للوهلة الأولى قد تبدو رواية «بيت القشلة» للشاعرة والروائية المغربية «سكينة حبيب الله» وكأنها رواية البحث عن «الأب الغائب»، إلا أن سكينة قدّمت للرواية منذ البداية بعنوانها الذي يؤكد وجود ذلك البيت الذي لا تدور أحداثٌ كثيرة داخله، ولكن تستدعيه البطلة، بينما هي في رحلة عودتها أكثر من مرة، لكي تؤكد أن ذلك البيت المؤسس للرحلة والحكاية هو محور العمل أصلا، وهو منطلق الحكاية التي قادت وتقود إلى فهم البطلة لنفسها ووعيها بالعالم.

في روايتها الأولى الصادرة مؤخرًا عن الدار العربية للعلوم تقدّم «سكينة حبيب الله» حكاية «هاجر بوشعيب»، تلك الفتاة التي عانت طوال حياتها من غياب والدها، تعيش ناقمة عليه وعلى أمها، لا تفهم شيئًا من ذلك الماضي الغريب، ولا تعلم لغيابه واختفائه عنها سببًا، ثم ما إن تتعرّف على بقية فصول الحكاية حتى تفاجئ بأن أباها مثلها يهرب من حكاية شبيهة!

ما سمعته من والدتها ومن شهادة ميلادها أن والدها اسمه: بوشعيب، من أولاد الغوم، ولد في فيتنام، واختفى بعد أن أنجب طفلته الوحيدة، لطالما نظرت إلى وجهها وهي تبحث عن الشيء الذي رآه وجعله يهرب متخطيًا بحارًا وقاراتٍ دون أن يلتفت. رجّحت أن السبب قد يكون ذلك السواد الطفيف الذي يغطي أسفل جفنها الأيمن، تلك لا هي وحمة كاملة ولا هالة كاملة، إنها شيءٌ غامضٌ مطبوع على وجهها، كأن اللعنة التي تنبأت «تي مون» أن تلاحق سلالة الميلودي وأخذت هاجر تحاول عبثًا فيما بعد طمسها بالمساحيق.

ما إن ينغمس القارئ في تفاصيل حكاية «هاجر» ووالدها وجدها حتى يفاجأ بأن المسألة أكبر من رحلة الفتاة البسيطة، وأن الحكايات تتوالد بشكلٍ تدريجي ومتتابع، وأن الأمر فيه بحثٌ عميق وغائر حول الهويّة والإنسانية، وإن عُرِض من خلال تلك القصة التي تبدو بسيطة وعابرة، تتكشف لهاجر من خلال رسالة والدها ومذكراته قصة حياته، التي ظلّت خفيّة عنها طوال تلك الفترة، لتتعرّف على جزء مهم من تاريخها، وعلاقة عائلتها بالحرب في «فيتنام»، وما حدث لأمه بعد ذلك أثناء الاستعمار الفرنسي للمغرب.

ثمة حكاية طويلة تغوص في تاريخ «المغرب» وتتداخل مع عددٍ من الأحداث المهمة التي تنشأ عليها هذه الأسرة التي لم يكن لها إلا أن تتفكك في النهاية، وأن يكون مصير ابنتها ذلك المصير المزعج، تقرأ «هاجر» مذكرات والدها وما يسرده من تفاصيل حكاية «جدها» والده:

كانت ولادته سبب كل شيءٍ، وُلد أشقر من أمٍّ قمحية البشرة كشأن كل المغاربة. حين كبر قليلاً، وبدأت كلمات أهل القرية ـــ صغارا وكبارا ــ تصل إلى أذنهِ مخلِّفة أثرا كالصديد، سأل أمه عن حقيقة ما يقولونه، ثم أصرَّ على معرفة الحقيقة، ولكنَّها اكتفت بالنظر إلى الأرضِ. فهم من ذلك أنَّه بالفعل ابن النَّصراني، وأنَّ واحدا من جنودِ جيشِ الحماية الفرنسية استعمَر رحِمَ أمِّه حين كانت تشتغل في دور الجنرالاتِ، في البداية تغسل ثيابهم، قبل أن ينتهي بها الأمر إلى أشياء أخرى، كما يردد عجزة القرية.

لم يجد بدًا من الالتحاق بجيش المستعمر إذن، يريد الخلاص من ماضيه وحكايته التي لن يتمكن من العيش بوصمتها إلى الأبد، هناك فقط يشعر بحريته، وبأنه متساوٍ مع هؤلاء الجنود، كلهم يطيعون الأوامر ويمتثلون لتعليمات القادة الكبار، وبينما هو كذلك إذ يصل إليه وإلى رفاقه من المغاربة نبأ نفي الفرنسيبن لملك المغرب، وتنقلب حياته رأسًا على عقب مرة أخرى، ويرشحه رفاقه من الجنود المنشقين لكي يقتل الجنرال الفرنسي المكلف بالكتيبة، حتى يتمكنوا من الهرب، ويسميهم جنود فيتنام «الفارون النبلاء» حتى يجد نفسه في النهاية عائدًا إلى ما كان يهرب منه!

لم يكن أحدٌ ليتوقع أن عودته إلى «المغرب» أشق عليه من المشاركة في حربٍ ليس له فيها ناقة ولا جمل، وجد نفسه مرة أخرى في مواجهة ماضيه.

هو سؤال الماضي والحاضر مرة أخرى، يطل برأسه عبر حكاية «هاجر» وأبيها «بوشعيب» وجدها، وأثر ذلك في والدتها «مجهولة الاسم» وجدتها، هل يمكن الهروب من ذلك الماضي الذي يلاحق البسطاء والفقراء ويطاردهم كلعنة؟ وهل ثم فائدة أو جدوى من معرفة بقية الحكايات وأصولها، أم أن الجهل في هذه الحال يكون نعمة كبرى، لا يدرك قيمتها إلى من سعى وبحث وكشف عن الحقيقة حتى ظهرت آثارها في خطوات قدميه:

تمشي هاجر كل تلك المسافة، ولا شيء بوسعه تسليتها سوى أن ترمي نظرتها لأبعد مكانٍ وتجري خلفها مثل كلب، لم يكن من السهل عليها النظر إلى كل ظلٍ تلمحه آتيًا من بعيد، في تلك الطريق الفارغة كظلٍ لإنسان، بل كتمثلٍ حقيقيٍ لعزرائيل الذي سيأتي ليقبض روحها، لكنها وفي غمرة هذا الشعور كانت تخشى أن يُحكِم قبضته على عنقها فتنفلت الوصلة من فوق رأسها ويسقط الخبز. كان لديها يقينٌ لا ذرّة شكّ واحدة فيه، أنَّ كلثوم قادرة على اللحاق بها إلى الحياة الأخرى لتمنيَها بالعديد من الأختام على جسدها لأنها أسقطت خبزتيْها رديئتي الجودة، قبل أن تعودَ إلى حديقتها وتجلسَ رفقة الجاراتِ وكأس الشاي بالنعناع في يدها، وبين كل رشفة وأخرى، تمدّ لسانها لتلعقَ سنَّها الذهبية حركتها الشَّهيرة، بينما غرّة شعرها الأحمر تطلّ مثل شفقٍ من تحتِ الغيمةِ البيضاء التي تحزم بها رأسها كما لو أنَّها تعاني من صُداعٍ مزمن.

تنقلت «سكينة» في سردها بكل انسيابية بين حكاية هاجر وذكرياتها، وبين رواية الأب المكلوم «صان نام» التي روى فيها جزءًا من حكايته، وبين مذكراته التي حوت أسرارًا ومفاجآت أخرى تتعلق بالأسرة كلها، واستطاعت عبر لغتها الشاعرية وتفاصيل حكايتها الثرية أن تسحب القارئ إلى عالمها، وأن تروى حكاية ثلاثة أجيال بتفاصيلها المؤلمة دون أن تتجاوز مائتي صفحة، ولعل ذلك أثر الشعر (حيث أصدرت قبل هذه الرواية ديوانين متميزين) هو الذي جعلها قادرة تمامًا على تكثيف اللحظات والأحداث والمشاهد وقادرة على التعبير عنها بأقل قدر من الكلمات.

ورغم أن الرواية انتقلت مكانيًا بين أكثر من مكان، ودارت بنا في «فرنسا» و«المغرب» حتى «فيتنام» ومعسكرات الجنود الفرنسيين، إلا أن القارئ لا يشعر بالغربة ولا التشتت مع اختلاف تلك الأماكن، إذ ظلت بطلة الرواية هي محور الأحداث في البدء والمنتهى.