ليس في مصر جامع ما للأزهر من جماعة؛ فهو مزدحم بالناس ليل لنهار، فلا تجد فيه موضعًا للسجدة. يجتمع فيه اثنا عشر ألف طالب ليل نهار، وتطن أصواتهم كأصوات النحل، مما يُدهش الإنسان، وقد انهمكوا في مباحثات علمية.

الرحالة التركي أوليا جلبي في مشاهدته للجامع الأزهر – القرن السابع عشر الميلادي


من الإنشاء إلى المشيخة

بُني الأزهر أول ما بُني في مستهل حكم الفاطميين في مصر في العقد السابع من القرن الرابع الهجري 362هـ، وأُريد منه أن يكون منبرًا وجامعة للنشر والدفاع عن الأفكار والعقائد الشيعية الإسماعيلية، ومركز العبادة الأكبر لأهل القاهرة المدينة الجديدة آنذاك، وكذلك ليكون منافسًا فكريًا لمدارس وجوامع بغداد في ظل الخلافة العباسية السنية، وظل الحال على ذلك التنافس المذهبي والعقدي بين السنة والشيعة حتى تمكن صلاح الدين الأيوبي من بسط السيطرة الأيوبية على مصر في عام 567هـ، وإعادة الدعوة للخلفاء العباسيين السنة على منابر القاهرة، وبهذا قضى على النفوذ الإسماعيلي.

وإمعانًا في ذلك، أصدر أمره بإغلاق الجامع الأزهر، وظل قرار الإغلاق ساريًا لمدة مائة عام كاملة حتى أمر بإعادة افتتاحه وتجديده السلطان الظاهر ركن الدين بيبرس في مستهل عصر المماليك البحرية في عام 665هـ، وقد صاحبَ ذلك ثورة إنشائية ومعمارية كبرى قام بها المماليك طوال قرنين ونيف فيما بعد، ازدهرت فيها المدارس والخانقاوات والزوايا والبيمارستانات والكتاتيب، وصار الأزهر وسط هذه الكوكبة العظمى من المدارس والجامعات محضنًا علميًا، ومركزًا دينيًا مهماً، غير أنه ظل مجرد مكان للتعبد والدرس لا غير.

وبدخول العثمانيين مصر في الربع الأول من القرن العاشر الهجري 923هـ، فقد أدى ذلك إلى تطور ملموس في مكانة الأزهر، فبمرور الوقت صار مركزًا لافتًا من مراكز التدين والعبادة والتعليم، ثم كان التطور الأبرز باستحداث منصب شيخ الأزهر في العام 1090هـ/1679هـ باعتلاء الشيخ محمد بن عبد الله الخراشي المالكي، وبهذا انتقل الأزهر من كونه مجرد مدرسة وجامع من جوامع القاهرة إلى كونه رأس المؤسسة الدينية والتعليمية فيها.

بل تحولت المدارس/الكليات الأخرى التي أنشأها المماليك والأيوبيون من قبل إلى مؤسسات عديمة الأهمية مقارنة بالأزهر، بل إن وظائف التدريس في تلكم المدارس/الكليات صارت من نصيب مشايخ الأزهر.

لقد تعاقب على مشيخة الأزهر خمسة من كبار الفقهاء المالكية، وذاك أمر مستغرب حقًا في ظل سيادة المذهب الشافعي على مصر منذ دخول الإمام الشافعي إليها في مستهل القرن الثالث الهجري، وصار المذهب الشعبي الأول لأهل البلاد منذئذ، ثم مستغربًا لأن المذهب الحنفي كان المذهب الرسمي للعثمانيين في اسطنبول والأتراك المماليك في القاهرة، لكن يزول العجب حين نعلم أن اختيار شيخ الأزهر في ذلك الزمن كان يتم بموافقة العلماء والفقهاء كافة، لأرسخهم علمًا، وأرفعهم مكانة، وأكثرهم تلمذة، وهو النظام الذي نراه اليوم في كبرى الجامعات العالمية مثل برنستون وغيرها.

بيد أن هذا الأمر سُرعان ما نُسي، وعادت الزعامة من جديد لأرباب المذهب الشافعي كما كانوا من قبل على المستوى الشعبي منذ القرن الثالث الهجري، وعلى المستوى السياسي منذ عصر الأيوبيين والمماليك.


بين أروقة الجامع

كان عدد طلاب الأزهر في مصر العثمانية يتراواح، في العام الواحد، ما بين 3000 إلى 5000 وربما زادوا إلى اثني عشر ألفًا كما قال الرحالة التركي “أوليا جلبي”، يقوم بتعليمهم وتدريسهم 70 من الأساتذة بالإضافة إلى المساعدين والمعلِّمين، ويتحدث فرمان عثماني بتاريخ 1141هـ/1729م عن حوالي 40 من العلماء والمفتين الذين جاءوا إلى الديوان ليشكوا مخصصاتهم، بينما اجتمع حوالي 4000 إلى 5000 من الطلبة في الجامع نفسه للتظاهر بسبب تأخّر أُعطياتهم. ويتضح أن هذه الأعُطيات أو المرتبات كانت من مصادر شتى على أرسها الأوقاف التي أوقفها أهل الخير من السلاطين والأمراء والتجار والعلماء وغيرهم لتكون مصدرًا لا ينقطع، ورافدًا لا ينضب من المال لاستمرار العلم والتدريس، على العلماء وطلبة العلم على السواء.

كان الطلاب ينتظمون في أروقة أو دور ضيافة حيث كانوا يسكنون ويدرسون ويتسلّمون جراياتهم، وكانت الأروقة تنقسم على أسس عرقية وإقليمية، وهكذا كان هناك رواق للأتراك «الروم»، والشوام، والمغاربة، وأهل الصعيد، وأهالي مديرية الشرقية وما إلى ذلك.

أما الدراسة في الأزهر فكانت تسير على النمط القديم الذي تطور مع الزمن بتطور العلوم، وتدرج المعارف، مثل التفسير والحديث والتوحيد والتصوف والفقه وأصول الفقه وعلم الكلام والنحو والصرف والعروض والمعاني والبيان والبديع والأدب والتاريخ والسيرة النبوية، وعلوم المنطق، والوضع والميقات.

يدرس الطلاب على الشيخ في تخصصه إلى ما شاء الله أن يدرسوا، ثم إذا رآهم الشيخ مستئهلين للتخرج، أعطاهم “إجازة” بذلك، وبذلك يحق لهم التدريس في هذا التخصص، أما من لم يتمكن من إتمام العلوم والدروس، فإنه لا يأخذ هذا الإجازة، ومن ثم صارت الإجازة شهادة التخرج لتلك العصور، ولا يزال بين أيدينا اليوم نماذج مخطوطة من تلك الإجازات، تبين لنا أنواع العلوم والمعارف التي تلقاها هؤلاء الطلاب.

ويكفي أن نرجع إلى تراجم هؤلاء الأزاهرة الذين وفدوا على الأزهر من أقطار شتى من مصر والشام وبلاد الروم “تركيا” والحجاز والمغرب وغيرها لنرى كيف تعلموا، وكيف تخرجوا، وكيف درّسوا، فهذا شاهين بن منصور بن عامر الأرمناوي الحنفي (ت: 1101هـ/1690هـ) «حفظ القرآن والكنز والألفية والشاطبية والرجبية وغيرها، ورحل إلى الأزهر، فقرأ بالروايات على العلامة المقرىء عبد الرحمن اليمني الشافعي، ولازم في الفقهِ العلامةَ أحمد الشوبري وأحمد المنشاوي الحنَفيين، وأحمد الرفاعي ويس الحمصي ومحمد المنزلاوي وعمر الدفري والشهاب القليوبي وعبد السلام اللقاني وإبراهيم الميموني الشافعي وحسن الشرنبلالي الحنفي، وفي العلوم العقلية شيخ الإسلام محمد الشهير بسيبويه تلميذ أحمد بن قاسم العبادي ولازمه كثيرا، والشيخ علي الشبراملسي والشمس البابلي وسلطان المزاحي، وأجَازَه جُل شيوخه، وتصدَّر للإقراء في الأزهر في فنون عديدة، وعنه أخذ جمع من الأعيان».

فهذا رجل – كما نتبيّنُ من سيرته – نال من العلوم الفقهَ الشافعي والحنفي والنحو والفلسفة الإسلامية وعلم الكلام، ثم إن كل شيوخه الذين ذكرهم الجبرتي أعلاه قد أجازوه، ووافقوا على كونه أتم دراسته، وأصبح مستعدًا للإقراء والتدريس، وهذا ما حدث بالفعل، حيث أصبح أحد المشايخ والعلماء في الجامع الأزهر، وصار له تلاميذ فيما بعد، ومن خلال هذه الترجمة يمكن أن نقيس على جُل من تعلّموا في الأزهر طوال تلك القرون.


نفوذ علماء الأزهر

لم يكن الجامع الأزهر في ذلك الزمان مجرد محضن علمي، أو جامعة تُخرج طلاب العلم، والمشتغلين بالعلوم الشرعية، منغلقين على أنفسهم بين جدرانه، متجاهلين صخب القاهرة وأجوائها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، بل إن العلماء شاركوا بدأب ونشاط في تلك الحياة، وحاولوا قدر الإمكان تغيير ما رأوه من انحلال وفساد من طبقة المماليك والعثمانيين على السواء، وحرصوا كل الحرص على سيادة قانون الشريعة بين الناس كافة.

ويكفي أن نأتي بمثال على ذلك نختم به مقالنا هذا من تاريخ الجبرتي الذي يقول: «اتفق أن الشيخ عبد الباقي ابن الشيخ عبد الوهاب العفيفي طلَّق على زوج بنت أخيه في غيابه على يد الشيخ حسن الجدّاوى المالكي على قاعدة مذهبه، وزوَّجها من آخر، وحضَر زوجُها من الفيوم، وذهب إلى ذلك الأمير [يوسف بك الكبير] وشكا له الشيخ عبد الباقي، فطلبه فوجده غائباً، فأرسل إليه أعوانًا أهانوه، وقبضوا عليه، ووضعوا الحديد في رقبته ورجليه، وأحضروه في صورة مُنكرة، وحبَسَه في حاصل أرباب الجرائم من الفلاحين. فركب الشيخُ علي الصعيدي العدوى والشيخ الجداوى وجماعة كثيرة من المتعمِّمين وذهبوا إليه، وخاطبه الشيخ الصعيدي فقال له: هذا قولٌ في مذهب المالكية معمولٌ به فقال: من يقول: إن المرأة تُطلِّقُ زوجها إذا غاب عنها وعندها ما تُنفقه وما تصرفه، ووكيله يُعطيها ما تطلبه، ثم يأتي مِن غيبتِه فيجدها مع غيره؟! فقالوا له: نحن أعلم بالأحكام الشرعية. فقال: لو رأيتُ الشيخَ الذي فسخ النكاح. فقال الشيخ الجداوى: أنا الذي فسخت النكاح على قاعدة مذهبي. فقامَ على أقدامه وصرخ وقال: والله أكسر رأسك. فصرخَ عليه الشيخ علي الصعيدي وسبَّه وقال له: لعنَك الله ولعنَ اليَسرجي الذي جاء بك ومن باعك ومن اشتراك ومَن جعلك أميرًا. فتوسّط بينهم الحاضرون مِن الأمراء يُسكِّنُون حِدَّته وحدتهم، وأحضروا الشيخ عبد الباقي من الحبس، فأخذوه وخرجوا، وهم يسبُّونه وهو يسمعهم»!

فهذه الحكاية تعني أن أحد الفقهاء والقضاة المالكية وهو الشيخ الجداوي حكم بجواز طلاق الزوجة من زوجها بسبب غيابه الطويل على رأي مشهور في المذهب المالكي، وقد جاء الزوج فذهب إلى أحد كبار رجال الحكم والسياسة في ذلك العصر، وهو الأمير يوسف الكبير أحد أمراء الأمير محمد أبو الذهب المشاهير، الذي جاء بعم الفتاة المطلقة وهو أحد شيوخ الأزهر فأهانه وسجنه، فلما علم أحد كبار مشايخ الأزهر من المالكية وهو الشيخ علي الصعيدي، ذهب إلى الأمير، وصنع معه ما رواه الجبرتي، في مثال من عشرات الأمثلة التي تُدلل على المكانة الكبرى التي كانت للأزهر والأزاهرة في ذلك الزمان، بخلاف الأباطيل والأكاذيب التي روّجها ولا يزال يروجها مدّعو الثقافة والتنوير في بلادنا!

المراجع
  1. • أوليا جلبي: سياحتنامه مصر، ترجمة محمد علي عوني، تحقيق عبد الوهاب عزام وأحمد السعيد سليمان، دار الكتب والوثائق القومية – القاهرة، 2009م.
  2. • الجبرتي: عجائب الآثار في التراجم والأخبار، دار الجيل – بيروت.
  3. • مايكل ونتر: المجتمع المصري تحت الحكم العثماني، ترجمة إبراهيم محمد إبراهيم، الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة، 2001م.
  4. • محمد جلال كشك: ودخلت الخيل الأزهر، الزهراء للإعلام العربي، الطبعة الثالثة – القاهرة، 1990م.
  5. • أشرف فوزي صالح: شيوخ الأزهر، الشركية العربية للنشر والتوزيع – القاهرة، 1997م.