريس؛ «نطلبُ أمر السلطان أن يدفعوا لنا حوايجنا، وولى أيضًا قاضي الأندلس إلى بَريش».


المورسكي التقيُّ!

وفي الديوان الحكومي أعادوا استخراج التصريح من أعلى جهة حكومية، يقول شهاب الدين: «أعطوني كتاب السلطان بطابع الديوان الكبير للحُكّام على كافّة الدواوين التي ببلاد الفرنجة والأمر أن جميع ما يحد من نهب الأندلس أن يدفعوه لي». وهنالك علم أفوقاي من أحد القادة العسكريين أن هذا النهب في بلدة أولونة في الجنوب الفرنسي، لذا فقد عزم على السفر إليها مع بقية الوفد المورسكي المغربي.

وفي أولون نزل أفوقاي والوفد في بيت قائد المدينة، وهو رجل من أثرياء القوم، وقد وصف أفوقاي بيته ورغد عيشه، بل إن نساء تلك المدينة قد جاءت لترى هؤلاء المسلمين الذين كانوا يُطلقون عليهم أتراكًا، على أن أفوقاي وقع في حب فتاة في الرابعة والعشرين من عُمرها قريبة لذلك القائد، كانت جميلة ثرية، ولما كانت العادة أن النساء في العالم الإسلامي لا تنكشف على الرجال إلا بعد الزواج، وأنه رأى عكس ذلك في فرنسا، فقد كان يذكر لأصحابه «بعض الحكايات فيما وقع للرجال الصلحاء الواقفين على الحدود؛ لنقويهم على نفوسهم ونفسي على دعاوي النفس والشيطان في شأن المحرّمات؛ لأن بسبب الحريم المكشوف كان الشيطان يوسوسنا كثيرًا وكنا صابرين، وكانت البنتُ تُزيّن نفسها». لكن هذا الحب الذي كاد أن يكون وقوعًا في المحذور سرعان ما هرب منه المورسكي التقي إلى مدينة بُوردو، وبعد عام ونصف من التنقل في المدن الفرنسية تمكن أفوقاي أخيرًا من استعادة منهوبات مورسكيّ الحجر الأحمر أهل جنوبي غرناطة التي كانت تحت تحفظ السلطات الفرنسية في مدينة بُردو التي يُسميها “برضيوش”.

ومن ثم انتقل شمالاً إلى باريس العاصمة، ليستكمل الجزء الثاني من مهمته في هولندا، لكنه في باريس هذه المرة رأى أمرًا لافتًا، يقول: «رأيتُ امرأتين تُركيتين؛ إحداهما عجوزة والأخرى من نحو أربعين سنة، وهي مشغولة بالأشغال العجيبة للسلطان. وكانت النساء جميعًا تتعجبن من حسن شغلها، وكانت تأخذُ من عند السلطانة كل يوم ريالة كبيرة، وسألتها عن السبب الذي جاءها من بلاد المسلمين إلى بلاد الفرنج قالت: كُنّا في البحر قاصدين الحجّ وأخذنا النصارى وأتوا بنا إلى البندقية، وكتب رسول سلطان فرنجة وأعلم السلطان بشغلها، وبعثت له يرسلنا إليها».

لقد اعتنقت هذه المرأة المسيحية لكن أفوقاي أعاد على سمعها، كما يروي، «ما ألهمني الله في أمور الأديان، وأنه لا ينجو الآن أحد إلا في دين الإسلام، وأتيتُ لها ببراهين على ذلك. وهي كانت تقرأ بالعربية والعجوز كذلك قالت: إنها كانت من الدار الكريمة للسلاطين بإصطنبول. ونادتني يومًا، وبعد الطعام العجيب، قالت لي: أطلبُ منك حاجة لوجه الله تعالى، قلتُ لها: اذكري حاجتك. قالت لي: تدبر علي لنمشي إلى بلاد المسلمين. قلت لها: وتسمح لك السلطانة في الانتقال؟، قالت: ما تسمح لي أبدًا. قلتُ لها: إن شاء الله أدبر عليكما حتى ترجعا».

انتقل أفوقاي والوفد المرافق له من باريس إلى روان إلى ميناء هافر على بحر المانش لاستكمال هدف سفارتهم إلى هولندا شمالاً، يقول: «وكنّا في مرورنا ذاهبين إلى جهة القطب الشمالي وبلاد فرنجة عن يميننا، وبلاد الإنجليز عن يسارنا، ونَــرَوْ البـرَّين في بعض المواضع».


اعتزاز المورسكيّ بالعثمانيين

في أولونا وقع أفوقاي في حب فتاة في الرابعة والعشرين من عُمرها قريبة لذلك القائد.

يبدو أن السلطات الفرنسية سهّلت مهمة الوفد الدبلوماسي المغربي المورسكي لأمر مهم، لا يتجلى فقط في العلاقات المغربية الفرنسية الجيدة آنذاك، وإنما للعلاقات الإستراتيجية التي كانت تربط الدولة العثمانية بفرنسا من القرن السادس عشر الميلادي، فقد كان العثمانيون منذ السلطان سليمان القانوني في تحالف مع الفرنسيين لضرب آل هابسبورج في النمسا، وملوك إسبانيا، وأطماع البنادقة، وكلها كانت أهدافًا مشتركة بين الفريقين، هذا فضلاً عن قوة العثمانيين في البحر المتوسط وجنوب البحر المتوسط آنذاك، ويبدو من نص أفوقاي أن العثمانيين قد أوصوا الفرنسيين بالاهتمام بالقضية المورسكية، يقول أفوقاي: «وكل واحد من السلاطين النصارى يرتعد ويخاف من سلاطين الإسلام والدين، المجاهدين في سبيل رب العالمين، وهم السلاطين الفضلا العظما العثمانيون التركيون».

هذا الارتعاد والخوف من سلاطين أوروبا مبعثه الأساسي ذلك التوغل العثماني الخطير في شرق ووسط القارة الأوربية.

هذا الارتعاد والخوف مبعثه الأساسي ذلك التوغل الخطير في شرق ووسط القارة الأوربية، وتلك الهزائم الماحقة التي أنزلها العثمانيون بالأوربيين حتى ذلك الحين، فـ «كل واحد منهم يبعثُ رسوله ليقعد على الدوام والاستمرار في القسطنطينية العظمى يطلب منهم الصلح والرضى عنهم، وهم – نصرهم الله، وخلّد ملكهم، وجعل النصارى والكفّار الأعداء تحت أقدامهم – لا يبعثون رسولاً لكافر على وجه القعود في بلادهم، وصح أن سلطان إشبانية –وهي بلاد الأندلس– أراد أن يبعث رسولاً للقعود مثل سائر ملوك النصارى ولم يقبلوه؛ لما تحققوا من عداوته للإسلام، وغدره فيما مضى».

وفي الحلقة القادمة من هذه الرحلة سنقف مع مناظرات أفوقاي مع القساوسة والأحبار وبعض المستشرقين في كل من فرنسا وهولندا، وكيف تمكن بعد عامين من خروجه من المغرب من إنجاح المهمة الدبلوماسية التي أوكل بها، والعودة بمنهوبات المورسكيين.

المراجع
  1. رحلة أفوقاي الأندلسي، تحقيق محمد رزوق، دار السويدي للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى – أبو ظبي، 2004م.
  2. إدريس الناصر رائسي: العلاقات العثمانية الأوربية في القرن السادس عشر، دار الهادي، الطبعة الأولى – بيروت، 2007م.
  3. كليا سارنلي تشركو: الحجري في فرنسا، تعريب عبد الجليل التميمي، ضمن أعمال المؤتمر العالمي الثالث للدراسات الموريسكية الأندلسية حول تطبيق المورسكيين الأندلسيين للشعائر الإسلامية، إشراف عبد الجليل التميمي – زغوان، تونس 1991م.