لم يتصور الأوكرانيون  في أسوأ كوابيسهم أن تتصدر عاصمتهم كييف نشرات الأخبار حول العالم، بمثل ما تصدرت به من قبل بغداد ودمشق والقدس … وسواها من عواصم الشرق الأوسط المأزوم حصريًّا – هكذا تصور الكثيرون خطأً – بالحروب والدمار.

لا تتحدث أخبار كييف الآن عن اشتباكاتٍ متفرقة أو غاراتٍ روسية متقطعة، إنما اجتياحٌ عسكري شامل يستهدف احتلال تلك العاصمة الإستراتيجية ذات الـ 3 ملايين نسمة، ويكفينا للتدليل على خطورة ما يحدث، الخبر الذي تناقلتْه وسائل الإعلام كافةً قبل أيام، عن التقاط الأقمار الصناعية المتحفزة صورًا لرتل عسكري روسي مُدرع طوله حوالي 60 كم يستهدف تطويق كييف واقتحامها.

لكن ما لا يعرفه الكثيرون من المعاصرين الذين اعترتْهم الصدمة من جرَّاء ما تنقله وسائل الإعلام على مدار الساعة من كييف وغيرها من المناطق الأوكرانية، أنه بالنسبة لكييف، فلا شيءَ من هذا جديدٌ، ولا مفاجأة هنالك، فللمدينة تاريخ قوي مع المعارك الحربية الفاصلة، ولعل من أبرزها في العصر الحديث معركة كييف عام 1941م، أحد أهم فصول الحرب العالمية الثانية، وقد خلَّدتها المراجع الحربية بصفتها أكبر معركة تطويق عسكري في التاريخ.

والآن نعود إلى الوراء 81 عامًا، إلى صيف عام 1941م الملتهب، والذي شهد اندلاع واحدةٍ من أشرس الفصول الحربية في كتاب الحرب العالمية الثانية، وهي العملية بارباروسا، وهو الاسم الرمزي للغزو النازي للاتحاد السوفييتي، والمأخوذ من لقبٍ لإمبراطورٍ ألماني شهير في العصور الوسطى هو فريدريك الأول.

بدأ الغزو النازي فجأة في يوم 22 يونيو 1941م، وسبَّب صدمةً كبرى للعالم أجمع، وللاتحاد السوفييتي على وجه الخصوص، فليس من السهل تصديق أن طرفًا مسالمًا لك قد حشد على حدودك أضخم قوة غزو عرفها الإنسان، تتكون من أكثر من 3 ملايين جندي، و3 آلاف دبابة من نوع بانزر الأحدث في العالم، و7 آلاف مدفع، وبدأ الغزو بسقفٍ مفتوح من النيران والدمار والدماء.

الغزو الألماني الكاسح

 

في أغسطس عام 1939م، بلغت العلاقة الودية بين ألمانيا النازية والاتحاد السوفييتي ذورتها بعقد معاهدة عدم اعتداء بين الطرفين، شملت بنودها السرية اقتسام بولندا بين الجانبيْن بحيث يكون جزؤها الشرقي للسوفييت، والغربيُّ للنازيين. بعد أن أمِنَ النازيون من جهة الشرق باتفاقهم مع السوفييت، اتجهوا بالقوة الضاربة لآلتهم العسكرية غربًا فابتلعوا خلال أشهرٍ قليلة من أواخر 1939م إلى منتصف 1940م أبرز بلدان أوروبا الوسطى والغربية، وفي مقدمتها بلجيكا وهولندا وفرنسا. ولم يبقَ من قوةٍ مؤثرة يخشاها النازيون غربًا سوى إنجلترا المعزولة في جزيرتها، فقرَّر هتلر أن يوليَ وجهه مرة أخرى صوبَ قبلته الشرقية.

كان لعاب هتلر والنازيين يسيلُ على الجزء الغربي من الاتحاد السوفييتي لا سيَّما أوكرانيا وشبه جزيرة القرم وبعدهما القوقاز، حيث يتوافر الذهبان الأبيض (القمح) والأسود (النفط)، إلى جانب الموقع الإستراتيجي الخطير الذي يضع ألمانيا النازية على بعد قفزةٍ واحدة من الوثوب على موسكو عاصمة روسيا الشيوعية، وإخراج السوفييت من الحرب، وإخضاع الشعوب السلافية المختلفة (الروس – الأوكران … إلخ) التي كان يعتبرها النازيون عرقًا أقل رقيًّا من العنصر الآري الألماني. 

كان من المخطَّط أن يبدأ غزو الاتحاد السوفييتي في ربيع 1941م، ليكون هناك متسعٌ من الوقت قبل حلول الشتاء الروسي القارس قاهر الغزاة. لكن اضطر الألمان في أبريل ومايو 1941م إلى احتلال اليونان وصربيا أولًا لدعم حليفهم المتعسِّر إيطاليا الفاشية بزعامة موسوليني، ورغم الانتصار الكاسح في تلك المعركة الجانبية، فإن هذا التأخير سيكون ثمنه الإستراتيجي والتاريخي باهظًا للغاية. 

عبر جبهة عريضة يبلغ طولها ما يقارب 3000 كم،  تمتد من بحر البلطيق شمالًا إلى البحر الأسود جنوبًا، بدأ الهجوم الألماني الواسع، والذي اصطدم بعد ابتلاع ما بقي من بولندا الشرقية بحوزة السوفييت، بما كان يُعرف بخط ستالين الدفاعي، والذي كان يتشكل من أكثر من 7 آلاف ثكنة ودشمة عسكرية حصينة، تتوزع بشكلٍ متقطع على طول الحدود الغربية للاتحاد السوفييتي، وأنشئت على مدى 11 عامًا (1928-1939م)، وإلى جانب تلك التحصينات، حشد السوفييت أكثر من 200 فرقة عسكرية، وآلاف الدبابات والطائرات، والتي كانت تتفوق على نظائرهم عددًا، وإن تأخرت عنها كثيرًا في التقنية. 

قسَّم الألمان قواتهم الغازية إلى 3 مجموعاتٍ كبرى، واحدة من الشمال باتجاه دول بحر البلطيق (لتوانيا وأستونيا ولاتفيا) وتستهدف احتلال العاصمة التاريخية للروس سان بطرسبرج. ومجموعة جنوبية تحتل جنوبي أوكرانيا والقرم وصولًا إلى القوقاز. أما في منتصف الجبهة، فمجموعة تتجه عبر بيلاروسيا صوب سمولنسك ثم الجائزة الكبرى موسكو، عاصمة الاتحاد السوفييتي. وكان توسيع الهجوم بهذا الشكل يهدف إلى تشتيت الدفاع الروسي، وتفويت الفرصة لتوجيه هجوم مضاد مركَّز ضد القوات الغازية.

كان النجاح الألماني باهرًا في الأيام الأولى من الغزو، فقد أسقط الطيران الألماني في اليوم الأول فقط أكثر من ألف طائرة سوفييتية، ثم سقط أكثر من 300 ألف أسير سوفييتي في قبضة الألمان في بيلاروسيا شمالًا، ثم 200 ألف في سمولنسك. لكن في يوليو تباطَأ الهجوم قليلًا نتيجة سياسة الأرض المحروقة التي اتبعها السوفييت المنسحبون، حيث أحرقوا ودمروا كل ما يمكن أن يستفيدَ منه الألمان لا سيَّما المزارع والمصانع والسكك الحديدية والطرق. 

بنهاية يوليو 1941م، كانت الفرق المدرعة الألمانية في الجزء الأوسط من الجبهة على بعد ما يقارب 350 كم فحسب من موسكو، وهنا في الثاني من أغسطس، فجأة قرَّر هتلر مخالفة نصائح معظم القادة العسكريين الألمان، وتأخير الهجوم على موسكو، والتوجه لاحتلال العاصمة الأوكرانية كييف أولًا، والتي كان يحميها خطان دفاعيان قويَّان، ضمن ما كان يُعرف بمنطقة كييف الحصينة، إلى جانب مانعٍ طبيعي هو نهر الدنيبر. رأى هتلر – كما أشرنا سابقًا – أن الأولوية لتأمين كامل أوكرانيا ثم القوقاز، لمواردها الغنية، لكنه كنوعٍ من الحل الوسط مع جنرالاته أصدر أوامره بأن تجتمع الفرق المدرعة الألمانية من القطاعيْن الأوسط والجنوبي من الجبهة بعد احتلال كييف، وتتوجه صوب موسكو.

بحلول مطلع أغسطس، كانت القوات الألمانية قد عبرت نهر الدنيبر الذي يفصل أوكرانيا إلى نصفيْن، شرقي وغربي، واحتلت نتوءيْن غائريْن داخل العمق الأوكراني شمال وجنوب كييف، وكانت الخطة أن تغلق القوات المهاجمة الفجوة بين الاتجاهيْن الشمالي والجنوبي والبالغ طولها 180 كم، وبذلك تكون كييف قد أصبحت داخل جيبٍ محاصر بالكامل.

 

التطويق الأضخم في التاريخ

في كتابه الصادر عام 2011 بعنوان Kiev 1941 .. Hitler’s battle for supremacy in the east يصف الباحث دافيد شتال لقاءً عاصفًا جمع بين الدكتاتور السوفييتي جوزيف ستالين وكبار جنرالاته في يوم 19 يوليو 1941م، لمتابعة الموقف الحربي الصعب على الجبهة الغربية للاتحاد السوفييتي في أعقاب شهرٍ من اندلاع الغزو النازي.

في ذلك الاجتماع حذَّر المارشال السوفييتي زوكوف، رئيس أركان حرب الجيش الأحمر، من أن الجزء الأوسط من الجبهة المتمثل في المناطق الأوكرانية، يمثل خاصرة ضعيفة يصعب الدفاع عنها بفاعلية، وأن الأجدر هو الانسحاب من منطقة كييف، باتجاه شرقي أوكرانيا. ثارت ثائرة ستالين، ووجه إهاناتٍ غير لائقة للمارشال لمجرد اقتراحه فكرة الانسحاب من ثالثة كبريات مدن الاتحاد السوفييتي، معلنًا أن الحفاظ على كييف بأي ثمن هو قراره، وقبل ستالين استقالة زوكوف من منصبه في نفس الاجتماع. كان ثمن عناد ستالين هذا في مسألة كييف باهظًا للغاية، فقد فقدَ بعد شهريْن كييف، وخسر معها أكثر من نصف مليون جندي سوفييتي، في وقتٍ حرجٍ للغاية.

وبينما بدا لكل ذي عينيْن أن تطويق كييف قادم لا محالة، إذ كانت القوات الألمانية المتوغلة تغلق شيئًا فشيئًا الفجوة بين قطاعيْها الشمال والجنوبي في أوكرانيا، كانت القيادة السوفييتية تدفع يوميًّا بمئات الجنود عبر خط السكة الحديدية الذي ما يزال يربط العمق الروسي بكييف، بدلًا من الانسحاب الذي نصح به الخبراء السوفييت. 

لم يكن الأمر نزهة بالنسبة للجيش النازي، فقد قاومت القوات السوفييتية والميليشيات المحلية بشراسة، وبلغت خسائر الألمان في ذروة المعارك أكثر من 1600 قتيل يوميًّا.

في النهاية، بحلول 16 سبتمبر 1941م، تقابل فكَّا الكماشة الألمانيان لا سيما الفرقتيْن المدرعتيْن الأولى والثانية، من الشمال ومن الجنوب في بلدة لوكفيتسا الأوكرانية الواقعة على بعد 180 كم إلى الشرق من كييف، واكتمل بذلك تطويق وحصار 4 جيوش سوفييتية كاملة في جيب كييف، هي الخامس والـ 21 و الـ 26 و الـ 37، والتي كانت تمثل معظم قوات الجبهة الجنوبية الغربية السوفييتية، وفي تلك اللحظة العصيبة، وبعد فوات الأوان، وصل إذن القيادة السوفييتية للسماح بالقوات المحاصرة في كييف بالانسحاب.

في اليومين التاليين، دارت معارك طاحنة في كل الاتجاهات في جيب كييف، بين القوات الألمانية، والمحاصَرين السوفييت الذين يقاتلون قتال اليائس، محاولين فتح أية ثغرة في الخطوط الألمانية باتجاه الشرق للانسحاب، لكن دون جدوى. نجح الألمان في عزل الجيوش السوفيتية عن بعضها، وحصارها في جيوبٍ معزولة. سقط أكثر من 600 ألف جندي سوفييتي بين أسير وقتيل وجريح، واستولى الألمان على ما يقارب 3 آلاف دبابة ومدفع، ولم ينجح في الانسحاب سوى 15 ألف جندي وضابط سوفييتي، كان منهم بعض الأسماء البارزة، مثل نيكيتا خروتشوف الذي سيقود الاتحاد السوفييتي بعد ستالين عام 1953م.

 

أما مدينة كييف نفسها، فقد دارت المعارك في ضواحيها لمدة شهر ابتداءً من النصف الثاني من أغسطس، واستمات الجيش الخامس السوفييتي المكون من مائة ألف جندي في الدفاع عنها، وتبادل الطرفان الاستيلاء على المواقع المهمة في كييف وحولها، لكن بعد اكتمال التطويق في منتصف سبتمبر، أصبح سقوط كييف مسألة وقت لا أكثر. في الثامن عشر من سبتمبر، شنَّ الطيران الألماني غاراتٍ مدمرة مكثفة على كييف، ملقيًا عشرات الآلاف من القنابل على رءوس المحاصرين بداخلها من المدنيين والعسكريين، وذلك لتسريع الاستسلام، وهو ما حدث في اليوم التالي.

بعد سقوط كييف في 19 سبتمبر 1941م  بأيامٍ قليلة، نجح السوفييت  في تفجير العديد من مقار القوات النازية في المدينة عبر قنابل كانت مخبَّأة أسفلها وبداخلها قبل الاستسلام، فجُنَّ جنون النازيين، وألقوْا باللائمة على يهود كييف وكانوا يعدون بعشرات الآلاف، فألقوا القبض على أكثرهم، وقتلوا منهم أكثر من 30 ألفًا رميًا بالرصاص في منطقة وادي بابي يار شمال غرب كييف، خلال يوميْ 29 و 30 سبتمبر من نفس العام، ثم في الشهور التالية تتبعت السلطات النازية بوحشية كل من يمكن أن يمثل مصدر خطرٍ ضدهم داخل مدينة كييف، فاعتقلوا وقتلوا عشرات الآلاف من سكان كييف لا سيَّما من الغجر واليهود والمتهمين بالانتماءات الشيوعية.

كييف 1943م: ما أبعد اليوم عن البارحة 

بعد ما يقارب العامين على كارثة كييف 1941م، كان هناك مشهد مغايرٌ تمامًا، في مسرح الحرب العالمي بوجهٍ عام، والساحة السوفييتية الأكثر دموية واشتعالًا بشكلٍ خاص. فقد تعثَّر الألمان في الجبهة السوفييتية أمام سطوة الشتاء السوفييتي عاميْ 1941 و 1942م، إلى جانب صلابة المقاومة السوفييتية رغم ملايين القتلى والجرحي في مدن سان بطرسبرج وموسكو (التي عندما بدأ النازيون في مهاجمتها، كان السوفييت قد حشدوا للدفاع عنها أكثر من مليون جندي وألف دبابة جديدة)، ثم درة تارج الصمود السوفييتي ستالينجراد، والتي استسلم الألمان في مواجهتها عام 1943م.

ليأخذ السوفييت  زمام المبادرة، ويشنون هجماتهم المضادة ضد النازيين، ويزحفون غربًا حتى يتمكنون من انتزاع كييف في نوفمبر 1943م، ثم بعد عامٍ ونصف، تصبح القوات السوفييتية أولى قوات الحلفاء اختراقًا لعاصمة ألمانيا النازية برلين في أبريل 1945م، لتدشَّن الفصل الأخير في الحرب الكونية الأكبر في التاريخ.