عصر ما قبل الإسلام يعتبر -بحق- من أكثر العصور التاريخية تعرضًا للظلم بفعل التنميط والطرح للصور والنماذج والأحكام الجاهزة، ومن أكثر عناصر هذا العرض تعرضًا -بدورها- لأن تتخذ صورة نمطية منافية لما كانت عليه من حيث الواقع التاريخي «المرأة»، حيث ترتبط من حيث تصورها والصورة الذهنية عن حياتها ووجودها وتفاعلها مع المجتمع العربي القديم بنموذج خاطئ يشوه الحقيقة التي يدركها القارئ لتاريخ تلك الفترة.

متاعٌ يورث، كائن مهمش في مرتبة هي أدنى من الرجل بكثير وأعلى من الأنعام بقليل، مسفهة دومًا، معرضة بشكل مستمر للقمع والظلم والانتقاص من الحقوق، تلك هي الصورة التي تنقلها لنا بعض الأقلام والخطابات المتناولة لهذا العصر. والغريب أن الدافع لفرض تلك الرؤية يختلف من اتجاه فكري لآخر، ولكنه يصب في منطقة واحدة.

تنوع الدوافع واتفاق الفعل

بين المصرِّين على إسقاط نزاعاتهم الأيديولوجية على التاريخ، والموظفين لهذا الأخير في صراعاتهم، تتوه الحقيقة التي تقول -ببساطة- أن التاريخ غير مُطالَب بمجاملة أحد.

أي أنهم يقولون ببديهية التعصب الديني ضد المرأة في منطقة، والمساواة المدنية بها في منطقة أخرى، وهو ما يبدو أنه مخالف لكل قواعد العقل.

فمن جانب قطاع من التيار الذي يصف نفسه بـ «المدافع عن الهوية المصرية الأساسية» ضد ما يوصف بـ «الغزو الصحراوي الوهابي» نجد حديثًا غريبًا غير مستند على معطيات تاريخية محترمة عن أن المرأة المصرية بطبعها متحررة متمتعة بمكانتها المرموقة منذ العصور القديمة، بينما المرأة «العربية» -ويعنون بذلك النموذج المرتبط بالجزيرة العربية- منذ قديم الزمان وهي مهمشة مقموعة يقتصر عالمها على خيمة من الوبر وفراش الزوج وأعمال الخدمة الشاقة. فهم يفسرون بذلك بعض التوجهات التدينية المتشددة المرتبطة بتلك المنطقة قديمًا وحديثًا، ويعتبرونها ميراثًا للعصور الأولى للعرب؛ أي أنهم باختصار يقولون ببديهية التعصب الديني ضد المرأة في منطقة والمساواة المدنية بها في منطقة أخرى، وهو ما يبدو جليًا أنه مخالف لكل قواعد العقل والمنطق والعلم.

ومن جانب آخر، نجد قطاعًا ممن يصفون أنفسهم بـ «المتدينين»، يستنكرون دعاوى تحرير المرأة وتمكينها، باعتباره انحلالًا وتهتكًا، ويدافعون عن وجهة نظرهم بأسلوب يجده المدقق شديد الالتواء. فهم يربطون تمتع المرأة بحقوقها بالدين الإسلامي فحسب، ويدّعون أنها كانت قبل نزول الإسلام مجرد متاع يُمتَلَك، وأنها كانت إما وليدة موءودة أو جارية مجبرة على الزنا أو أرملة ممنوعة من الميراث أو جسد مباح للمتعة الحرام، وأن الإسلام قد أعطاها كل ما تملك من حقوق ولكن مقابل التزامها بقائمة طويلة من الواجبات والقيود -التي تزيد بشكل واضح عن تلك المفروضة على الرجل؛ أي أنهم ينادون يتقييد المرأة بغرض الدفاع عن حقوقها!.

والواقع أن الجانبين يقومان بفعل لا أجدني قاسيًا في وصفه بـ «الخيانة للأمانة التاريخية»، حيث اقتطع كل منهما من التاريخ ما يلائم فكرته ورؤيته، وقام بتكثيفه وتضخيمه وتعميمه ليصبح هو «كل التاريخ»، بينما تعاميا عن باقي الصورة الكاملة.

ولأن الفعل واحد رغم اختلاف الغرض، فإنني قد رأيتُ أن يكون الرد موحدًا على كليهما من الواقع التاريخي المُلزِم لجميع الأطراف بغض النظر عن رضاهم عنه من عدمه.

هل تعرضت المرأة العربية القديمة للظلم؟

دعونا نعترف أن المرأة العربية قبل الإسلام كانت عرضة لبعض صور الظلم، ولكن دعونا في نفس الوقت نقرّ حقيقتين:

الأولى أن هذا الظلم كان نسبيًا وليس عامًا، فلم تكن كل نساء الجزيرة عرضة له، بل كان يرتبط عادة بالثقافة المجتمعية للقبيلة أو العشيرة التي تعيش فيها هذه المرأة؛ أي أن الأمر يشبه مجتمعاتنا المعاصرة من حيث اختلاف وتنوع عاداتها بين قبيح وحميد. كذلك فإن في مقابل تعرض النساء للظلم في بعض المناطق فإنها كانت في مناطق أخرى تحظى بمكانة مرموقة وتتمتع بحقوق غير منكرة، والمفترض أن يدرك المتناول لشأن تاريخي هذه الحقيقة، فالتاريخ مكون من ثلاثة عناصر: المكان والحدث والإنسان، وهذا الأخير إن كان هو الأكثر ثباتًا من حيث الوجود والطبائع العامة فإنه في ذات الوقت هو الأكثر تغيرًا من حيث الاختلافات في الأفكار وأنماط الحياة والثقافات المجتمعية.

بعبارة أبسط: فإنه فيما يتعلق بتناول حياة الإنسان في أي زمان ومكان، تسري بقوة القاعدة التي يعَبَّر عنها بالتعبير العامي «أصابع يدك غير متطابقة».

المفترض كذلك أن يدرك هذا المتناول للتاريخ أن العالم لم، ولا، ولن، يوجد به ما يمكن وصفه بـ «المدينة الفاضلة»، فدائمًا توجد صور من التفاوت في الظلم والعدل في هذا المجتمع أو ذاك.

رفع الإسلام عن المرأة أوجه الظلم، وأضاف لها حقوقًا جديدة، وأقرّ لها حقوقًا سابقة على نزوله.

وأخيرًا بهذا الصدد، فإن الإسلام وتنظيمه للحياة الاجتماعية والحقوق والواجبات لا يُعقَل بأن يقال أنه لم يغيّر شيئًا، وإلا فما علة وجوده أصلًا كنقطة تاريخية فارقة؟، وفي نفس الوقت فإن النصوص الإسلامية نفسها -تحديدًا المنسوبة للرسول محمد- تقول بشكل صريح أن الإسلام لم يأتِ بجديد من عنده بنسبة مئة بالمئة وإنما جاء ليغير أوضاعًا، ويضيف المزيد لأوضاع، ويضع أطرًا لأوضاع أخرى:

«إنما بُعِثتُ لـ «أتمم»مكارم الأخلاق»؛ أي أنه -بلغة القانونيين- جاء بأحكام «كاشفة لأوضاع»، وأحكام «مكملة لأوضاع»، وأحكام «منشئة» لأوضاع. وليس وضع المرأة باستثناء، فقد رفع عنها الإسلام أوجه الظلم، وأضاف لها حقوقًا جديدة، وأقر لها حقوقًا سابقة على نزوله.

وفيما يلي بعض الموضوعات المرتبطة بالمرأة والباعثة على الجدل حولها، نستعرضها معًا لكشف اللبس عنها.

الزوجة

حقيقة لا يعرفها كثيرون: أن النظام العائلي عند العرب القدامى كان يقوم على «النظام الأمومي» قبل نشأة النظام الأبوي؛ بمعنى أن الأم كانت هي وحدة الأسرة ومركزها، أو «عامود البيت»، ونجد هذا في أقدم موروث للعرب وهو «هاجر المصرية» أم النبي إسماعيل، وكذلك في بعض العشائر التي كانت من تقاليدها مباركة الأم لذكور بيتها قبل القتال بأن يعلقوا سيوفهم في دارها. فمن العبارات التي تقابلنا في بعض كتب التاريخ أن هذه المرأة أو تلك كانت «معلقًا ببيتها عشرة سيوف كلهم لمحرم لها»، بل إن بعض العشائر والقبائل كانت تُنسَب لامرأة لا لرجل، كبني مزينة وبني خندف وبني بجيلة وبني رقية وغيرهم. ونُسِبَ بعض زعمائهم لأمهاتهم فخرًا بهن كالمنذر بن ماء السماء -وهو لقب أمه مارية بنت عوف- أو الملك عمرو بن هند. وقال بعض مشاهير العرب شعرًا في الفخر بأمهاتهم كقول الفارس الصعلوك الشنفري في أمه:

أنا ابن خيار الحجر بيتًا ومنصبًا .. وأمي ابنة الأحرار لو تعرفينها

وفيما يتعلق بالزواج، كانت العادات المرتبطة بتهميش المرأة ممقوتة بشكل واضح ومعلن، كـ «زواج المقت»، وهو أن يموت الرجل فيلقي ابنه ثوبه على أرملة أبيه كإعلان منه أنه قد ورثها زوجة له، وغالبًا ما كان يفعل ذلك ليضيق عليها حتى تتنازل له عن ميراثها أو أن تموت فيرثها هو (لاحظ هنا أن هذا الزواج رغم بشاعته يعكس حقيقة أن المرأة كانت ترِث)، وكان العرب -كما يبدو من اسم هذا الزواج- يحتقرون هذا النوع من الارتباط، بل ويصِمون الأبناء الناتجين عنه بأقذع النعوت.

وفي المقابل، كان من الشائع في بعض المجتمعات والبيوت أن تشترط المرأة على من يرغب في الزواج منها أن يكون أمرها بيدها إن رغبت عنه فارقته، كمثال سلمى الخزرجية التي تزوجها هاشم بن عبد مناف -جد بني هاشم- على هذا الشرط وتوفي عنها خلال رحلة تجارته في غزة.

كذلك كانت الحقوق المالية للمرأة في مهرها محل تفاوت؛ أي أن الأمر لا يختلف كثيرًا عن وضع المجتمع الآن.

وكانت كرامة المرأة من أشد الأمور حساسية عند العرب، فكانت صيحة كـ «وا ذُلَّاه» من إحداهن كفيلة بإشعال حروب، كقيام عمرو بن كلثوم بقتل الملك عمرو بن هند الذي أراد إذلال أم الأول بجعلها تخدم أمه، أو كنشوب «حرب البسوس» الشهيرة عندما قام الملك اليمني كليب برمي ضرع ناقة لامرأة اسمها البسوس فاستغاثت بقومها.

كذلك كانت الحقوق المالية للمرأة في مهرها محل تفاوت، فبينما كان بعض الآباء يأكلون مهور بناتهم ولا يعطونهن منه شيئًا، كان البعض الآخر يجهزها منه أو يقدمه لها كاملًا ويلتزم هو بتجهيزها للزواج؛ أي أن الأمر لا يختلف كثيرًا عن وضع المجتمع الآن.

ماذا عن «تعدد الزوجات»؟، الواقع أنه لم يكن يمثل للمرأة العربية قديمًا إهانة بالضرورة، فقد كانت أغلب تلك الزيجات تُعقَد لأغراض نفعية كالارتباط بالنسب بين القبائل تقوية لحلف أو تكتل، فكانت المرأة تعتبره من «بديهيات عمل زوجها» كما كان يحدث في الأسر الملكية في الشعوب القديمة (راجع دور الملكة المصرية القديمة «تيي» في اختيار النساء لزوجها أمنحتب الثالث).

هذا عن الزوجة: فماذا عن الابنة فيما يتعلق بـ «وأد البنات»؟.

قتل الإناث والذكور!

منذ فترة وقع في يدي post على موقع Facebook يقول ما معناه: «إن المرأة التي ترغب في التحرر تخالف دينها الذي لولاه لكانت الآن تمارس حريتها تحت التراب» (كناية عن وأد الإناث).

الواقع أن تلك الظاهرة لم تكن متفشية إلى الحد الذي يتصوره البعض -ومنهم كاتب هذا الكلام سالف الذكر- كما أنها لم تكن مقتصرة على الإناث.

بدايةً فإن ثمة رواية عن الأصل التاريخي لظاهرة الوأد تفسرها بأن زعيم قبيلة من العرب تعرضت قبيلته لغارة من أحد الملوك، وأُسِرَت ابنته فيمن أسروا، فتوجه إلى هذا الملك واستعطفه طالبًا منه إطلاق الأسرى، فاشترط الملك سؤال كل سبية عن رغبتها إن أرادت أن تعود لأهلها أو أن تعيش مع آسرها. فاختارت ابنته آسرها فغضب الرجل ونذر أن يدس كل أنثى تولد له في التراب انتقامًا من هذا العار. والواقع أن هذه الرواية تحتمل أن تكون حقيقية أو موضوعة، فإن في مواجهتها رواية أخرى عن رجال تطوعوا لإنقاذ البنات من الوأد فكان أحدهم إذا وجد رجلًا يريد دفن ابنته الرضيعة يمنعه قائلًا له: «أنا أكفيك مؤنتها»؛ أي: «أنا أتولى الإنفاق عليها»؛ مما يعني أن هذه الظاهرة كانت دوافعها اقتصادية أكثر من كونها مرتبطة بـ «العار».

بالنسبة للشائع عن تفشي ظاهرة الوأد في كل بلاد العرب، لو فرضنا صحة ذلك، فمن أين إذن جاءت هذه الأعداد الغفيرة من النساء اللاتي وردت أخبارهن؟

وعلى ذكر «الخوف من عار الأنثى»، فإن من عادات العرب قديمًا أن يعلنوا خلع من آذتهم شروره وجلب لهم الضرر من أبنائهم، فيجهرون في الأسواق بالنداء أننا قد خلعنا فلانًا فلا نحمل مسئولية تصرفاته. فإذا فرضنا أن المرأة في المجتمع العربي القديم كانت هينة الشأن أكثر من الرجل بمراحل، أفلم يكن من اليسير إذن إعلان خلعها والتبرُّء منها إذا جلبت لأهلها العار أسوة بالرجال؟ فلماذا الافتراض الاستباقي للعار؟

بالنسبة للشائع عن تفشي ظاهرة الوأد في كل بلاد العرب، لو فرضنا صحة ذلك، فمن أين إذن جاءت هذه الأعداد الغفيرة من النساء اللاتي وردت أخبارهن في روايات وأشعار ومواقف العرب؟

الواقع أن تلك الظاهرة كانت -كأية ظاهرة مرتبطة بالتخلف الفكري- موجودة في الأوساط الفقيرة أو وضيعة الشأن. فمن ناحية كان كثير ممن يعانون الفقر المدقع ينظرون للأنثى أنها عبء أو «مجرد فم مفتوح إضافي يطلب الطعام ولا يُنتج مثل الذكر». ومن ناحية أخرى، فإن المدقق في سير الصحابة يلاحظ أنه بينما كانت الأسماء الأبرز للذكور منهم متنوعة بين منحدرين من أصول بسيطة أو أخرى رفيعة، فإن النساء كن غالبًا منحدرات من أسر راقية، كزينب بنت جحش وهند بنت عتبة والخنساء وأم حبيبة بنت أبي سفيان وغيرهن. فإذا كانت هذه الظاهرة متفشية في كل الأوساط لبلغتنا أخبار عن أناس من أشراف العرب قتلوا بناتهم، ولما سمعنا عن النساء المشهورات في فجر الإسلام.

وأما عن ارتباط قتل الأبناء بالإناث، فإنه خطأ آخر في قراءة تاريخ هذه المرحلة، فالذكور كذلك كانوا عرضة للقتل «خشية إملاق». ولاحظ هنا أن الآية التي تناولت هذا الأمر قالت: «ولا تقتلوا أولادكم»، ولم تقل: «ولا تقتلوا بناتكم». فقد كان يحدث أحيانًا أن يقتل الأب طفله إذا استشعر أنه لا يستطيع إطعامه. كذلك كان يوجد نوع من «الانتحار» يحمل اسم «الاعتقاد»، فكان الرجل الفقير إذا عدم القوت وأنف من طلب الصدقة يغلق باب بيته عليه وعلى أهله حتى يموتوا كلهم جوعًا، وقد بطلت هذه العادة قبل الإسلام بعقود طويلة بتدخل العقلاء من القرشيين لتقديم يد العون لهؤلاء الفقراء.

وأخيرًا بقي نوع أخير من أنواع قتل الأبناء هو التخلص من المولود إذا كان مشوهًا أو معاقًا، ولم تكن تلك الجريمة شائعة، كما لم تكن مقتصرة على العرب بالذات أو على مجتمع بعينه في هذه الفترة من التاريخ.

المرأة: ملكة، قائدة، مشارِكة

لو صحّت النظرية القائلة أن المرأة قبل الإسلام لم تكن لها مكانة عالية، فمن أين جاءت لنا كتب التاريخ بأسماء مثل زنوبيا، شقيلة، تلخانو، الزبّاء، طريفة الكاهنة، هند بنت عتبة، أم قرفة، سجاح، وغيرهن؟.

فأمازنوبيا فكانت ملكة مملكة «تَدمُر»، وهي واحدة من أرقى دول العرب في شمال الجزيرة، ورثت الحكم عن زوجها وصمدت في مواجهة أطماع روما، بل واستطاعت أن تدحرها بجيشها إلى درجة انتزاع تدمُر مستعمرة مصر من الرومان، ولكن بسبب بعض الأخطاء التكتيكية في الحرب هُزِمَت الدولة التدمرية وحُمِلَت زنوبيا أسيرة إلى روما.

وأماشقيلة فكانت أرملة ملك الأنباط -في الأردن حاليًا- مالك الثاني، وأم خلفه رب إيل الثاني، والذي ترك الحكم لكل من أمه شقيلة وزوجته جميلة؛ مما أثار بعض القبائل عليه فتمردت لكنه استطاع قمع تمردها وأظهر احترامه كفاءة زوجته بأن ضرب صورتها على العملة النبطية، وكان الأنباط يضربون أحيانًا صور زوجاتهن على العملات.

وتلخانو، هي كاهنة قبائل عريبي التي تولت زعامة قومها في مواجهة الأشوريين الذين اجتاحوا الشام وشمال الجزيرة.

والزباء هي امرأة اختلف المؤرخون في أمرها، فالبعض قالوا أنها زنوبيا سالفة الذكر، وآخرون قالوا أنها ملكة بعض قبائل اليمن المهاجرة إلى الشمال. قادت قومها وتآمرت على ملك الحيرة أذينة الأبرش واستدرجته لحتفه ثم تحاربت مع ابن أخته عمرو الذي هزمها فانتحرت قائلة العبارة الشهيرة: «بيدي لا بيد عمرو».

وطريفة الكاهنة يقرأ عنها المطالع لأخبار اليمن القديم، فالقصة تقول أنها رأت في المنام هاتفًا يخيّرها بين ابن يشتهر بين الناس أو علم وحكمة فاختارت العلم والحكمة (لاحظ دلالة الاختيار)، فمسح الهاتف رحمها فعقمت وصارت كاهنة ومتنبئة. وتنبأت لقومها -دولة سبأ-بانهيار سد مأرب، ثم وجهت للقبائل الفارة من السيل النصح حول التفرق في الأرض فانطلق بعضها ليؤسس دولة المناذرة في العراق، وغيرهم ليؤسسوا دولة الغساسنة في الشام، بينما هاجر رجلان هما أوس وخزرج بأبنائهما ليثرب الناشئة.

والقارئ في تاريخ بدايات الإسلام يلاحظ بسهولة الدور الكبير لـهند بنت عتبة في معسكر قريش، سواء بالنصح والتحريض أو حتى بالمشاركة المعنوية بالقتال في معركة أُحُد. كما تضرب نموذجًا لقوة الشخصية في موقف فتح مكة عندما أشار أبو سفيان -زوجها- على قومه بالتسليم للنبي محمد فركلته في صدره وأخذت بلحيته صارخة: «اقتلوا الشيخ الخرف». وبعد إسلامها كانت هي على رأس من بايعن الرسول من النساء، وكان كلما تحدث حاورته كقولها ردًا على أمره: «ولا تزنين»، بـ «أَوَتزني الحرة يا رسول الله؟».

أماأم قرفة فكانت امرأة من قبيلة فزارة عظيمة الحرمة إلى حد أن لم يكن أحد يجرؤ على مَس جمَلها، وكان يعلق في بيتها عشرة سيوف كلهم لمحرم لها، وكانت قبيلتها إذا ما تشاجرت مع بعض أحياء العرب أرسلت هي خمارها على رأس رُمح فيتوقف القتال احترامًا لها.

بقيتسِجاح، وهي سجاح بنت الحارث، من قبيلة تميم، ادّعت النبوة وقادت قومها لتغزو مسيلمة وقومه في اليمامة، ثم صالحته وتحالفت معه وتزوجته، وبعد مواقف كثيرة عادت إلى الإسلام وحسُن إسلامها.

كل هذه نماذج لنساء تصدرن المشهد في قبائلهن ودولهن، والحقيقة أننا نجد مفارقة غريبة هي أن تلك الفترة من التاريخ قد حفظت لنا أسماء نساء قائدات مشهورات أكثر مما فعلت المصادر التاريخية الخاصة بدول أخرى سابقة ومعاصرة لها، ورغم ذلك فإنها الفترة المتهمة بتهميش النساء!.

الإله أنثى

بقيت ملاحظة أخيرة، فليتأمل معي القارئ تلك الأسماء: اللاتِ، العُزّى، مناة، سواع.

هذه أسماء أشهر آلهة العرب، وكما نلاحظ فإنها أسماء أنثوية، فهل يُعقَل أن تكون المجتمعات العربية القديمة قد همشت المرأة عن أن تكون قائدة، وحرمتها حقوقها كإنسانة، وأن تنصبها في نفس الوقت إلهة؟.

بالتأكيد فإن هذا مما ينافي المنطق.

إذن فحتى على المستوى اللاهوتي لم يكن العرب أقل احترامًا للمرأة من غيرهم، فكما كانت إيزيس في مصر وعشتار في العراق (وقد عبدها بعض العرب كذلك) كانت الآلهة سالفة الذكر تُعبَد في أرجاء الجزيرة، حتى أن «اللات» كانت لها «كعبة» في الطائف!.

ختامًا

لا يتطلب الأمر إذن إلا بعض القراءة المتأنية في التاريخ العربي لإدراك حقيقة أن ما يروّج له المتحفزون تجاه الثقافة العربية من جانب، والمتعصبون دينيًا ضد المرأة من جانب آخر ليس إلا أكاذيب. وحتى بعض مظاهر الظلم التي تعرضت لها بعض النساء كان يوجد ما يقابلها على مستوى الرجال، ولم تكن لجنس المظلوم علاقة بوقوع الظلم عليه بقدر ما كان هذا نتيجة لمستواه الاجتماعي.

وواقع الأمر أن حتى ما طرأ على ثقافة العرب بعد الإسلام من تقييد للنساء أو تعامل «حِسّي» بحت معهن -كثقافة الحرملك مثلًا- فإن ذلك مما استورد العرب من ثقافات أخرى، تحديدًا في العصر العباسي وفترة التأثر بالثقافات الفارسية التي كانت أكثر تشددًا تجاه المرأة؛ أي أن حتى ما يستدل به البعض باعتباره استمرارًا لنهج قديم فإنه غير ذي صلة بالثقافة المجتمعية لهذه الفترة المدانة زورًا بظلم النساء.

المراجع
  1. د. جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام
  2. د.محمد سهيل طقوش: تاريخ العرب قبل الإسلام
  3. عبدالحميد جودة السحار: محمد والذين معه
  4. برهان الدين دلّو: جزيرة العرب قبل الإسلام
  5. توفيق برو: تاريخ العرب القديم
  6. د.محمد عجينة: موسوعة أساطير العرب