تصل مدة فيلم «بو خائفًا – Beau Is Afraid» إلى ثلاث ساعات، تبدأ الساعة الأولى في مدينة أبوكاليبسية، والساعة الثانية في منزل وغابة سحرية، والساعة الثالثة في منزل ضخم تلتف عمارته حول بعضها، يعني ذلك أن كل ساعة من الفيلم هي فصل مستقل مكانيًّا، يربط الفصول تيمة رئيسية، وهي خوف بو الوارد في العنوان، خوفه من العالم، خوفه من المجهول، والأهم خوفه من أمه.

تمثل علاقة الأبناء الذكور بأمهاتهم همًّا متكررًا لدى العديد من صناع الأفلام، ومن قبلهم بالطبع المحللون النفسيون، هي قضية تحليل نفسي بالأساس غالبًا ما تعزى لسيجموند فرويد الذي امتلك هوسًا ما بالأمومة وعلاقة الأبناء بالوالدين.

في بو خائفًا – الفيلم الثالث لآري أستر الذي صنع اسمًا لنفسه في عالم سينمائي جديد يحتضن السينما الفنية على أطراف السينما التجارية، خاصة في نوع الرعب – ينفصل أستر عن جذوره وتأثيراته الرئيسية التي ظهرت في متوارث Hereditary ونصف قفزة Midsommer، ويحتضن الميزانية الضخمة التي أودعت له ثقة في اسمه وماركته brand التي جمعت جمهورًا مخلصًا متفانيًا له ولرؤيته الفنية – من ضمنهم مارتن سكورسيزي نفسه – وبدلًا من تكرار نجاحاته في خلق عوالم تجمع الرعب الأسري المنزلي والرعب الشعبي الطقسي بتيمات المخاوف والصدمات النفسية، اختار صناعة فيلم يصعب تصنيفه، فهو فانتازيا كوميدية بها بعض سمات الرعب، وهو ميتا فيلم يتأمل وضعه الحكائي داخله، وهو كذلك فيلم دراسة شخصية.

تجسيد المخاوف خارجيًّا

يبدأ بو خائفًا بزيارة الشخصية الرئيسية بو (واكين فينكس) لطبيب نفسي، بو شخصية ذات ملامح قلقة، منكفئ على ذاته يفتقد للثقة في نفسه، ومن كلامه للمتخصص يبدو أنه يخزن رعبًا كامنًا وهوسًا في الوقت نفسه متعلقًا بوالدته، يرسخ المشهد الافتتاحي للطبيعة التحليلية النفسية للفيلم، وأنه على مدى مدته الطويلة، سوف يأخذ مشاهديه إلى رحلة داخل أغوار نفسية قلقة، بها يصبح الداخلي خارجيًّا، وتتمثل المخاوف كواقع معيش.

يتعامل بو مع ما يبدو وأنه اضطراب القلق العام، ويعامل آري أستر ذلك بجعل المدينة كلها التي يعيش بها هي تمثيل بصري وفعلي لمخاوف بو، فإذا كان الشخص القلق يهاب الخروج من المنزل خشية أن تصدمه حافلة أو يطارده شخص عارٍ بسلاح حاد، فإن نسب حدوث ذلك عالية جدًّا في تلك المدينة الأبوكاليسبية التي يصيغها أستر كتمثيل خارجي لدواخل بو، بالإضافة لكونها تعليقًا اجتماعيًّا مبسطًا نسبيًّا لوضع العالم المتفسخ وانتشار الجريمة، لكن ذلك التصور المرعب لا يأخذ الرعب للأبعاد التي طرقها أستر في أفلامه السابقة، بل يستغل تلك المرة نزوع أفلامه مهما كانت مخيفة للسخرية المبطنة واللقطات المضحكة بالخطأ، ويجعل مشاهد مواجهة المخاوف هذه المرة أو العنف الدموي الشديد مادة للضحك فعلًا عن طريق تقنيات فيلمية، مثل التكبير المفاجئ للمشهد أو الطبيعة الموسيقية والمزاج السينمائي العام.

سرعان ما ينتقل الفيلم لموقع آخر بعد حدث محوري في نصفه الأول، تعمل الفصول كقطع مشهدية set pieces في مواقع تصوير مختلفة، أرضية أو خيالية، خارجية أو داخلية، يسمح ذلك لأستر باستكشاف أبعاد داخل شخصيته الرئيسية وداخل المجتمع الأمريكي على التوازي، بصناعة مفارقات كوميدية لكنها مقلقة ومخيفة في الوقت نفسه، تقع أحداث القسم الثاني في منزل زوجين فقدا ابنهما في حرب ما، لكنهما يحتفظان بزميله الذي يعاني اضطراب ما بعد الصدمة وذي ميول عنيفة، بالإضافة لابنتهما التي تميل للعنف والقسوة، ويبدو من تصميم غرفتها أنها مهووسة بالثقافة الشعبية، خاصة المشهد الغنائي الكوري، في ذلك القسم يتنقل أستر بين عدة تيمات، بجانب حادث ضخم مر بحياة بو فهزها تمامًا، وجعله أكثر خوفًا مما هو عليه، فهنالك كل ذلك النقد المجتمعي البدائي، عن ثقافة الأدوية الحديثة والطب النفسي أو عن الأجيال الأصغر والإنترنت وهوس المشاهير.

تأتي تلك الكوميديا النابعة من الألفة مع الموضوعات المتناولة واضحة دون مجال للتفسير، ومعها حتى الصراع الرئيسي لبو، الفيلم الطويل الذي يمكن اعتباره ملحمة غرائبية، بل سريالية في العقل الباطن لا يترك فرصة للتفسيرات المتعددة، يحلل شعور بطله بالذنب الخانق، ذلك الذنب الذي تورثه الأمهات والآباء إلى أبنائهم بقصدية حقيقية في كثير من الأحيان، الذنب الذي يجعل الابن يتمنى موت والديه لكنه يقتل نفسه إرضاءً لهما، إنه شعور معقد ويصعب الاعتراف به، لكن في بو خائفًا كل المشاعر مقبولة مهما كان تطرفها وغرابتها، وهنا تكمن نقاط قوته أنه لا يخشى التطرف أو حتى الانحراف، لكن تعمل الغرابة به كما نراها دون طبقات متعددة، بل بعد الصدمة الأولى في تلقيها يقدم الفيلم التفسير سريعًا قبل أن تفكر فيما رأيت، مع تقدم أحداث بو خائفًا يمكن بوضوح رؤية تأثر السيناريست والمخرج الأمريكي الشهير شارلي كوفمان، خاصة في جعل الداخلي خارجيًّا والبصريات السريالية متعددة الطبقات، لكن أفلام كوفمان تعيش طويلًا ويتم تحليلها مرارًا؛ لأنها لا تقدم حلولها بنفسها، بل تحتضن غرابتها دون قلق التفسير.

العالم نسخة داخل نسخة

في فيلمه مصغر نيو يورك Synecdoche, New York 2008 وهو التجربة الإخراجية الأولى لشارلي كوفمان بعد نجاحات ضخمة ككاتب سيناريو جعلته جزءًا أصيلًا من العقل الجمعي السينمائي حول العالم، يصيغ كوفمان عالمًا فوضويًّا، به تحترق الغرف دون تفسير ويحاول كاتب مسرحي بناء عالمه على المسرح، ثم تعيين ممثلين للقيام بدوره هو وكل من يقابله في حياته، ثم يبني مسرحًا داخل العالم الذي بناه في المسرح، وهكذا حتى يصبح من المستحيل التفريق بين الواقع والخيال، ويتموه الخط تمامًا بين الفن وما يلهمه، في أحد أقسام فيلم بو خائفًا يمكن بسهولة رؤية تأثير مصغر نيو يورك، يتوه بو في غابة يجد بها فرقة مسرحية غرائبية، ثم يتحول الفيلم نفسه إلى عرض مسرحي في أفضل مشاهد الفيلم من الناحية البصرية.

مشهد من beau is afraid 2023

نرى بو جزءًا من سردية ملحمية عن حياته، يرويها صوت امرأة رقيق، يرى مستقبلًا بديلًا، يرى نفسه عجوزًا وشابًّا يرى أولاده وحب حياته، ثم يمر على فريق مسرحي ويرى نفسه داخل المسرحية في وضع ميتا حكائي مثل الذي صاغه كوفمان، والذي يستدعي نظريات جون بودريار عن الصانع والمصنوع simaculra and simulation، المصنوع حسب نظرية بودريار هو نسخة يصعب إيجاد أصلها أو لم يعد لها أصل، لأن التداخل بين الرموز والصور جعل العالم هجينًا من النسخ المستحيل الوصول لأصلها، وطبيعة العالم المتشبع بالصور الإعلانية والفنية، الأفلام والمسلسلات والإعلانات التي تغلف كل شيء يجعل من الصعب تحديد ما جاء قبل الآخر.

فيلم مغامر في زمن ليس كذلك

هل تمد الحياة المحتوى البصري بالأفكار أم أن العالم أصبح نسخة مصغرة عن ذلك المحتوى، وفي لحظات يصعب تفريق الاثنين عن بعضهما، الحقيقي من المختلق، استخدم كوفمان تلك الأفكار مع الحفاظ على غموضها وتعقيدها وصعوبة تفكيكها، لكن عندما تناولها أستر أصبحت خدعة بصرية جمالية يتخطاها الفيلم ليصل لقسم جديد حافل بالغرابة التي سيتم تفسيرها وتحليلها في النهاية، يمكن اعتبار بو خائفًا نفسه هو تجسيد لمصنوع بودريار، فهو على الرغم من تقديمه باعتباره قطعة أصيلة من الفن، فإنه هجين متداخل من مؤثرات وعلامات يمكن تتبع أصل بعضها والبعض الآخر لا، هو مجموعة من الأفكار المستقاة من مجموعة من المصادر المرئية أو المقروءة، وبحلول النهاية تتحلل الافتراضات المتعددة لصالح تفسير محدد ونهاية قاطعة.

لدى بو خائفًا الكثير من الإمكانيات والغنى البصري والسردي، كما أنه بكل تأكيد فيلم محفز عقليًّا وفي بعض أجزائه ممتع بصريًّا وحكائيًّا قبل أن يصيب  الشرح المفرط أجزاءً أخرى، ربما يكون خطوة ضخمة مبكرة في مسيرة مخرج لم يرسخ نفسه بعد لصناعة فيلم منغمس ذاتيًّا بهذا الحجم، لكنه بالتأكيد فيلم مغامر في زمن ليس كذلك، خاصة مع الوضع المتردي للأفلام الأصلية وقلتها في المناخ السينمائي الأمريكي الحالي.