أبو الفضل أحمد بن الحسين بن يحيى بن سعيد بن بشر الصفار، المعروف بـ «بديع الزمان الهمذاني»، ولد في همذان لأسرة عربية عام 358هـ/969م وعاش إحدى وثلاثين سنة من حياته القصيرة من حيث عدد السنين في عهد أربعة ملوك في الدول البويهية، والغزنوية، والزيارية، والصفارية، تلك الدول التي كانت تتنازع المُلك والسلطان فيما بينها، لكنها كانت في الوقت نفسه تتنازع مجد العلم والأدب، فراجت سوق الأدب في ذلك الوقت وعلا نجم علماء كثيرين، منهم البيروني والثعالبي.

وظهر من الكتاب ابن العميد والصاحب ابن عباد وأبو إسحاق الصابي، وأبو بكر الخوارزمي، والعتبي وعبد العزيز الجرجاني، وأبو هلال العسكري وابن نباتة الخطيب، والحسن بن علي التنوخي، ومن الشعراء المتنبي والمعري وأبو فراس الحمداني والشريف الرضي ومهيار الديلمي وغيرهم.


نشأته وتربيته ورحلاته

نشأ بديع الزمان في همذان (غرب إيران) فتربى تربية فارسية، وظهرت عليه علائم النجابة منذ حداثة سنه، حتى ليقول عنه الثعالبي: «إنه كان مقبول الصورة خفيف الروح، وكان أعجوبة في الحفظ والبديهة والارتجال، وله أخبار في هذا لا تكاد تصدق»[1] ويقول عنه ياقوت الحموي في معجم الأدباء نقلا عن شيرويه بن شهردار مؤرخ همذان: «وكان أحد الفضلاء والفصحاء، متعصبا لأهل الحديث والسنة، ما أخرجت همذان بعده مثله، وكان من مفاخر بلدنا».[2]

تلقى البديع علوم العربية وفنون الأدب في همذان على جماعة من العلماء، على رأسهم إمام كبير من أئمة العربية هو أبو الحسين أحمد بن فارس (ت390هـ/1000م) صاحب كتاب «مقاييس اللغة»، و«الصاحبي»، و«اختلاف النحويين»، و«ذم الخطأ في الشعر»، «والمجمل في اللغة». وكان بديع الزمان يتقن الفارسية والعربية معا. ولما علا نجمه في ميدان العلم والأدب ضاقت همذان بعلمه وأدبه، وثقل عليه ظل أهلها ففارقها ناقما عليها غير آسف على فراقها، حتى ليُنسب إليه أنه قال:

هَمَذَانُ لِي بَلَدٌ أَقُولُ بِفَضْلِهِ ** لَكِنَّهُ مِنْ أَقْبَحِ البُلْدَانِ صِبْيانُهُ فِي القُبْحِ مثل شُيُوخِهِ ** وَشُيُوخُهُ فِي العَقْلِ كَالصِّبْيانِ

فارق البديع همذان وهو ابن اثنين وعشرين سنة (وقيل ابن اثنتي عشرة سنة)، وورد حضرة الصاحب ابن عبّاد في أصفهان فنهل من عمله وأدبه، ثم عَرَّج على جُرجان، وخراسان، وسار إلى نيسابور (شرقي إيران الآن) فطار ذكره فيها، والتقى هناك شيخ الكتاب في عصره أبا بكر الخوارزمي، وكانت بينهما مباريات ومناظرات في الارتجال والترسّل والنحو واللغة، واغتبط بديع الزمان بنيسابور ولقي من سراتها حفاوة وإكراما، وكتب كثيرا من رسائله إلى جماعة من رؤسائها، وهي تدل على ما كان بينه وبينهم من مودة. وفيها أملى مقاماته.

ثم فارق بديع الزمان نيسابور عام 383هـ /993م وكثرت أسفاره بعدها، حتى إن الثعالبي يقول: «ولم يبقَ من بلاد خراسان وسجستان وغزنة بلدة إلا دخلها وجنى وجبى ثمرتها، واستفاء خيرها وميرها، ولا ملك ولا أمير ولا وزير ولا رئيس إلا استمطر منه بنوْءٍ، وسرى معه في ضوء، ففاز برغائب النعم، وحصل على غرائب القِسَم»[3] ويقول الهمذاني نفسه في رسالته إلى القاسم الكرجي:

فإني وإن كنتُ في مقتبل السن والعمر، قد حلبتُ شطرَي الدهر، وركبت ظهري البر والبحر، ولقيتُ وفدَيْ الخير والشر، وصافحت يدي النفع والضر.[4]

سافر الهمذاني إلى غزنة (بأفغانستان الآن) حاضرة الدولة الغزنوية حينها، واتصل بالسلطان محمود الغزنوي ومدحه، ثم تركها إلى هراة وهو يُريد أن أن يرحل عنها كما رحل عن غيرها، لكنه صاهر فيها أبا علي الحسين بن محمد الخشنامي، وهو الفاضل الكريم الأصيل، فانتظمت أحوال أبي الفضل بصهره، واقتنى بمعونته ومشورته ضياعا فاخرة، وعاش عيشة راضية،[5] فألقى بها عصا التسيار، واتخذها موطنا حتى الممات. ومن أجل هذه الثروة قصده الناس واستماحوه، فصار مطمح أصحاب الحاجات يتوسلون به إلي أصحاب السلطان والجاه.


آثاره وأسلوبه

عاش بديع الزمان في القرن الرابع الهجري، وهو عصر بلغت فيه الكتابة العربية درجة لا مزيد عليها من علو الصنعة والتأنق والبراعة. وبزغت شمس كُتاب كبار كابن العميد والصاحب ابن عباد والصابي والمهلبي وقابوس والخوارزمي وغيرهم. وكان من أبرز كتاب ذلك العهد بديع الزمان، الذي يقول عنه الثعالبي:

ولم يُرَ ولم يُرْوَ أن أحدًا بلغ مبلغه من لب الأدب وسره، وجاء بمثل إعجازه وسحره، فإنه كان صاحب عجائب وبدائع وغرائب، فمنها أنه كان ينشد القصيدة التي لم يسمعها قط وهي أكثر من خمسين بيتا فيحفظها كلها ويؤديها من أولها إلى آخرها، لا يَخْرِمُ حرفا ولا يخل بمعنى، وينظر في الأربعة والخمسة أوراق من كتاب لم يعرفه ولم يره نظرة واحدة خفيفة ثم يهذها من ظهر قلبه هذًّا ويسردها سردا.[6]

المقامات (المقامة البغدادية)

ترك الهمذاني جملة من الآثار قليلة الحجم لكنها عظيمة الأثر، وهي المقامات الرسائل وديوان من الشعر. فأما المقامات فهي تمثّل جنسا أدبيا مستقلا، ابتدعه البديع وعُرف به وخلُصت نسبته إليه، وهي مجموعة من الحكايات القصيرة، تُبنى على السجع، ويغلب عليها الصنعة والتأنق والجِناس مما يشي بالمقدرة اللغوية الهائلة، والتفنن في الأساليب الإنشائية.

وقد جعل الهمذاني لها راويا هو عيسى بن هشام، وبطلا هو أبو الفتح السكندري، الذي عرف بخداعه ومغامراته، وحُسن تخلصه من المآزق، وهو شخصية فكاهية نشطة. وقد أراد البديع بهذه المقامات أن يدل على تمكنه في اللغة ومكانته في البلاغة، واقتداره على فن القول. ومعالجة كثير من قضايا زمانه.

عالجت هذه المقامات موضوعات كثيرة، أشهرها «الكُدْيَة» (أي الاستعطاء والاستجداء والاسترزاق بالحيلة والإكراه). ومن ذلك «المقامة البغدادية»، التي يحتالُ فيها البطل -وكان في بغداد- من أجل أن يحصل على طعام، ولم يكن معه مال، فباغتَ أحد أهل العراق يسوق حماره وادعى أنه يعرفه منذ زمن، وناداه بأبي زيد، فأنكر الرجل وقال بل أنا أبو عُبيد، فقال نعم لعن الله الشيطان، وأبعد النسيان، إنما أنسانيك طول العهد! ولم يزل بالرجل يقنعه أنه يعرفه حتى اقتنع، ثم دعاه إلى طعام في السوق، فصحبه إلى شواء وطلب له شواء وحلوى، وطعِمَا حتى شبِعا، ثم مكر به بأن ادعى أنه ذاهب لإحضار ماء، فخرج ولم يعد، ليلقى العراقي عقابه من صاحب الشواء ويدفع ثمن الغداء. يقول في ذلك:

«فَلَمَّا أَبْطَأتُ عَلَيْهِ قَامَ السَّوادِيُّ إِلَى حِمَارِهِ، فَاعْتَلَقَ الشَّوَّاءُ بِإِزَارِهِ، وَقَالَ: أَيْنَ ثَمَنُ ما أَكَلْتَ؟ فَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: أَكَلْتُهُ ضَيْفًا، فَلَكَمَهُ لَكْمَةً، وَثَنَّى عَلَيْهِ بِلَطْمَةٍ، ثُمَّ قَالَ الشَّوَّاءُ: هَاكَ، وَمَتَى دَعَوْنَاكَ؟ زِنْ يَا أَخَا القِحَةِ عِشْرِينَ، فَجَعَلَ السَّوَادِيُّ يَبْكِي وَيَحُلُّ عُقَدَهُ بِأَسْنَانِهِ وَيَقُولُ: كَمْ قُلْتُ لِذَاكَ القُرَيْدِ، أَنَا أَبُو عُبَيْدٍ، وَهْوَ يَقُولُ: أَنْتَ أَبُو زَيْدٍ»[7]

والحق أن الكُدْيَة وإن غلبت على المقامات، فقد عالجت المقامات موضوعات أخرى كالوعظ في المقامة الوعظية والأهوازية، والمدح في المقامات الست التي مدح فيها خلف بن أحمد: الناجية، والخلفية، والنيسابورية، والملوكية، والسارية، والتميمية.

وبعضها يتضمن الحجاج في المذاهب كالمقامة المارستانية، وبعضها للكلام عن الشعراء ونقد الشعر، كالمقامة القريضية والشعرية والعراقية والإبليسية، والجاحظية، وبعضها يتضمن حوادث زمانه وأخلاق معاصريه وأحوالهم، كالمقامة الأسدية والخمرية التي نرى فيها أبا الفتح السكندري إماما في مسجد يشم رائحة الخمر من عيسى بن هشام وأصحابه فيزجرهم ويشتمهم، ثم نراه بعد في حانة يلقاه فيها هؤلاء. وكالمقامة الرُّصافية التي ذكر فيها أصناف اللصوص وحيلهم، وغير ذلك.[8]

الرسائل

وأما الرسائل فهي شاهدة على علو كعب بديع الزمان في ميدان البيان، وقدرته على جمع شوارد الألفاظ، وحسن اقتباس الآيات القرآنية، والأبيات الشعرية والأمثال العربية، وتوظيف ذلك كله في مواضع لا زيادة عليها في الحسن، وكان في رسائله أسجع منه في مقاماته. وقد استخدم بديع الزمان هذه الرسائل النثرية في الأغراض الشعرية، كالمدح والفخر والهجاء والاستجداء، والشوق والشكوى والتعزية والتهنئة وغيرها. ومما جاء في رسائله، مما يتخذ دليلا على أسلوبه:

الماء إذا طال مُكْثُه، ظهر خُبْثُه، وإذا سَكَن مَتْنُهُ تحرَّك نَتْنُه، وكذلك الضيف يَسْمُجُ لقاؤه إذا طال ثَوَاؤُه، ويثقل ظله إذا انتهى محله، والسلام.[9]
ومن رسائله كذلك:
حَضْرَتُهُ التي هي كَعْبَةُ المُحْتاج، لا كعبة الحُجَّاج. ومَشْعَر الكَرَم لا مشعر الحَرَم. ومُنَى الضيف لا مِنَى الخيف. وقبلة الصِّلات لا قبلة الصَّلاة.[10]
وله في التعزية:
الموت خَطْبٌ قد عَظُمَ حتى هان، ومَسٌّ قد خَشُنَ حتى لان. والدنيا قد تنكَّرت حتى صار الموت أخَفَّ خطوبها، وجَنَتْ حتى صار أصْغَرَ ذنوبها. فلتَنْظُرْ يَمْنَةً؛ هل ترى إلا مِحْنة؟! ثم انظر يَسْرَةً؛ هل ترى إلا حَسْرَة؟!.[11]

ديوان الشعر

على الرغم من أن بديع الزمان اشتُهر بالنثر والكتابة فإن له ديوان شعر يتضمّن زُهاء ألف وثلاثمائة بيت، منها ست وثلاثون قصيدة وقطعة في المديح؛ مدح بها الملوك والأمراء والوزراء، فمدح السلطان محمود الغزنوي، وخلف بن أحمد، وابن ميكال، والصاحب ابن عبّاد، وجماعة من رؤساء جُرجان ونيسابور وهراة.

وهو يجري في المديح على السنن المعروفة ولكنه لا يلتزم الغزل في أول المدائح ولا يطيل في معظمها. وله شعر في الرثاء والغزل والمواعظ ووصف الأسد، والليل، وغيرها. لكنك لا تجد في شعره الفحولة التي تجدها في نثره. ولعل هذا يرجع إلى أنه نظمَ أغلب شعره في أوائل حياته، ثم هو يلعن النظْم في كلامه عن الخوارزمي في بعض رسائله، وهذا دليل على أنه مال عن الشعر، «هو خوارزمي ولست من خوارزم، وهو شاعر ولعن الله النظم». وأوضح من هذا قوله في رسالته إلى ابن ظهير رئيس بلْخ (بأفغانستان الآن):

وتظل مقامات الهمذاني أبرز ما قدّم للأدب العربي ولفن الكتابة بعامة، حتى إن من جاءوا بعده وساروا على نهجه لم يبلغوا شأوه، فقد كتبَ الحريري مقامات كانت أكثر طولا من مقامات الهمذاني، لكنه لم يبلغ ما بلغ الهمذاني من إتقان الصنعة، وفي ذلك يقول الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد محقّق مقامات الهمذاني: «نسج الحريري على منوالها، وهيهات أن يدرك الظالع شأو الظليع»[13]. وقد نسج على منوالها كذلك نصيف اليازجي في القرن الثامن عشر.


وفاته

كنتُ نويتُ ألا أقول الشعر فأبت النملة إلا الدبيب، وأجدني قد اكتهلتُ والكهل قبيح به الجهل.[12]

كان الهمذاني يتعجّل العمر ويستكثر السنين، فهو يتكلم عن الشيب في مدحه خلف بن أحمد وهو في سن الخامسة والعشرين، ويرحب بالشيب ويفضله على الشباب وهو في سن الثلاثين:

فجزى الله الشيبة خيرا، إنها لأناة، ولا رد الشبيبة إنها لهناة، وبئس الداء الصبا وليس دواؤه إلا انقضاؤه. وأظن الشباب والشيب لو مُثِّلَا لكان الأول كلبا عقورا، والآخر شيخا وقورا، ولاشتعل الأول نارا وانتشر الآخر نورا. والحمد لله الذي بيّض القار وسماه الوقار. وعسى الله أن يغسل الفؤاد كما غسل السواد. إن السعيد من شابت جملته، والشقي من خضبت لحيته.

وفي رسالة أخرى: «وأسال الله خاتمة خير وعاجل وفاة. إن بطن الأرض أوسع من ظهرها وأرفق بأهلها». فهذا ينم عن طبع مكتئب وصدر يضيق بالحياة وكأن وفاته في سن الأربعين كان استجابة العمر لهذه السجايا [14].

ويقول الثعالبي: «وحين بلغ أشده وأربى على الأربعين سنة ناداه الله فلباه، وفارق دنياه». وكان ذلك في يوم الجمعة الحادي عشر من جمادى الأول سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة (يناير/كانون الثاني 1008م). وقد كانت وفاته في هَراة (غرب أفغانستان الآن).

وقد روى ابن خلّكان في كتابه «وفيات الأعيان» عن الحاكم أبي سعيد عبد الرحمن بن محمد الذي جمع رسائل بديع الزمان، أنه لما مات بديع الزمان عَجَّلوا بدفنه، وكان ما زال فيه بقية من روح، فأفاق في قبره، وسُمِع صوته بالليل، ونُبِشَ عليه فإذا هو قابضٌ على لحيته مَيْتٌ من هول القبر![15].

المراجع
  1. عبد الوهاب عزام، بديع الزمان الهمذاني (1)، الرسالة، ع 38، ص 502.
  2. ياقوت الحموي، معجم الأدباء، دار الغرب الإسلامي، ج1، ص 234.
  3. الثعالبي، يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر، دار الكتب العلمية، ج4، ص 295
  4. عبد الوهاب عزام، بديع الزمان (3)، الرسالة، ع41، ص 619.
  5. اليتيمة، ج4، ص 295.
  6. اليتيمة، ج4، ص 293.
  7. مقامات الهمذاني، شرح محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة الأزهرية، 1932، ص 69.
  8. عبد الوهاب عزام، بديع الزمان (7)، الرسالة، ع 46، ص 862.
  9. اليتيمة، ج4، ص 302.
  10. وفيات الأعيان، ج1، ص 128.
  11. اليتمية، ج4، ص 298.
  12. عبد الوهاب عزام، بديع الزمان الهمذاني (5)، الرسالة، ع44، ص 783.
  13. مقامات الهمذاني، ص 5.
  14. عبد الوهاب عزام، بديع الزمان الهمذاني (3)، الرسالة، ع 41، ص 621.
  15. وفيات الأعيان، ج1، ص 129