محتوى مترجم
المصدر
thenextrecession
التاريخ
2021/2/13
الكاتب
مايكل روبرتس

وسط العديدين من مؤلفي الموسيقى «الكلاسيكيين» يحتلُّ بيتهوفن مرتبة المؤلف الأكثر ثورية، وهو لقب لم ينله على سبيل الصدفة التاريخية، وإنما هو نتاج طبيعي للرجل الذي يُمكننا اعتباره خير مُعبِّر عن زمنه.

وُلِدَ لودفيج في عصرٍ يدعى «عصر التنوير»، انشقَّ فيه الفكر الأوروبي عن التبعية الدينية والملكية ورفع راية الفكر الحر والعلم والديمقراطية، فيما كانت تلوحُ في الأفقِ بوادرُ نظامٍ اقتصادي جديدٍ قائمٍ على «حريةِ التجارةِ والمنافسةِ». فحينَ نشر آدم سميث مصنفه الرئيس، ثروة الأمم، كان بيتهوفن في السادسة من عمره. وفي العالم الجديد، كانت شرارةُ حرب الاستقلال الأمريكية قد اندلعت، حيثُ انفصل المستوطنون البريطانيون السابقون عن الملكية البريطانية، بدعمٍ مالي وعسكري من فرنسا ليؤسسوا جمهورية تتمتعُ بحقِّ الاقتراعِ وهو الأمرُ الذي ما زالت هذهِ الجمهوريةُ تمارسه حتى هذا العام[1].

من وجهةِ نظري، تأرجحت رحلةُ بيتوفهن الموسيقية مع تقلباتِ هذا الزمن الثوري الذي لم ينطفئ أبدًا. وبصورةٍ أدق، تقلَّبت رحلته بالتوازي مع مدِّ وجزر الثورة الفرنسية التي أجهزت على الملكية والامتيازات الاقطاعية ونادَت بالمساواة والحرية والإخاء لجميعِ البشرِ. وكأي شابٍّ يافعٍ في سنه من أبناء الطبقات الوسطى في أوروبا ناصرَ بيتهوفن بحماسٍ الثورة منذ انطلاقتها.

كان والدهُ يوهان نجلَ موسيقي من عائلة ذات أصول فلمنكية وموظفًا في بلاط رئيس أساقفة بون بألمانيا. وفي عمر السابعة، قدَّم بيتهوفن أولى عروضه العامة، بعد ذلك انتقل إلى فيينا في 1792 ليتلقى تعليمه على يد جوزيف هايدن، الذي صاغ مع موتسارت (المتوفى عن 35 عامًا) التقليدَ الموسيقي الخاص بهذهِ المدينةِ.

كانت فيينا آنذاك تحت حكم آل هابسبورغ الاستبدادي. بيد أنَّ بيتهوفن كان معتنقًا الأفكار النابليونية عن الحرية ومأخوذًا بها. فأصبح جمهوريًّا مخلصًا، وفي رسائله وأحاديثه تحدَّث كثيرًا عن أهمية الحرية. ولم يكن يُلقِ بالًا للملوك. على سبيل المثال، كتب إلى واحدٍ من رعاته الأوائل، وهو الأمير كارل ليخنوفسكي، «أيها الأمير، ما أنت عليه حصَّلته بصدفة المولد، أمَّا ما أنا عليه فقد صنعته يداي». ويُزعَم أنَّ العاهل النمسوي، فرانز الثاني، رفضَ أن تجمعه أي علاقة مع بيتهوفن، معللًا ذلك بأنَّ هناك «شيئًا ثوريًّا في موسيقاه». وعن صداقته مع الكاتب والشاعر الألماني الكبير جُوته، فقد أنهاها فجأةً في عام 1812، حين كانا يسيران في متنزهٍ، فصادفا مرور الإمبراطورة النمساوية. عندئذٍ انحنى جُوته بتذللٍ، فيما أدار بيتهوفن ظهره بازدراء بسبب روحه الثورية التي أسكنها جلَّ أعماله.

أدخلَ بيتهوفن الموسيقى عصرًا جديدًا. فمن خلال الجمع بين الطاقة الشعرية للمشهد الأدبي الألماني وأغاني الثورة الفرنسية، غيَّر وجه الموسيقى. يقول الموسيقي الروسي إيغور سترافينسكي «بيتهوفن هو صديق الثورة الفرنسية ومعاصرها، ظلَّ وفيًا لها حين انفض من حولها، إبان ديكتاتورية اليعاقبة، الإنسانيون أصحاب القلوب الضعيفة على شاكلة شيلر (شاعر وفيلسوف ألماني)، مفضلين عليها تدمير الطغاة على خشبة المسرح بسيوفٍ خشبية. بيتهوفن، ذلك العبقري السوقي، مَن أدار ظهره بفخر للأباطرة والأمراء وكبار الشخصيات، هذا هو بيتهوفن الذي نحبه لتفاؤله الذي لا يزعزعه شيء وحزنه الرجولي وعاطفيته النضالية الملهمة وإرادته الحديدية التي سمحت له بمنازلة القدر». لقد غيَّر بيتهوفن طريقة تأليف الموسيقى والاستماع إليها. فموسيقاه لا تهدأ، بل تصدم وتُخلخِل.

أعتقد أنَّه بوسعنا تقسيم عمل بيتهوفن الموسيقي إلى أربعِ فترات توازي ما شهده عصره من تقلبات اقتصادية واجتماعية. إذْ وقعت في عصره ثلاث ثورات بورجوازية عظمى: الثورة الصناعية في إنجلترا، الثورة السياسية في فرنسا، الثورة الفلسفية في ألمانيا. شهدت فترة طفولته ومراهقته، مدًّا ثوريًّا في أوروبا؛ لكنها شهدت أيضًا انتعاشًا اقتصاديًّا جديدًا مع التطور الرأسمالي، قاد الثورة الفرنسية إلى ذروتها مع صعود حكم اليعاقبة الراديكالي في 1792، حين كان بيتهوفن في الثانية والعشرين من عمره.

أما الفترة الثانية فامتدت من 1794 إلى 1815 وكانت، فعليًّا، فترة انتكاس الثورة في فرنسا؛ إذْ أُطيحَ باليعاقبة ونصَّب نابليون بونابرت –بطل وزارة دفاع حكومة الثورة– نفسه ديكتاتورًا. مع ذلك، لم يعنِ هذا أنَّ جيوش نابليون لم تحمل أفكار الثورة الفرنسية وقوانينها إلى طول أوروبا وعرضها، مطيحةً بالملكيات الاستبدادية شبه الإقطاعية في النمسا وإسبانيا وإيطاليا وبروسيا. جعلت هذه الانتصارت من نابليون معبودًا في عيون بيتهوفن.

وخلال هذه الفترة، ألَّف بيتهوفن الناضج بعضًا من أعظم أعماله. فهذه سيمفونيته الخامسة البديعة تنضح بإحالات إلى موسيقى الثورة. وفي مبناها، يشير بيتهوفن إلى أنَّ سيمفونيته تعبِّر عما كتب بحق الزعيم الثوري المُغتال جون بول مارا «نقسم بالسيف أنْ نموت فداءً للجمهورية وحقوق الإنسان». فيما تحكي أوبراه الوحيدة، فيديليو، قصة امرأة وحيدة أُطلِقَ سراح زوجها –كان سجينًا سياسيًا– من سجنٍ إسباني (جرى نقل السجن من فرنسا لأسبابٍ سياسية، إلى جانب كراهيته للنظام في إسبانيا).

كل مازورة من موازير الخامسة تحركها روح ثورية. ولعل الموازير الافتتاحية الشهيرة من هذا العمل (استمع إليها) تصنف على أنَّها الافتتاحية الموسيقية الأبرز في التاريخ. وللصدفة، تكافئ هذه الموازير رمز «V» في شيفرة مورس ومعناه النصر، كما أنَّها اُستُخدِمَت لحث الشعب الفرنسي على محاربة المحتل الألماني في الحرب العالمية الثانية، لأنها كما وصفها نيكولاس هارنانكورت، قائد أوركسترا: «هذه ليست موسيقى؛ إنَّها تحريض سياسي. تقول لنا: عالمنا هذا ليس جيدًا. فلنغيِّره! هيا بنا».

اكتشف جون إليوت غاردنر، وهو قائد أوركسترا وعالم في الموسيقى، أنَّ جميع الموضوعات الرئيسية في سيمفونيات بيتهوفن قائمةٌ على الأغاني الثورية الفرنسية. يتردد صدى «ناقوس الخطر»، «فلنزحف، فلنزحف» من «نشيد الجمهورية» –الذي حشدت به الثورة الفرنسية قواها– في الكوردات الافتتاحية لسيمفونية «إيرويكا». فيما يفيض كونشرتو البيانو الخامس (الإمبراطور) «بالزخم الحربي». وتردد مقاطع البوق في أوبراه الوحيدة فيديليو تلك المقاطع الموجودة في أوراتوريو هاندل «المسيح» عند الجملة الصوتية «سَيُبَوَّقُ… ونَحْنُ نَتَغَيَّرُ» (كورنثا 1 -15:55).

لكن فترة الطاقة الموسيقية الهائلة هذه شابها مرضه الشديد والمضني، حيث بدأ يفقد سمعه تدريجيًّا، لربما كان مصابًا بنوعٍ من التهاب السحايا أثر على سمعه. بدأ ذلك في سن الـثامنة والعشرين مع ذروة شهرته. وإنْ لم يفقد هذه الحاسة كليًّا إلا في سنواته الأخيرة، إلَّا أنَّ إدراكه لحالته المتدهورة جعل منه مزاجيًّا ومكتبئًا، بل صاحب ميولٍ انتحارية.

كان الاقتصاد الأوروبي يعاني من تدهورٍ مماثل منذ العام 1805، يُضاف إلى ذلك حصار البحرية البريطانية للغزاة الفرنسيين عقب انتصار البريطانيين في معركة الطرف الأغر، ما تسبب في نقص متزايد في المواد الغذائية والسلع الأساسية. فاكتأبَ بيتهوفن بسبب الأحداث السياسية لهذه الفترة. وبالرغم من أنه أهدى سيمفونيته الثالثة إلى نابليون فإنه بحلول عام 1802 بدأت آراؤه تجاهه تتغيَّر. فكتب ساخطًا إلى صديقٍ له: «كل شيء يحاول العودة إلى العفانة القديمة، بعد أنْ وقَّع نابليون معاهدةً مع البابا». ليتحوَّل إعجابه بنابليون في آخر المطاف إلى سخطٍ، حين نصَّبَ الأخير نفسه إمبراطورًا في العام 1804. وحالما استقبل بيتهوفن هذه الأنباء، شطب بغضب إهداءه لنابليون عن أوراق سيمفونيته الجديدة. وما تزال المخطوطة موجودة ويمكننا رؤية بأي عنفٍ شطب الإهداء بحيث أحدَثَ شرخًا في صفحاتها. لاحقًا، أهدى سيمفونيته إلى بطلٍ مجهول من أبطال الثورة: عُرِفَت هذه السيمفونية لاحقًا بسيمفونية إيرويكا.

تزامنت الفترة الثالثة من حياة بيتهوفن الموسيقية مع فترة من المدِّ الرجعي والتباطؤ الاقتصادي المروِّع في أوروبا. ومع هزيمة نابليون في 1815 وعودة الملكيات القديمة في أوروبا، سقط بيتهوفن في حالةٍ من اليأس، ولم يعد يؤلف كثيرًا. وكان الفكر التقدمي يتقهقر في كل مكان: فها هما شاعرا إنجلترا المنتصرة الرومانسيان العظيمان، ماري شيلي وجورج بايرون، يُجبران على الخروجِ من البلدِ إلى المنفى. لتكتب ماري شيلي، رواية فرانكشتاين، رواية تطرح كل أملٍ في الخرافات المتعصبة والعنصرية، وتعادي العقيدة الصناعية العلمية المنفلتة للاقتصاد الرأسمالي الصاعد. كان هذا إدبار زمن الرومانسية والثورة وإقبال زمن الاقتصادي الكلاسيكي ديفيد ريكاردو وأمثاله –كان ريكاردو في سن بيتهوفن تقريبًا– الذي كتب في 1817 كتابه مبادئ الاقتصاد السياسي والضرائب، وهو عمل الاقتصاد البورجوازي الأبرز.

مرَّت سنوات 1816-1819 مرورًا فظيعًا على شعوب أوروبا، وبشكلٍ مشابهٍ لعامِ 2020 مع وباءِ كوفيد 19، دخل الاقتصاد الأوروبي مرحلة شتاء دائم، بالمعنى الحرفي والاقتصادي للكلمة. إذْ عُرِفَت سنة 1816 «بسنة بلا صيف» (كذلك بسنة الفقر)، بسبب الاضطرابات المناخية الشديدة التي تسببت بانخفاض درجات الحرارة في أوروبا لتسجل أبرد درجة على الإطلاق. فتلفت المحاصيل، ما نتج عنه نقص كبير في الغذاء، في ألمانيا حيث كانت الأزمة على أشدها. وارتفعت أسعار الغذاء ارتفاعًا شديدًا في جميع أنحاء أوروبا. ورغم كون أعمال الشغب مألوفة في زمن الجوع، فإنَّ أعمال الشغب بسبب الغذاء خلال 1816 و1817 شهدت أعلى مستويات العنف المدني منذ الثورة الفرنسية. كانت هذه أسوأ مجاعة في أوروبا القرن التاسع عشر.

محاطًا بهذه الأجواء الرجعية في فيينا ويائسًا من أي تغيير للأفضل كتب بيتهوفن: «طالما لدى النمساويين البيرة والقليل من النقانق، فلن يثوروا البتة».

بيد أنَّ العقد الأخير من حياة بيتهوفن شهد انتعاشًا في الاقتصاد الأوروبي، إذْ انتشر نمط الإنتاج الرأسمالي وبدأت الصناعة تنتشرُ في ألمانيا والنمسا صاحبتا الطابع الريفي. وبالفعل، وقع أول ركود اقتصادي رأسمالي في العام 1825؛ وظهرت لاحقًا أولى بوادر النضال البروليتاري الذي أفضى في نهاية المطاف إلى الإطاحة بحكم آل بوربون الملكي في فرنسا عام 1830، وإلى قانون الإصلاح في إنجلترا 1832، مانحًا للمرة الأولى الذكور الراشدين ميسوري الحال حق الاقتراع.

أخيرًا، قدَّم بيتهوفن تحفته الفنية الأخيرة في 1824 قبل أنْ توافيه المنية في 1827. وقد كان يُقلِّب منذ فترةٍ طويلة فكرة سيمفونية الكورال واتخذ نصًّا لها قصيدة الشاعر الألماني شيلر «نشيد الفرح»، الذي كان يعرفه منذ العام 1792، نُشِر هذا النشيد في الأصل عام 1785 مُقتَبِسًا أغنية من أغنيات الشرب يرددها الجمهوريون الألمان. في الواقع، كان سيطلق شيلر على هذه القصيدة عنوان «نشيد الحرية (Freiheit)»، لكن وبسبب ضغط القوى الرجعية، غيَّر العنوان إلى «نشيد الفرح (Freude)». شكَّلت كلمات شيلر هذه محور السيمفونية التاسعة (نشيد الاتحاد الأوروبي حاليًّا). لاحقًا، أُطلِقَ على السيمفونية التاسعة «نشيد الإنسانية»، ليظل يتردد بيننا إلى الأبد ليحمل بيننا ذكرى رجلٍ رفض الاعتراف بالهزيمة ولم يحنِ رأسه أمام الشدائد فقرّر أن يُحيي روح التقاؤل الثوري بموسيقاه.

المراجع
  1. يشير الكاتب إلى الانتخابات الرئاسية الأمريكية 2020 –م