إذا كنت من محبي فكرة «وادي السيليكون» فأنت الآن على موعد مع قصة مثيرة ذات نهاية مأساوية، وقعت بعد عقد ونصف من الخداع واللعب بأعمار المرضى، واللعب بالكثير من المال أيضًا؛ على يد فتاة خدعت مجتمعًا ظهرت هشاشته الأخلاقية والتكنولوجية بفضل صحافي واجه الكثير من المخاطر.

بالطبع الكثير من المخاطر؛ فماذا تنتظر من شخص تُهدده بضياع ثروة من الهواء قدرها 10 مليارات دولار؟ هذا بالفعل ما فعلته هولمز، وربما لفعلت أكثر لو أتيح لها مزيدًا من الوقت.

ظهرت «إليزابيث هولمز»، لأول مرة، كمؤسس ومدير التنفيذي لشركة «ثيرانوس» عام 2013، وعمرها 19 عامًا، وقد تسربت لتوها من دراستها الجامعية لبدء عملها الخاص، ووعدت بتصميم جهاز أسهل وأسرع لتحليل الدم، وحققت شركتها مكاسبًا تخطت قيمتها 10 مليارات دولار في وقت قياسي من المرضى والمستثمرين؛ وتم تصنيفها كالنسخة الطبية من ستيف جوبز، أو بيل جيتس؛ وصعدت على مسارح TED لتلقي بخبرتها على الشباب، وظهرت على أغلفة مجلات فوربس وفورشن، ولكن كانت أزمتها الوحيدة هي أن الجهاز نفسه لا يعمل ولا ينافس حتى الأجهزة الأكثر تقليدية في السوق.


فوضى البدايات

غلاف كتاب «دماء فاسدة: أسرار وأكاذيب في شركة ناشئة في وادي السيليكون» للصحافي الأمريكي «جون كاريو».

جميع التفاصيل المثيرة المتعلقة بجريمة أخلاقية وعوار القضاء الأمريكي نشرها الصحافي «جون كاريو» في كتابه «دماء فاسدة: أسرار وأكاذيب في شركة ناشئة في وادي السيليكون» في العام الماضي 2018؛ ليكون بمثابة إنذار أحمر -ربما ليس الأول- على فساد بعض رواد التقنية في وادي السيليكون. وقد حقق هذا الكتاب «الصادم» أعلى المبيعات، وانضم لقائمة نيويورك تايمز كأفضل كتب العام.

جاء الكتاب في جزءين، وهو عبارة عن سرد قصصي لكيفية وصول هولمز إلى فكرتها التي جعلتها -لفترة من الوقت- صاحبة المشروع الأكثر نجاحًا في وادي السيليكون، وكأنها ألقت بتعويذة تُذهب العقل على المستثمرين المخضرمين، فتجمّع لاعبون محترفون بالمجال حول فتاة صغيرة تخشى وخز الإبر، وتسعى لتحسين العالم من خلال إجراء اختبارات دم أفضل وأسرع.

في البداية أسست هولمز شركة «ثيرانوس» للتكنولوجيا في كاليفورنيا، بعد ترويجها لجهاز تحليل دم. كانت التقنية التي تعمل عليها هولمز هي تقنية يمكنها إجراء مئات -وربما آلاف- الاختبارات المعملية التي يحتاجها الطبيب من مجرد نقط دم تؤخذ بوخز الإصبع، وتقديم صورة كاملة عن صحة المريض، وظهور النتائج بسرعة كبيرة، وبكسور من تكلفة المختبرات الأخرى؛ كما ستنتقل تحاليل الدم من العيادات المتخصصة إلى المنزل، بل وستعرف نتيجتك عبر تطبيق على الآيفون، مما اعتبره الكثير ثورة في تكنولوجيا اختبارات الدم.

وسريعًا، وفي الفترة من 2013 إلى أوائل 2014 حققت الشركة أكثر من 9 مليارات دولار، وتمكنت هولمز من السيطرة على نصف الأسهم؛ ما يساوي 5 مليارات دولار، وكانت على بعد أشهر من تصنيفها كأول مليارديرة، امرأة، أسست شركة تقنية. وكان لهولمز رؤيتها الثاقبة في طرق البيع، حتى أنها استمرت في البيع بعد أن استخدم مرضى حقيقيون اختبارها من أجل اتخاذ قرارات طبية بشأن حالتهم الصحية دون التفكير في نتائج ذلك.

من الممكن أن تكون الشهرة وسيلة لبدء عمل ناجح بطرق أيسر؛ ولكنها لن تكون أهم وسيلة، أو الوحيدة مثلما فعلت هولمز. فتحتاج شركة ناشئة، خاصة في مجال الطب والصحة، إلى خبراء مُعينين في مجلس إدارتها؛ فذلك المجلس المهيب كان يضم وزراء سابقين وأعضاء مجلس الشيوخ؛ ولكن بالنسبة لخطة سير الخدمة الطبية لم يكن لدى أحدهم أي خبرة في تشخيص الأمراض أو فحص نتائج التحاليل على الأقل.

فقد استخدمت إليزابيث براعتها في الفوز بدعم شخصيات كبيرة في السن من ذوي الخبرة والشهرة، ومن ثَمَّ الاستفادة من ذلك لكسب مصداقيتها الخاص بالتبعية، وكان أولهم هو أستاذ الهندسة في جامعة ستانفورد، تشانينج روبرتسون. وبعد بضع سنوات قابلت رجل الأعمال لاري أليسون، وهو خامس أثرى شخص في العالم. وفي عام 2011 قابلت جورج شولتز وزير الخارجية الأمريكي والذي انبهر بفكرتها ووافق بسهولة وسرعة على الانضمام إليها، ومن هنا قدمها لأصدقائه في مركز هوفر للأبحاث في ستانفورد.

من هوفر كان طريقها للتعرف والحصول على دعم شخصيات أمثال: هنري كيسنجر، وتيم دريبر، وجورج ماتيس. وقام مستثمرون من بينهم روبرت كرافت، وبيتسي ديفوس، وكارلوس سليم باستثمار 900 مليون دولار معها، كدفعة أولى؛ كما أقنعت شركات الأدوية بإنفاق ملايين الدولارات لإنشاء عيادات لعرض تكنولوجيا ثيرانوس المتفانية.


حيوات على المحك

كان هدف هولمز هو أنه من خلال قطرة دم واحدة، يمكن أن نستغني عن إبر الحقن تحت الجلد، والتي شبهتها مرارًا بتعذيب العصور الوسطى؛ لكن كانت الفرضية التي أقامت عليها شركتها مشكوك فيها علميًا، وكانت تقنية ثيرانوس إما غير جاهزة للتطبيق، أو غير قابلة من الأساس للتطبيق، أو قادرة على أداء جزء بسيط فقط من التحليلات التي تعد بها هولمز؛ فالعديد من الأشخاص الذين ذهبوا للعيادات لتجربة التقنية الجديدة، تم سحب دمائهم بالإبر القديمة، ولم يتم تقييم التقنية الجديدة عبر الجهاز الجديد، ولكن تم عن طريق المعدات الروتينية لإجراء التحليلات في العيادات.

حذر الأطباء من أن تقنية ثيرانوس ليست جاهزة للتطبيق في الوقت الحالي؛ إلا أن هولمز أبت ألا تحبط آمال المستثمرين والمساهمين، وكانت نتيجة ذلك هو الفشل المدوي، وقد طال الفشل كل نواحي العمل؛ فقد حفظ الموظفون نتائج عينات الدم في درجات حرارة غير مناسبة، وحصل المرضى على نتائج خاطئة، وأسوأ مما لو كانت تمت في معمل بسيط، وتم نقل بعضهم لغرف الطوارئ والبقية تقدموا بشكوى، بعدما اتصلوا بمعامل هولمز ليسألوا عن جودة الخدمة التي تلقوها وتجاهلهم الموظفون، بعدما وجدوا أنفسهم بحاجة لتصحيح خطأ تم في تقارير طبية لما يقرب من مليون مواطن أجروا الاختبار في كاليفورنيا وأريزونا.

لم يكن جمهور المستخدمين على دراية بكون «ثيرانوس» وهم كبير، حتى كتب كاريو قصته في وول ستريت جورنال على حلقات تحت إشراف مُحامي الصحيفة، وأصبح جزءًا من قصة انهيار الشركة وأسطورة هولمز. فقد اكتشف جون كاريو هذه الخدعة، واستمر في ملاحقة المديرة الصغيرة حتى النهاية رغم تهديداتها له بالقتل.


مخاطر أوهام العظمة

عند التشكيك في تقنيتها الجديدة تحولت هولمز من فتاة طموحة تهدف لتخفيف الآلام، إلى وحش عدواني يطيح بكل الأدلة التي تتحدث عن نفسها، وخرجت لتؤكد أن جهاز ثيرانوس هو أهم ما قدمته البشرية على الإطلاق، وقاومت تشكيك الموظفين في هذه الفكرة، وطبقت خاصية بصمات الأصابع لفتح المختبرات والأبواب والماسحات الضوئية لعدد محدود من العاملين.

كانت الأزمة الأكبر من المبالغة في الآمال والتقديرات بالنهاية هي الكذب؛ فمن أجل إخفاء الفشل، كذبت هولمز ومن معها وأشارت إلى الإيرادات التي حققتها، وتباهت بعقود مجهولة مع شركات أدوية بمنتج لم يره أحد، وروّجت لخبر أن الجيش الأمريكي كان يستخدم جهاز ثيرانوس في ساحة المعركة بأفغانستان، وهي قصة مُختلَقة.

ما الذي حدث؟ هل حاولت إليزابيث عمدًا تضليل المستثمرين وسرقة أموالهم والاستمتاع بالشهرة لفترة قصيرة؟ أم أنها كانت تملك بالفعل طموحات وآمالًا دون تخطيط؟

ما حدث كان مزيجًا من كل هذا؛ فقد حملت هولمز في البداية رؤية حول إنشاء شركة، وتوظيف أطباء لجعل هذه الرؤية ممكنة؛ ولكنها واجهت الكثير من النكسات على طول الطريق، كما يحدث، كأمر اعتيادي مع رجال الأعمال؛ لكنها رفضت الاعتراف بحقيقة فشلها واستمرت في وعد المستثمرين، حتى ظهرت الفجوة بين ما حققته من الناحية التكنولوجية وما كانت تهدف له.

بحلول الوقت الذي ذهب فيه المرضى لإجراء اختبار الدم في خريف 2013، تحول الفشل لعملية احتيال ضخمة، ونجم عن ذلك تهم جنائية خطيرة ارتكبتها هولمز في حق المرضى، ووجهها لها مكتب المدعي العام الأمريكي لسان فرانسيسكو في ديسمبر/كانون الأول 2015، وتم تغريمها مبلغ 500 ألف دولار، والآن هي مهددة بالسجن 20 عامًا مع صديقها السابق وشريكها «سوني».