لـمّا بلغنا في «دكّالة» إلى سوق كبير، أمر القائد بخديمه أن يركب معي في السوق، فلما أن دخلنا فيه جاء المسلمون يسألون الخديم عني، قال لهم: هو مسلم. فجاءوني من كل جانب وهم يقولون لي: شهد! شهد! وأنا ساكت حتى ألحّوا علي وكثروا في ذلك، قلتُ: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله.

أفوقاي الأندلسي متحدثًا عن نفسه حين قابله المغاربة في سوق دكّالة!

وقفنا في مقالنا السابق عند بعض ثقافة الشاب ابن القاسم الحجري «أفوقاي» حين تمكن من فك طلاسم الرق المكتوب بالعربية، والذي لم يتمكن كبار المترجمين الأندلسيين ممن سمح لهم الإسبان بالترجمة من العربية إلى الإسبانية فضلاً عن القساوسة، وهو رق قديم كُتب قريبًا من زمن عيسى ابن مريم عليه السلام كما يقول الحجري، ويُبشّر بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.


الأوضاع الإقليمية

طريق الهجرة والخروج من الأندلس آنذاك كان مخاطرة شديدة، فقد كانت محاكم التفتيش بالمرصاد لكل «مدجّن» أو «مورسكي» لا يزال على دينه.

لقد كان أفوقاي عازمًا على مغادرة الأندلس «والهجرة إلى ديار المسلمين» كما يقول، ويبدو من نص مذكراته أن والديه كانا قد سبقاه إلى العدوة المغربية، لكن طريق الهجرة والخروج من الأندلس آنذاك كان مخاطرة شديدة، فقد كانت محاكم التفتيش بالمرصاد لكل «مدجّن» أو «مورسكي» لا يزال على دينه: الإسلام، بصورة ولو بعيدة، فضلًا عن أن يزمع بالمغادرة من الأندلس، فذلك العام 1599م/1007هـ كانت إسبانيا قد تولى حكمها الملك فيليب الثالث ابن الملك فيليب الثاني منذ عام، وكان فيليب الثالث قد عزم على سياسة أشد قسوة من سلفه تجاه المورسكيين، وهو الذي ظهر في قرار الطرد فيما بعد، لكن الظروف آنذاك لم تواته لانشغاله بالصراعات المذهبية والسياسية مع عدد من دول أوروبا الغربية كفرنسا وهولندا وانجلترا التي كانت تدين بالبروتستانتية بخلاف إسبانيا الكاثوليكية، وهي الصراعات التي كانت قد حدّت من القوة الإسبانية حين انهزم أسطولها في معركة الأرمادا الشهيرة في بحر الشمال قريبًا من الجزر البريطانية في العام 1588م.

في الجهة الجنوبية كان المغرب الأقصى حينئذ تحت حُكم الأشراف السعديين (1554 – 1659م/961 – 1069هـ)، وبالتحديد يُحكم بسلطانهم الذهبي مولاي المنصور أحمد بن محمد السعدي (1580 – 1603م/986 – 1012م)، ذلك الرجل الذي تمكن من اللعب على أطراف الصراع الدولي بين كل من الإسبان من جهة والهولنديين والبريطانيين والفرنسيين من جهة أخرى، فضلًا عن علاقاته الجيدة بجيرانه العثمانيين في الجزائر. وكانت سياسته تجاه القضية المورسكية هي الدفاع عنهم في المحافل الدولية، وطالما سعى لتقديم مساعدة للمورسكيين داخل إسبانيا ذاتها، وتسهيل سُبل انتقالهم إلى المغرب، وفتح مجالات السعة والارتزاق. هذا من جهة، ومن جهة أخرى كان اتجاه المنصور السّعدي إلى كافّة الدول التي تُناوئ المملكة الإسبانية قصدًا منه لتحرير الثغور المغربية التي كانت تقع تحت الاحتلال الإسباني والبرتغالي، وهكذا تمكن المنصور من استرداد مدينة أصيلا كمساومة منه للملك الإسباني فيليب الثاني خشية من هذا الأخير أن يدخل المنصور في تحالف مع الانجليز فتختل مكانة إسبانيا بالكلية.


أفوقاي هاربًا

في ظل تلك الصراعات الدولية، كانت المراقبة الإسبانية على المورسكيين شديدة الوطأة، لذا لم يكن أمام المورسكي أفوقاي إلا أن يضع خُطة للهرب، وهكذا قادته هذه الخطة إلى أن يتجه من غرناطة شرقًا إلى إشبيلية غربًا ومنها اتجه جنوبًا إلى ميناء «سانتا ماريا» على السواحل الإسبانية الجنوبية، خلافًا للطريق المألوف من غرناطة إلى مالقة أو بلنسية أو غيرها من الموانئ القريبة التي كان يسهل على السلطات الإسبانية أن تعتقل فيها من تشك فيه من المورسكيين.

حين وصل أفوقاي إلى إشبيلة عرّج على قسيسها الكبير، وكان قاضيًا لغرناطة من قبل، ومُقدّرًا لجهود الأندلسيين المورسكيين فيما يبدو من حديثه، فقد حاول أن يرفع الأذى عنهم، لكنه فشل حين أمر الملك فيليب الثاني بقتل عدد من كبارهم طمعًا في ثرواتهم، لكنه يُضيف إلى أفوقاي قائلًا: «أنتُم الأندلُس فيكم عادة غير محمود، قلتُ ما هي؟ قال: إنكم لا تمشون إلا بعضكم مع بعض، ولا تُعطون بناتكم للنصارى القدما، ولا تتزوجون مع النصرانيات القُدما. قلتُ (أي أفوقاي): لماذا نتزوج النصرانيات القدما وكان بمدينة أنتقير (مدينة قريبة من مالقا جنوب غرناطة) رجلًا من قرابتي عشق بنتًا نصرانية، ففي اليوم الذي مشوا فيه بالعروسة إلى الكنيسة ليتم النكاح احتاج يلبس العروض الزند المهنّد من تحت الحوايج (أي الملابس العسكرية والسيف فوق ملابس العرس)، وأخذ عنده سيفًا لأن قرابتها حلفوا أنهم يقتلونه في الطريق، وبعد أن تزوّجها بسنين لم يدخل إليها أحد من قرابتها، بل يتمنون موته وموتها، والنكاح لا يكون ليتخذ به الإنسان أعداءً بل أحبابًا وقرابة. قال لي: والله إنك قلتَ الحق، وتودّعنا بالخير وذهبتُ».

من البديهي أن نعرف من خلال هذا السياق أن المورسكيين كانوا مجبورين على عادات الملبس والزواج والأكل الإسبانية، لذا كان أفوقاي في الأندلس وحتى وصوله المغرب لا يتكلم إلا بالإسبانية التي يُسميها الأعجمية، ولا يلبسُ إلا ملابسهم، لذا حين وصل إلى ميناء سانتا ماريا كان يبدو إسبانيًا خالصًا؛ لغة وملبسًا، وكان مع رفيق مورسكي آخر لم يدلنا على اسمه، لكنه عزم على الهجرة إلى ديار الإسلام ليتمكن من استظهار دينه.

في الميناء ركب المورسكيان سفينة إسبانية متجهة إلى إحدى المدن المحتلة في بلاد المغرب من قبل الإسبان، وكان الإسبان والبرتغاليين قد أمّنوا أنفسهم باحتلالهم لعدد من المدن الساحلية مثل مليلة وأصيلا وطنجة والجديدة وغيرها على سواحل البحر المتوسط والمحيط الأطلسي لتكون خط الدفاع الأول عن إسبانيا والبرتغال إذا فكر المغاربة في إعادة الكرَّة لاستراداد الأندلس، وهي الاستراتيجية التي لا تزال قائمة حتى اليوم باحتلالهم لمدينتي سبتة ومليلة في الشمال المغربي. ومن ثم، وبعد عدة أيام، نزل أفوقاي ورفيقه إلى مدينة البريجة، وتُسمى اليوم «الجديدة» على الساحل الأطلسي، وداخل أسوار هذه المدينة سألهم نائبها الإسباني عن سبب قدومهم واستقرارهم، فقال أفوقاي: «وقع لنا شيء من التغيير مع أناس ببلاد الأندلس وجئنا إلى حُرمتكم. قال: مرحبًا بكم». وإمعانا من ابن القاسم الحجري في استخدام الحيلة، موهمًا القائد الإسباني بأنه ربما سيعود إلى الأندلس قريبًا، رجا منه أن يأذن برجوعهم إذا أحبوا ذلك، وهو الشرط الذي وافق عليه القائد بالطبع.


فرحة المغاربة بأفوقاي!

كان أفوقاي في الأندلس وحتى وصوله المغرب لا يتكلم إلا بالإسبانية التي يُسميها الأعجمية، ولا يلبسُ إلا ملابسهم، لذا حين وصل إلى ميناء سانتا ماريا كان يبدو إسبانيًا خالصًا.

وفي البريجة (الجديدة) -وهي مدينة أقرب مدن المسلمين إليها هي أزمور شمالاً على مسافة ثلاثة أيام للراكب– حاول الرفقاء الهرب برًا حين استعدوا بشراء حصان جيد، لكن لم يتمكنوا من ذلك، فقد كانت العادة أن تفتح أبواب المدينة نهارًا فيخرج الإسبان للتنزه والبيع والشراء وقضاء الحاجات وربما الزراعة في المناطق المحيطة، ثم يغلقون أبواب المدينة في بداية قدوم الليل فينبهون الخارجين إلى ذلك بالأبواق وآلات التنبيه الأخرى. كانت خطة الرفقاء الهرب ليلًا، ففي النهار سيكتشف الحراس على الطريق هروبهم وستتمكن الحامية العسكرية من القبض عليهم، أما بالليل فيسهل عليهم ذلك، لكن أحد الرفقاء تأخَّر، الأمر الذي جعل الإسبان يكتشفون تأخرهم، فاضطر أحدهم أن يمثل دور المصروع، فأدخلوه إلى المدينة ومن ثم نادوا قسيسًا يصلي عليه فقد ظنوا أنه مات، لكن المورسكي رفيق أفوقاي نهض فظن الناس أنه أفاق ببركة القسيس، وبالرغم من ذلك ظلت الشبهات تحوم حولهم، الأمر الذي اضطر أفوقاي أن يأخذ قرار العودة إلى الأندلس مرة أخرى خشية من غدر الإسبان!

تسلم قائد مدينة أزمور المورسكيان، وأول ما ابتدرهما به كان سؤاله عن دينهما، وهل يتكلمان العربية؟ وهل يكتبان بها؟ وقد جاوب أفوقاي على كل تلك الأسئلة.

خرج أفوقاي وصديقه إلى مركب راسٍ كي يقلهم إلى السفينة التي ستعود بهم إلى الأندلس، لكن لحسن حظهم تأخر الملاح، فاستغل الرجلان الفرصة فهربا مجدفين حتى ابتعدا عن المدينة إلى غابات قريبة، وفي تلك الغابات سمع الرجلان صوت المدافع علامة على الاستنفار العسكري للحامية العسكرية التي اكتشفت هروبهما، ومن ثم تتبعت أثرهما، تلك الأصوات التي سمعها المغاربة في مدينة أزمور القريبة، حتى أرسل قائدها رسولًا من عنده إلى القائد الإسباني، الذي بادره بسؤاله عن رجلين هربا، فأقر الرسول بوجودهما في أزمور، كي يحبط سعي الإسبان في البحث عنهما، الأمر الذي كان من حسن حظ المورسكيين!

ولمدة ثلاثة أيام سعى المورسكيان إلى اللحاق بالمسلمين في أزمور، لكنهما فشلا لكونهما غريبين، حتى إن أفوقاي يقول إنهما رجعا إلى قريب من الإسبان دون دراية منهما، وفي اليوم الثالث، قررا الصعود إلى جبل، وكان من حسن حظهما أن رآهما فلاحون من المسلمين المغاربة، فحاصروهما ظنا منهم أنهم من الإسبان!

تسلم قائد مدينة أزمور المورسكيان، وأول ما ابتدرهما به كان سؤاله عن دينهما، وهل يتكلمان العربية؟ وهل يكتبان بها؟ وقد جاوب أفوقاي على كل تلك الأسئلة، ويبدو أن القائد أرسل خبر هذين المورسكيين إلى السلطان السعدي في عاصمته مرّاكش، فطلب منه أن يأتي بهما إليه في عيد الأضحى.

انطلق القائد بالرجلين، فمر بمدينة دكّالة ونختم مقالنا عند هذا المشهد الذي يختزل علاقة المغاربة بإخوانهم المورسكيين آنذاك، وكيف استقبلوهم بالحفاوة والترحاب، قال أفوقاي: «لـمّا بلغنا في دكّالة إلى سوق كبير، أمر القائد بخديمه أن يركب معي في السوق، فلما أن دخلنا فيه جاء المسلمون يسألون الخديم عني، قال لهم: هو مسلم. فجاءوني من كل جانب وهم يقولون لي: شهد! شهد! وأنا ساكت حتى ألحّوا علي وكثروا في ذلك، قلتُ: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله. قالوا: والله إنه قالها خير منا، ثم مشوا وأتوا بتمر وغير ذلك مما كانوا يبيعونه وفضة دراهم. قلتُ لهم: لا أطلبُ منكم شيئًا من ذلك. فلما ولينا عند القائد قال لي: ما ظهر لك؟ قلتُ: الحمدُ لله إذ لم نرَ عدوًا في هذه الناس؛ لأن في بلاد النصارى (إسبانيا) لم نر فيها في الأسواق إلا أعداء لنا يمنعوننا من الشهادتين جهرًا، والمسلمون يُحرّضونني عليها. وفرحوا جميعًا حين سمعوا مني ذلك».

تلك هي مشاعر اللقيا بين مورسكي غامر بنفسه وحياته ليحيا بين بني دينه في المغرب، وبين أولئك المغاربة الذين أغدقوا عليه مما يملكونه من طعام ومال فرحًا بلقاء رجل جاء برائحة الاندلس المسلمة، وفي مقالنا القادم والأخير سنقف مع أفوقاي سفيرًا من سلطان المغرب إلى فرنسا وهولندا نصرة للقضية المورسكية، ودفاعًا عن حقوق ضعفائها المهجّرين.

المراجع
  1. 1. رحلة أفوقاي الأندلسي، تحقيق محمد رزوق، دار السويدي للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى – أبو ظبي، 2004م.
  2. 2. تاريخ الدولة السعدية لمجهول، تحقيق عبد الرحيم بنحادة، عيون المقالات للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى – مراكش، 1994م.
  3. 3. محمد رزوق: الأندلسيون وهجراتهم إلى المغرب خلال القرنين 16 -17، أفريقيا الشرق للنشر، الطبعة الثالثة، 1998م.
  4. 4. لويس كاردياك: المورسكيون الأندلسيون والمسيحيون، المجابهة الجدلية، المجلة التاريخية المغربية، الطبعة الأولى – الجزائر، 1983م.