أكثر ما يشد الانتباه إلى «الحاج إبراهيم باشا» -كما تسميه حجج أوقافه التي أنشأها في مصر المحروسة- أنه عندما وقف أملاكه في سنتي 1236ه/1821م، و1239ه/1823م، عندما كان واليًا على «بندر جدة» بالحجاز، وكان في الثانية والثلاثين من عمره؛ أي أنه كان لا يزال مقبلاً على الدنيا، وكان في عنفوان شبابه، وكان مزهوًا بمطالع مجده العسكري الذي حققه قبل سنوات قليلة في الجزيرة العربية بقضائه على الحركة الوهابية في سنة 1233ه/1818م. وربما دفعه لوقف أملاكه جميعها أن موته كان محتملاً في أي لحظة على جبهات القتال وساحات المعارك الحربية التي خاضها.

وتحتفظ وزارة الأوقاف المصرية في سجلاتها وأرشيفها بكثير من الوثائق الوقفية التي تخص إبراهيم باشا، وأهمها: حجة وقفه الصادر من محكمة الباب العالي بمصر المحروسة، والمؤرخ في 9 ذي القعدة 1236هـ (7 أغسطس/آب 1821م). وحجة وقف أخرى صادرة من محكمة الباب العالي بمصر المحروسة، ومؤرخة في 3 صفر 1239هـ/ 8 أكتوبر/تشرين الأول 1823م، ومسجلة في سجلات وزارة الأوقاف برقم مسلسل 169/5 خيري. وفيها ضم ممتلكات أخرى لوقفه سابق الذكر وألحقها به، وأهمها: وقف «القصر» الخاص به؛ وجملة عقارات تخصه في الإسكندرية والقاهرة، ومساحة قدرها 1000 فدان من الأراضي الزراعية.

وتعتبر حجة وقفه الصادرة في 9 ذي القعدة سنة 1236هـ هي الحجة المؤسسة لوقفيات إبراهيم باشا، ففيها وقف أغلبية ممتلكاته من العقارات المبنية والأراضي الفضاء والأماكن والحوانيت في «مصر المحروسة»، وقد بلغت مائة وثلاث مجموعات عقارية (المجموعة تسمى في حجة الوقف «جميع»، والمجموعة الواحدة تتكون من عدة بنايات وبعض الحوانيت وملحقات أخرى من الحدائق والأراضي الفضاء).

وقد نص في تلك الحجة على أنه: «أنشأ الوقف على نفسه، ينتفع به مدة حياته بسائر الانتفاعات الشرعية. ثم على أولاده ذكورًا وإناثًا بالسوية بينهم (وزوجاته هن: خديجة برنجي قادين، أنجب منها الأمير محمد بك، وشيوه كار قدين، أنجب منها الأمير أحمد رفعت، وهوشيار قادين «الوالدة باشا» أنجب منها إسماعيل الذي صار خديوي مصر فيما بعد، وألفت قادين، أنجب منها الأمير مصطفى فاضل، وكلزار قادين، وسارة قادين ولم ينجب منهما). ثم على أولاد أولاده، مع مشاركة أولاد إخوته وأخواته ذكورًا وإناثًا بالسوية بينهم، ثم من بعد كل منهم، تكون حصته من ذلك وقفًا على أولاده، ثم على أولاد أولاده، ثم على أولاد أولاد أولاده، ثم على ذريتهم ونسلهم وعقبهم، فإذا انقرضوا يكون ذلك وقفًا مصروفًا ريعه في مصالح ومهمات المدفن والسبيل الكائن بالقرافة الصغرى، بجوار قبة الإمام الشافعي، المعروفين بإنشاء وتجديد مولانا الموكل الواقف (إبراهيم باشا).، يصرف ذلك في وجوه خيرات وقربات وقراءة قرآن عظيم الشأن، ورمي خوص وريحان، وتفرقة خبز قرص، وتسبيل ماء عذب بالمدفن في أيام المواسم والأعياد، وفي صب ماء عذب من ماء النيل المبارك بالسبيل المذكور على العادة في ذلك، فإن تعذر شيء من ذلك، صرف على الفقراء والمساكين من المسلمين أينما كانوا وحيثما حلوا».

وأكثر من يميز هذا الوقف وغيره من أوقاف إبراهيم باشا أنه «وقف أهلي»، بينما كانت وقفيات أبيه محمد علي باشا «خيرية»، وكذلك كانت أوقاف ابنه «الخديوي إسماعيل» خيرية في أغلبيتها. ومعلوم أن ريع الوقف الأهلي يكون مخصصًا من بدايته للصرف على النفس مدة الحياة، ثم من بعد ذلك يكون مصروفًا على الزوجة والأولاد، ومن بعدهم يكون على أولادهم، وهكذا إلى أن ينقرضوا وتخلو بقاع الأرض منهم، حسب ما وردت به نصوص حجج الأوقاف الأهلية في مصر الحديثة والمعاصرة.

وقد اختار إبراهيم باشا أن يسوي بين الذكر والأنثى من أولاده وذرياتهم في الاستحقاق في أوقافه. واختار أيضًا أن يدخل أولاد إخوته وأخواته ذكورًا وإناثًا ضمن المستحقين في ريع أوقافه بالسوية بينهم. وهو في هذين الاختيارين كان مخالفًا لما درجت عليه أغلبية الواقفين من معاصريه ومن الأجيال اللاحقة له في تقسيم ريع الوقف وفق الفريضة الشرعية التي تنص على أنه: «للذكر مثل حظ الأنثيين»، مع حصر الاستحقاق في الأولاد وذرياتهم، دون أولاد الإخوة والأخوات في أغلب الحالات.

وهذه المخالفة –بشقيها- ليست مخالفة لأمر شرعي على أية حال؛ وإنما هي مخالفة لواحد من «تقاليد الوقف» التي عبَّر بها الواقفون عن احترامهم لأحكام الميراث بالنص على قسمة الريع «للذكر مثل حظ الأنثيين»، من جهة، وسعوا إلى نفي اتهامهم بالتهرب من تلك الأحكام عن طريق الوقف من جهة أخرى. والراجح في فقه الوقف هو أن تصرف الشخص في أملاكه بالوقف لا تنطبق عليه أحكام المواريث ابتداءً. ومع هذا فإن بعض الواقفين كان يضمر في نفسه نية الهروب من تلك الأحكام فيبادر لوقف أملاكه، ويستخدم «شروط الوقف»، وبخاصة ما عرف باسم «الشروط العشرة» لتكون له سلطة مطلقة في الإعطاء والحرمان والزيادة والنقصان؛ بعيدًا عن أحكام المواريث الشرعية.

أما شروط «أيلولة» ريع الوقف في حالة انقراض الأولاد وأولاد الإخوة والأخوات ذكورًا وإناثًا، وخلوا بقاع الأرض منهم؛ فقد جاءت في أوقاف إبراهيم باشا «تقليدية» تمامًا؛ حيث التزم فيها بما درج عليه الواقفون من العامة، على وجه التحديد، في أوقافهم الأهلية. فقد اشترط إبراهيم باشا أن يؤول الريع في تلك الحالة للإنفاق على «المدفن والسبيل» اللذين أنشأهما في القرافة الصغرى بجوار قبة الإمام الشافعي بالقاهرة، وأيضًا لشراء خوص وريحان وقراءة القرآن الكريم، وتسبيل الماء العذب المجلوب من «النيل المبارك» كما جرت العادة، فإذا تعذرت هذه المصارف أيضًا، كان الريع للفقراء والمساكين المسلمين أينما كانوا وحيثما حلوا.

ومما اطلعت عليه في وثائق وزارة الأوقاف رسالة من محكمة مصر الشرعية مؤرخة في 17 أغسطس/آب 1952م ومرسلة إلى «قسم الأوقاف الأهلية»، وهذه الرسالة تفيد أن المحكمة قررت في التاريخ المذكور «إقامة وزارة الأوقاف في النظر على جملة أوقاف منها وقف إبراهيم باشا والي مصر، الشهير بوقف القصر، فتبلغ القسم بذلك للعلم وإجراء شؤونه وفي تاريخه أبلغ ذلك إلى أقسام الوزارة». (ملف التولية الخاص بأوقاف الخديوي إسماعيل). ولكن أوقاف الحاج إبراهيم باشا لم تزدهر، ولم تتضخم أعيانها، مثلما حدث مثلاً لأوقاف أبيه محمد علي باشا، أو لأوقاف ابنه الخديوي إسماعيل.

وقد يكون السبب الأساسي في عدم ازدهار أوقاف الحاج إبراهيم كونها كانت أوقافًا أهلية؛ سرعان ما تقاسمتها أيادي الورثة، أو مزقتها الخلافات وكثرة المنازعات فيما بينهم. أما «الواقف» إبراهيم باشا فإن حياته -قبل أن ينشئ أوقافه وبعد أن أنشأها- فقد أمضاها في الحرب والضرب؛ إذ كان رجلاً عسكريًا من طراز رفيع، وارتبطت حياته بحياة أبيه مؤسس مصر الحديثة، وكان ساعده الأمين في معاركه الحربية وفتوحاته العسكرية في الشام وفي الجزيرة العربية وفي السودان.

اسمه كاملاً: إبراهيم باشا بن محمد علي باشا بن إبراهيم أغا. ولد في مدينة «قولة» باليونان في 4 مارس/أذار 1789م، ووافته المنية في 10 نوفمبر/تشرين الثاني 1848م، أجاد إبراهيم باشا العربية والتركية والفارسية. وكان واسع الاطلاع على تاريخ الشرق، وتولى منصب الولاية على مصر بعد تنازل أبيه في الفترة من 2 مارس/أذار إلى 10 نوفمبر/تشرين الثاني سنة 1848م، وتوفي قبل أبيه الذي توفي في 2 أغسطس/آب 1849م. ومن صفات الحاج إبراهيم باشا أنه كان صارمًا صعب المراس، قوي الشكيمة شديد الوطأة، قليل النوم كثير اليقظة. على عكس أبيه الذي كان لين العريكة، حسن السياسة، ذا دهاء وحكمة وحنكة. ولم تسمح حياته العسكرية الحافلة خارج مصر بأن تكون له إنجازات داخلية داخلها سوى أنه أصلح الجيش وطوره، وقاده قيادةً مظفرة.

ورغم كثرة البحوث والمؤلفات التي تناولت سيرة حياة «الحاج إبراهيم باشا»، إلا أنها لم تذكر شيئًا عن أوقافه، ولا عن مصائر هذه الأوقاف من بعده. ومن أهم تلك المؤلفات كتاب «داوود بركات: البطل الفاتح إبراهيم وفتحه الشام 1832» (القاهرة: مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2014)، وكتاب الجمعية الملكية للدراسات التاريخية «ذكرى البطل الفاتح إبراهيم باشا 1848-1949» (القاهرة: مطبعة دار الكتب المصرية، 1948).

وهذان الكتابان يُصوران حياة إبراهيم باشا بدقة وعمق، ويشيدان بنزعته العروبية وصرامته العسكرية بصفة خاصة. فـ الدكتور عبد الرزاق السنهوري يقول في تقديمه لكتاب الجمعية الملكية للدراسات التاريخية إن إبراهيم باشا «أتى مصر طفلاً فغيرت شمسها دمه، فجرى عربيًا». وفي الكتاب نفسه يقول الدكتور «محمد شفيق غربال» -المؤرخ المصري الكبير نقلاً عن المؤرخ المصري الكبير أحمد عزت عبد الكريم- أن إبراهيم باشا: «كره ما كان يكرهه أبوه؛ فكان يمقت الشعوذة والغفلة والرخاوة والغرض والضغينة والمحاباة». شارك في عملية فك الزمام في صعيد مصر في دبايات حكم محمد علي. وكانت له خبرة في شئون الفلاحة والزراعة.

اتخذ من التعليم وسيلة للارتقاء بالشعب، وعندما أصبح واليًا للبلاد افتتح مكاتب لتعليم العامة أطلقوا عليها «مكاتب الملة» على نحو ما كان موجودًا في ذلك الوقت في فرنسا وإنجلترا، وفي أوامر الباشا إلى محافظ دمياط أنه «عَلِم بالاحتفالات التي قُوبل بها الآلي حسين بك من الأهالي، والقناصل، وبما تفوه به علي أغا وقوله في محفل الاستقبال: قد صار الفلاحون العمي عساكر، مهما كانوا لا يكونون مثل عساكرنا الترك، وعليه فاضربوه مائة نبوت على إليته، وينفى وإن عاد يصلب». (من مقدمة كتاب: ذكرى البطل الفاتح إبراهيم باشا).

وفي محفوظات عابدين توجد رسالة من محمد علي باشا أرسلها إلى إبراهيم باشا قال فيها: «لا تهدف الدول إلى تعضيد الدولة العثمانية، ولكنها ترمي إلى إضعاف الطرفين، كي يتسنى لها الاستيلاء على البلاد الإسلامية بسهولة، لذا فإن قبول تدخل هذه الدول خيانة للملة ولتمام استقلالها، فبدلاً من أن نقبل هذه الخيانة، فنذكر باللعنة إلى يوم القيامة/ أجدر بنا أن نموت في سيبل الدين، فنشيد بذلك دنيانا وآخرتنا، معًا، هذا إذا غلبونا، وأما إذا لم يغلبونا، ولم يستطيعوا أن يفعلوا شيئًا، فحينئذ نجد في الدنيا الجنة، التي يبحث عنها الناس في الآخرة، فيدوي في الآفاق صدى بطولتنا، وسمعتنا الطيبة، ويذكرنا العالم بخير إلى يوم القيامة، هذا لا ريب فيه، والله كفيل بعباده» ( الدكتور أسد رستم «محفوظات عابدين»، المجلد الرابع، ص286). تلك المعلومات الوثائقية ذات أهمية كبرى في تحليل شخصية إبراهيم باشا وأبيه، ولكنها لا تغني عن بقية المعلومات الوثائقية التي تتضمنها حجج الأوقاف. وظني أنه قد آن الأوان لكي ينتبه كتَّاب التراجم والسير إلى أهمية إدراج هذه المعلومات الوثائقية الوقفية في السير والتراجم الشخصية؛ لأن الصورة الكاملة لحياة هذا الشخص أو ذاك لا تكتمل إلا بإضافة هذا الجانب طالما توافرت وثائقه وأمكن الاطلاع عليها.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.