هل هناك رمز يمكن من خلاله قراءة تاريخ مصر في مختلف العصور؟

قبل أن تجيب فكر معي فيما يلي: الأهرامات تحكي تاريخ الفراعنة، والكنائس تحكي تاريخ القبط، والمساجد تحكي تاريخ المسلمين، والقصور تحكي تاريخ السلاطين، والأحياء الشعبية تحكي تاريخ البسطاء والعوام، وهكذا … ولكن من يحكي ويجمع لنا كل ذلك؟

إنها الحمامات العامة … لا تندهش؛ فهي الأيقونة التي تحكي جدرانها تاريخ مصر وثقافة أهلها في مختلف العصور.


مصر الفرعونية

بدأ التطهر في مصر القديمة منذ عصور ما قبل التاريخ،وكان شرطًا أساسيًا لكل من يدخل المعبد سواء كان ملكًا أو كاهنًا أو من عامة الشعب، وقد سبق المصريون العالم في تشييد الحمامات في بيوتهم؛ إذ يُرجَّح أن أول حمَّام شهدته المجتمعات الإنسانية كان في الحضارة الفرعونية عام 3000 قبل الميلاد، وفقًا للموسوعة العربية الميسرة.

وكان الحمام يتصل بغرف النوم ويقع في الجزء الخلفي من البيت أو القصر، وقد عبّر (هيرودوت) عن دهشته من ذلك، فقال: «عجبت للمصريين يتناولون طعامهم بالخارج، ويقضون حاجتهم بالداخل، معتقدين أن الضرورات القبيحة يجب أن تأتي في الخفاء».

نبع حرص المصريين الشديد على النظافة من إدراكهم بارتباط ذلك بالصحة والبيئة، وبالرغم من عدم وجود مياه جارية بالمنازل إلا أنهم كانوا يملكون حمَّامًا، وكانوا يجمعون مياه الصرف في حفر؛ حتى لا يُلقونها في النهر المقدس أو الشوارع، فيؤذون المارة والبيئة.

ويرجع بناء الحمامات الجماعية في مصر إلى آخر القرن الرابع قبل الميلاد مع غزو الإسكندرية، حيث كان المصريون واليونانيون والرومان يتوارثون هذا التقليد الذي اعتُبر ممارسة صحية وثقافية واجتماعية، وتعد مباني هذه الحمامات شاهدًا أثريًا مهمًا على تواجد أماكن اجتماعية وذات هوية في آن واحد.

وعندما بدأ اليونانيون بناء الحمامات في مصر، كان يجب على المعماري اليوناني أن يأخذ في الاعتبار نظرة المصريين الخاصة عن الجسد والصحة والخصوصية، لذا فهي تُعد شكلًا من أشكال امتزاج الثقافة والحفاظ على خصوصية الدولة.


قبل أوروبا

استخدم الإغريق الحمامات للاسترخاء بعد عناء الألعاب الرياضية التي كانت رمزًا حضاريًا لهم، كالجري والمصارعة، وقد بدأ ازدهارها حينما احتوت على مرافق رياضية وثقافية، وصارت تمثل مظهرًا من مظاهر الترف والرفاهية، كما استخدمها الفلاسفة والشعراء كتجمعات لترويج إبداعاتهم، وتبادل النقاش مع المثقفين.

وقد عُثر بإسكتلندا على مراحيض أثرية تعود إلى عام 3000 قبل الميلاد، ومثّلت هذه المراحيض صورة من صور التأثر بالحضارات الأخرى الأكثر تقدمًا حينها، مثل الحضارة الرومانية التي كانت الحمامات العامة والخاصة بها امتدادًا للتصميمات الموجودة في الحضارتين المصرية واليونانية؛ فبعد رؤية الحمامات العامة في مصر أنشأ الرومان الحمامات العامة، واهتموا بضخامة حجمها، مثل حمامات Caracalla التي كانت أكبر بست مرات من كاتدرائية القديس بولس، ويمكن أن تستوعب أكثر من 1600 شخص.

في الوقت نفسه كانت أوروبا الوسطى والجنوبية تعرف المراحيض البسيطة، حتى عام 1700 قبل الميلاد، عند إنشاء قصر كنوسوس الملكي، الذي احتوت مراحيضه على أحواض كبيرة متصلة بإمدادات المياه التي تنتقل عبر أنابيب، وكانت حمامات أوروبا تُبنى في الغالب على حدود القلاع والقرى، لاستخدام نفاياتها في طرد العدو، ولكن هذه النفايات جذبت العديد من الأمراض، خاصة أن الذين يعيشون بالقرب من الأنهار كانوا يلقون نفاياتهم فيها، ولم تتطور الحمامات الأوروبية حتى منتصف القرن السادس عشر.


مصر الإسلامية

عرف المسلمون الحمَّامات العامة مع الفتح الإسلامي لمصر، وحظي بأهمية كبيرة في العمارة الإسلامية، كمكمل ضروري للمسجد، وقد اختلف المؤرخون حول تحديد بداية الحمام الإسلامي، فبحسب ابن دقماق وابن خلدون شيّد عمرو بن العاص أوّل الحمامات الإسلامية بالفسطاط، في حين يذكر المقريزي أن العزيز بالله الفاطمي هو أوّل من بنى ما يُسمى بالحمامات العامة.

ورغم الاختلاف إلا أن المؤكد أن العصر الذهبي للحمامات العامة في مصر بدأ في زمن العثمانيين، الذين كانوا يطلقون عليها «الطبيب الأبكم»؛ لأن المعالجين كانوا يستخدمون بها الأعشاب الطبية والزيوت لعلاج المفاصل والالتهابات وبعض أمراض الجلد، دون أن يتحدثوا.

ويرجع السبب في إنشائها إلى أن التجار كانوا يسافرون لمسافات طويلة ومرهقة، فيقصدون الحمامات للاسترخاء والتخلص من عناء السفر، ثم ذاع صيتها فصارت ملتقى الحكام والتجار والعوام.

وتؤكد باحثة التونسية أن الحمامات ظلت إرثًا تتوارثه الحضارات، إلى أن أصبح ذا طابع خاص في الحضارة الإسلامية التي حافظت على مكوناته المعمارية الأساسية وأضافت إليه من روحها، ليصبح تقليًدا إسلاميًا أصيلًا بعد اندثاره في الحضارات الأخرى. وحتى نهاية القرن التاسع عشر ظلّت الحمّامات من سمات العمارة الإسلامية البارزة، ولا سيّما لارتباط الإسلام بالطهارة والنظافة.


التراث الشعبي

تروي الحمامات العامة حكايات شعبية تعبر عن جانب من جوانب حضارة وثقافة المصريين، منها «حمام إينال» الذي خرج منه المثل الشعبي الشهير «اللي اختشوا ماتوا»، حيث فرّت الفتيات عاريات بعد اندلاع حريق في الحمام، أما «اللي اخشتوا» فقد ماتوا في حريقه.

وقد ارتبط الحمام بالكثير من المواقف الاجتماعية، فكل مرحلة جديدة من مراحل الإنسان كانت تُرافَق برحلة إلى الحمّام (ولادة- طهور- بلوغ- زواج)، وكان من تقاليد الزفاف أن يدخل كلا العروسين الحمام؛ ليستحم ويتزيّن، ثم يخرج في موكب (زفّة) تصحبه الأغاني والطبول، كذلك كانت تُقام فيها احتفالات «الطهور» والولادة.

وترصد دراسة عن الحمامات وظيفتها كملتقى اجتماعي، حيث كانت مكانًا لاجتماع الرجال وكذلك النساء، وعقد الصفقات التجارية، وتقديم خدمة الاغتسال للمسافرين والعاملين في المهن اليدوية، كما كانت تمثل نقطة لقاء مركزية في الحي؛ لوجود الفرن والسبيل بجوار الحمّام؛ للاستفادة من الحرارة والنار وتوفّر المياه.

ويرصد كتاب «جماليات الحمامات في الحضارة العربية الإسلامية» أن الحمامات في مصر «كانت تتبع طقوسًا خاصة في الاستحمام تخضع للديانة، فمثلًا حمام المقاصيص بالجمالية كان معظم زبائنه من اليهود، وحمام الثلاثاء بالموسكي كان خاصًا بالمسيحيين، وحمام سعيد السعداء بالجمالية كان لا يدخله سوى المتصوفة».

كذلك يسرد الكتاب طرائف للحمامات، ومنها أن حمام العفيف كان مكتوبًا على مدخله «من يطلب العافية من ربٍ لطيف فليقصد الله ثم حمام العفيف»… وقد علّل ابن ظهيرة في كتابه «الفضائل الباهرة في محاسن مصر والقاهرة» رقة نساء مصر وحلاوتهن بكثرة ذهابهن إلى الحمام.

إلى جانب ذلك فقد استُخدمت الحمامات كمصحّات علاجية؛ للمعالجة بالزيوت والنباتات الطبية والتدليك، و ذكر بعض المؤرخين أن الحكومة استخدمت حمام الطمبلي بباب الشعرية عام 1940؛ للقضاء على مرض التيفوئيد، فكان العسكر يجبرون الناس على دخول الحمام للاستحمام، والحصول على مُطهِّر.


التراث الحضاري

كانت الحمّامات دليلًا على التطور الاجتماعي والاقتصادي للمدينة، فعندما قرر الخليفة الوليد بن عبد الملك بناء الجامع الأموي بدمشق أعلن أن الجامع سيضيف إلى مكانة دمشق وفخر أهلها بحمّاماتهم، فقال: «تفخرون على الناس بأربع خصال… بمائكم، وهوائكم، وفاكهتكم، وحمّاماتكم، فأحببت أن يكون مسجدكم الخامسة»، ومن هذا يتضح أن الحمام كان مظهرًا من مظاهر التفاخر والتحضر.

وتمثل الحمامات أيقونات تراثية وتاريخية؛ فبعضها يتخطى عمره 500 عام، ومن بين الحمامات الشعبية المحافظة على وجودها «حمام الأربعاء» ببولاق الدكرور، و«حمام الملاطيلي» بباب الشعرية، وحمامات أخرى شهيرة بحي الحسين، مثل «التلات» و«السلطان» و«العباسية» و«المرجوشي»، وقد استطاعت تلك الحمامات أن تقهر الاندثار والتلاشي، وأن تحافظ على أصالتها ومُريديها، أمام منافسة «Beauty Center» و«Spa» والنادي الصحي.


التراث المعماري

اتسم بهو الحمامات الشعبية القاهرية بالديكورات والزخارف، والأبواب الصغيرة، والممرات المتعرجة؛ لمنحها الخصوصية، وتوفير الهدوء، ومنع التيارات الهوائية والضوضاء، وورد في كتاب «جماليات الحمامات في الحضارة العربية الإسلامية» أن مصر كانت «أكثر بلدان العالم الإسلامي اهتمامًا بإنشاء الحمامات… وكانت الحمامات في مصر تؤشر على أبهة في المعمار، والروح الفنية العالية لدى الحرفيين المصريين، ومدى ما بلغه الناس من رفاهية… فأرضها مرخّمة بأصناف الرخام المجزّع باختلاف ألوانه، وجدرانها وأسقفها وقبابها مبيّضة بياضًا ناصعًا، ومرسومة بزخارف وزهور مختلفة الألوان، وقبابها الكبرى مرصّعة بزجاج من كل الألوان، بحيث إذا دخلها الإنسان لم يؤثر الخروج منها، أما قاعاتها الرئيسية فترتفع فيها نوافير مياه توفر طراوة لطيفة معتدلة تجعل الجسم يسترخي في حلم وردي لا نهاية له».

وقد حرص المصريون على نظافة الحمامات وجمال الطرز المعمارية لها،فأبهرت الرحّالة الأجانب، وعلماء الحملة الفرنسية، واعتبروها مظهرًا حضاريًا لا يُضاهى حسنًا وبهاءً.

وفي العصر الإسلامي كان الحمام من الميزات الأساسية للمدن الإسلامية المُطلة على البحر المتوسط، وكان وحدة معمارية أساسية في المخطط المعماري للمدينة إلى جانب المسجد والسوق، ومثّلت بعض الحمامات نمطًا معماريًا فخمًا بواجهاتها وزخارفها التي استُخدم فيها أحدث أساليب البناء والفن المعروفة، وتميزت بالاندماج مع المحيط المبني حولها، والتناسب مع روح وطبيعة المكان، وتشير دراسة ميدانية إلى أن الحمامات في مصر بُنیت على الطرق الرئيسية، وفي التجمعات السكانية والتجارية الكثيفة، والمناطق النشطة اقتصاديًا، فنجدها مثلاً في القاهرة موزعة على المحور الرئيس للمدينة، وهو مكان اجتماع السكان المحليين والوافدين.


الوضع الحالي

كان للحمامات العامة دور صحي واجتماعي وحضاري مهم، ما أدى إلى اهتمام السلاطين والحكام بترميمها باعتبارها من المنشآت الحيوية التي تقدم خدمات عامة مهمة للناس، لكن وصول المياه إلى البيوت، واحتواء المنازل على حمّامات خاصة، والتخوف من نقل الأمراض، وارتباط الحمامات بعادات قديمة لا تناسب الحياة المعاصرة- كل ذلك أدى إلى قلة ارتياد الناس للحمّامات العامة، مما أسهم في إهمالها شعبيًا وحكوميًا، وبالتالي تدهورت حالتها العمرانية، وفقدت زبائنها وروادها إلا القليل منهم، وبعدما كانت ملتقى للطبقة المتوسطة والثرية، صار بعضها يأوي المشردين والمجرمين، ولم تعد درة معمارية متناسقة مع محيطها، بل صارت بنايات غريبة وسط محيط معماري «مودرن» أو شعبي متهالك.

وعلى المستوى الرسمي أهملت الحكومة الحمّامات فصارت في حالة مزرية ومتهالكة؛ بسبب إهمال وتكاسل وزارة الآثار في ترميمها والحفاظ عليها، ورغم أنها مبانٍ أثرية عمرها مئات السنين إلا أن الإهمال تسبب في انهيارها، وتحول أغلبها من مزار سياحي إلى مرتع للمخلفات والحيوانات النافقة، وملاذ للحيوانات الضالة والمشردين، ولم ينجُ منها إلا القليل،ضمن خطط هزيلة ومتباطئة لوزارة الآثار.

كانت الحمامات تراثًا معماريًا وعلاجيًا واجتماعيًا ربما أهملته الدولة حين أهملت التراث والصحة والمجتمع، لكنها ستبقى أيقونة تراثية وحضارية بارزة في تاريخ المحروسة، لا تقل أهمية عن الآثار الفرعونية والقبطية والإسلامية؛ فهي تحكي تاريخنا وتشير إلى تحضرنا قديمًا وتدهور أوضاعنا حديثًا.