لا تتقدم أمة من الأمم إلا بالاستفادة من تاريخها وأخذ العبر عنه، خصوصًا تاريخها الأسود فليس كل تاريخ الشعوب مشرقًا مليئًا بالانتصارات والإنجازات والتقدم.

وإننا في العالم الإسلامي عمومًا والعربي خصوصًا نعاني من أن المشتغلين بالتاريخ عصرنا يميلون للاشتغال على تاريخ الانتصارات الحربية ويهملون تاريخ الانكسارات الشعبية ومن هنا لا تكون هناك العبرة والاتعاظ التي أمر الله بها في قوله: «فاعتبروا يا أولي الأبصار»، فالاعتبار قطعًا لا يكون في الانتصار بل في الانكسار، ولعل مؤرخنا العظيم عبد الرحمن بن خلدون، في كتابه «العبر وديوان المبتدأ والخبر»، أراد التنبيه لضرورة أن عصره هزيمة وإخراج من الديار كما حصل ليهود بني النضير، فلذلك سمى كتابه «العبر»، أي دراسة تاريخ الهزائم والسقوط والتهاوي للدول للاستفادة من ذلك في إنشاء منظومة جديدة تتجاوز أخطاء الماضي.

لقد عُني كثيرون بتاريخ الأندلس في عصرنا هذا تدوينًا وتحقيقًا لنفائس هذا التراث، لكنهم ولسبب يعتقد أنه سياسي تجنبوا الكتابة عن حقب معينة في تاريخ الأندلس، ولعل ذلك يرجع لكي لا يتم الربط بين التاريخ والواقع فيفهم أن الكتابة التاريخية ما هي إلا إسقاط سياسي، ولهذا تهربوا من الحديث عن أحداث مهمة ومفتاحية ربما لأنهم غير مستعدين أن تصبح كتابتهم محل جدل بين الناس، هذا بالإضافة إلى أن الحديث عن بعض الحقب الأندلسية يتسبب بجرح مجتمعي خصوصًا في المغرب العربي والغرب الإسلامي؛ لأنه تاريخ الصراع الدموي ما بين العرب الأندلسيين والبربر الأمازيغ الذي تسبب في انهيار الأندلس فوق رؤوسهم وانتصار الممالك المسيحية عليهم وانطلاق الاستعمار الأوروبي.

لقد قررت السير على خطى شيخ المؤرخين خلف بن حيان القرطبي، بالكتابة عن هذه الحقبة المهمة من التاريخ الإسلامي، لأنني أرى أن الحديث فيها فيه من الفائدة الكثير. وقد قررت الكتابة عن هذه الحقبة في سلسلة من المقالات سميتها «المآثر العامرية والفتنة البربرية القرطبية»، وهو اسم الكتاب المفقود لابن حيان الذي دوّن فيه أحداث هذه الفترة العصيبة من التاريخ التي تعد الحرب الأهلية الأولى في التاريخ الإسلامي، حيث قرر سكان مدينة واحدة إفناء أنفسهم على أساس عرقي بشكل يشابه إلى حد كبير جرائم رواندا والبوسنة ودارفور وهو حدث لا أعتقد أن له مثيلاً في القرون الوسطى.

كيف وصلت الأندلس إلى الكارثة؟

في نهايات الدولة الأموية، وتحديدًا في فترة هشام بن عبد الملك، اندلعت ثورة أمازيغية عنيفة تبنّت فكر الخوارج الصفرية في المغرب الإسلامي بقيادة ميسرة المطغري كان لها تأثير ديمغرافي خطير حيث استهدفت هذه الثورة القبائل العربية في شمال أفريقيا بالتهجير والقتل، فخرج أكثر هذه القبائل من المغرب والجزائر باتجاه تونس وليبيا وعبر البعض إلى الأندلس[1]، ما استدعى تدخلاً من الخلافة في دمشق بإرسال قوات لمجابهة التمرد؛ لكن هذه القوات فشلت وتم حصارها في مدينة سبتة.

تلكّأ حاكم الأندلس ابن قطن (اليمني) في تقديم الدعم لهذه القوات لمواجهة الثورة الأمازيغية البربرية حتى اندلعت الثورة في الأندلس، وفي الأقاليم التي يسكنها (الأمازيغ) في شمال الأندلس، وعجز حاكم الأندلس ابن قطن عن قمعها ما اضطره لاستقدام المحاصرين في سبتة لمجابهة الثوار في الأندلس باعتبار أن ولاية المغرب ساقطة عسكريًا لا محالة.

عبرت هذه القوات إلى الأندلس وعاونته على قمع الثورة بشكل دموي تسبب في هجرة واسعة لكل البربر من الأندلس عكسيًا نحو المغرب هربًا من القمع والقتل ما تسبب في إفراغ الأندلس من البربر[2]، فصار الأندلس عربيًا خالصًا والمغرب أمازيغيًا خالصًا.

خسر المسلمون ديمغرافيًا كثيرًا من هذا الأمر، إذ أخليت حصون ومدن وقرى كاملة كان أهلها من الأمازيغ البربر، خصوصًا المدن الجبلية التي كانوا يسكنونها لتشابهها مع مدن المغرب، وهو ما ساعد الإمارة المسيحية في شمال الجزيرة على احتلال هذه المدن بالتعاون مع الأقليات النصرانية التي كانت تسكنها، وتحولت تلك المنطقة من مجرد إمارة تتحكم بمجموعة من القرى والبلدات الجبلية إلى مملكة عظيمة تحكم مدنًا وبلدات وتمتلك موارد دولة[3].

تجاهل المسلمون خطر هذه المملكة التي ما لبثت أن انقسمت لمملكتين ثم إلى ثلاث وأربع. وبعد عملية غزو فاشلة قام بها شارلمان للأندلس، تصدى لها المسلمون وكذلك الممالك النصرانية، قرّر أمراء قرطبة الأمويون ترك هذه الإمارات دون سحق ربما كحائط عازل أمام الإمبراطورية الكارولينيجية.

انشغلت قرطبة طوال قرن كامل بالتصدي للثورات الداخلية ومحاولات الانفصال ضد تركيز السلطة في يد قرطبة، إلى أن جاء عهد عبد الرحمن الناصر الموصوف بـ «العهد الذهبي»، حيث استطاع الناصر القضاء على آخر الثورات وأخطرها، وهي ثورة عمرو/عمر بن حفصون الذي تنقل في الولاء من مبايعة بني العباس إلى مبايعة الفاطميين في مصر إلى اعتناق المسيحية بحثًا عن تأييد الممالك النصرانية في الشمال، وقد دوّخ هذا الثائر حكام قرطبة حتى تم القضاء عليه.

في عام 316هـ، وبعد أن فرغ الأمير عبد الرحمن بن محمد الأموي الملقب بـ «الناصر» من ردع الثورات بالأندلس، تطلع الناصر إلى المغرب، فغزى طنجة وسبتة، رافعًا شعارًا خطيرًا هو دعوى الخلافة، وأجبر الأدارسة في المغرب على مبايعته بعد أن قام بابتزازهم بقدرته العسكرية على منع تمدد «الدولة الفاطمية» نحو المغرب فكان له ما أراد.

و قد كان هذا التمدد كارثة حقيقية على الأندلس لأن الإمارة الأندلسية لم تكن تملك من الجنود ما تحافظ به على ممتلكاتها الأفريقية في المغرب وغرب الجزائر، وفي نفس الوقت تحافظ به على ثغورها الشمالية في وجه الممالك النصرانية، خصوصًا ليون وقشتالة اللتين لا توجد موانع طبيعية لصدهما عن الاعتداء على الأراضي الإسلامية عكس بقية الممالك الصليبية الأخرى .

أعاد عبد الرحمن الناصر سياسات قرطبة الهجومية نحو ممالك الشمال بتركيز أكبر على قشتالة وليون، وعبر تحصين المدن الشمالية وإعادة بناء الحصون التي دُمرت في المواجهات مع الثائرين، وقد خص بالتحصين مدينة «سالم» الإستراتيجية، عاصمة الثغر الأدنى، ومدينة «تطيلة»، عاصمة الثغر الأعلى، وحولهما عشرات الحصون أهمها حصن قرماج (غرماج) الذي دارت حوله المعركة الشهيرة التي غيرت المستقبل السياسي للمنصور بن أبي عامر بعد انتصاره فيها وكتبت نهاية المصاحفة[4].

و قد تسببت سياسات عبد الرحمن الناصر التوسعية نحو المغرب والجزائر في استنزاف جيشه، وتطلع العدو الشمالي على بلاده. وللاستمرار في التوسع، اتجه الناصر لتجنيد الموالي الصقالبة كجنود مرتزقة في جيشه، وهو ما أدى لتذمر جنوده من أبناء قرطبة والقبائل العربية الذين باتوا يشعرون باشمئزاز من هذا الوضع، فكانت صدمة ما سُمّي «غزوة الخندق» التي هُزم فيها وكاد أن يؤسر فيها، ويعتقد مؤرخون أن تواطؤًا تم على حدوث هذه الهزيمة، بدليل ما فعله الناصر عندما عاد لقرطبة بعد الهزيمة وأعدم ثلاثمئة من قادة جيشه بعد إبلاغ العامة أن هذا جزاء من كاد بالإسلام وأهله[5].

الصراع الجيوسياسي الأموي الفاطمي حول المغرب

انتهز الفاطميون انكسار الجيش الأندلسي الذي بلغتهم أخباره، فتوجه قائدهم الشهير جوهر الصقلي في حملة خاطفة إلى المغرب، دمّر فيها وشتّت أكثر قبائل المغرب الموالية لبني أمية، خصوصًا يفرن وزناتة، وهدم مدن سلجماسة وتاهرت وفاس وتطاوين، حتى وصل إلى المحيط الأطلسي فصاد من سمكه ووضعه في جرار من المياه وأرسله إلى سيد المعز لدين الله الفاطمي[6].

ولم يرجع الصقلي إلى المهدية في تونس حتى خطب لسيده المعز في كل منابر المغرب، وفتك بكل الموالين لبني أمية إلا من رضخ وبدّل ولاءه وبايع المعز الفاطمي، كالحسن بن قنون الإدريسي صاحب مدينة البصرة (مدينة مغربية تسمت على اسم البصرة في العراق)، وكان مصير كل من يرفض أن يؤخذ في قفص من خشب على الجمال إلى المهدية[7].

ومن تداعيات هذا الغزو والدمار هجرة واسعة لأهل المغرب نحو الأندلس. ولم يستطع الخليفة الأموي عبد الرحمن الناصر إرسال جيش للمغرب بقية فترة حكمه لانشغاله بإعادة بناء الجيش.

و زاد من آلام عبد الرحمن الناصر الهجوم المباغت الذي شنه الفاطميون على ميناء ألمرية وتدميرهم لأسطول الأندلس، زعمًا أن الأندلسيين اعترضوا رسالة ما بين ولاة صقلية والمهدية. ولعل هذه الضربة كانت لاختبار الدفاعات الأندلسية تمهيدًا لهجوم واسع على الأندلس، فابن حوقل النصيبي، الذي أرسله الفاطميون في مهمة يعتقد أنها تجسسية، يقول[8]:

ومن أعجب ما في هذه الجزيرة بقاؤها على من هي في يده مع صغر أحلام أهلها وضعة نفوسهم ونقص عقولهم وبعدهم عن البأس والشجاعة والفروسية والبسالة ولقاء الرجال ومراس الأنجاد والأبطال، مع علم أمير المؤمنين بمحلها في نفسها، ومقدار جبايتها، ومواقع نعماتها ولذاتها.

لم يترك الناصر الفاطميين يستمتعون بالمناطق التي سيطروا عليها، فتولى كل حركة معارضة لهم في المغرب بالدعم والتأييد بما فيها ثورات الخوارج.

اتجه عبد الرحمن الناصر في مواجهة الخطر الفاطمي إلى البحث عن حليف قوي، وقد وجده في الدولة البيزنطية التي كانت من قبل حليفة لأجداده ضد العباسيين، لكن كل تحركات الأمويين والبيزنطيين كانت مرصودة من الفاطميين الذين كانوا يسيطرون على مضيق صقلية. وعندما جاء التحرك المشترك، هُزم البيزنطيون هزيمة منكرة حتى رضخوا للصلح مع الفاطميين وتخلوا عن التحالف مع الأمويين.

جرّاء ذلك، يئس عبد الرحمن الناصر من المواجهة، فاتجه لاستجداء الصلح مع الفاطميين. ويحفل كتاب القاضي نعمان، القاضي والوزير الفاطمي، بذكر المجالس والمسايرات بالرسائل التي كان يرسلها الفاطميون بالتمنع عن الصلح مع عبد الرحمن الناصر نورد أحدها هنا للفائدة[9]:

ما تخوفه من الحرب والفتنة وسفك الدماء فما ظهر له منا ما يتخوف منه ذلك وما نحن بمن يؤمن منه لكنه بغى علينا من بغى من أهل عمله فانتصرنا بالله فنصرنا الله وبلغنا فوق آمالنا … أن اشتغالنا به واشتغاله بنا داع إلى ترك جهاد المشركين وأن ذلك نقص وكف عن الإسلام فهلا رأى ذلك إذ بعث بأمواله وهداياه ورسوله إليهم واستنصر علينا بهم فكيف رأى الله عز وجل فعل بهم وبجميعهم …. وأما ما دعا إليه من الكف والموادعة والصلح، وهو يزعم أنه أمير المؤمنين دون من سلف من آبائه وإمام الأمة بدعواه وانتحاله، ونحن نقول إنا أهل ذلك دونه ودون من سواه، ونرى أن الله فرض علينا محاربة من انتحل ذلك دوننا، وادعاه مع ما بين أسلافنا وأسلافه من العداوة القديمة الأصيلة والبغضة في الإسلام والجاهلية.
ثم التفت الخليفة الفاطمي إلى رسول الناصر فقال: «المسلمون أمة جدي لا أمة جد من أرسلك، وأنا أرأف وأعطف وأرحم بهم، فإن دخل أحد منهم في جملة صاحبك فقد دخل في جملة أهل البغي ووجب علي وعلى سائر المسلمين قتالهم.

و قد ذكر القاضي نعمان طرائف من الملاسنات ما بين عبد الرحمن الناصر والخليفة المعز لدين الله الفاطمي، منها افتخار عبد الرحمن الناصر بما تحتويه الأندلس من الكنوز الكثيرة والذخائر الوفيرة وهو ما لا يوجد عند المعز الفاطمي الذي ردّ على ذلك بقوله تعالى: «ألهاكم التكاثر . حتى زرتم المقابر»، وقال: «هذا وعيد الفساق مثله»، يعني الخليفة الناصر.

كذلك ترويج المعز الفاطمي للحاضرين في مجلسه أن عبد الرحمن الناصر ونجله الحكم ممن يفعلون الفاحشة التي يخجل من ذكرها، في إشارة إلى اللواط فيما يبدو، وأنه يُفعَل به، وأن عبد الرحمن الناصر يكاثر في الخمور وفي الفجور ولا ينفق أمواله إلا فيها.

وفي رسالة أخرى يتفاخر الناصر على المعز لدين الله الفاطمي بما في بلاده من الثياب من الخز والوشي الذي لا يوجد في المشرق، وسخر المعز من غباء هذا التفاخر الذي ليس من شيم الملوك بل من طباع الحاكة وأهل الصنائع.

وفي رسالة أخرى، يذكر عبد الرحمن الناصر للمعز الفاطمي أنه يترضى عن الإمام علي بن أبي طالب ويترحم عليه، ويترحم على معاوية ويترضى عليه. فرد عليه المعز أن الضرورة التي دعته للصلاة على النبي محمد هي التي دعته للترضي والترحم على علي بن أبي طالب.

وفي رسالة أخرى من الناصر للمعز، ذكّره بمصير أبي عبد الله الداعي الذي قتلوه بعد أن وطّد لهم الدولة، فردّ المعز مذكرًا الناصر بصنيع جده عبد الرحمن الداخل مع مولاه بدر، عندما قطع يده عندما ذكره بلطمة لطمها إياه عندما زعم أمام جنود العباسيين أنه عبده، وأن ما فعله ليس من أخلاق الملوك لأنهم يحسنون لمؤدبيهم رغم أنهم يضربونهم في الصغر، فكيف بمن يضرب رجلاً ليقيه ويحميه من الموت ويسير معه رفيقًا حتى يدخله بلدًا فيجعله عليه أميرًا.

نشأة الدول التابعة للأمويين في المغرب

وبعد رحيل الخلافة الفاطمية إلى مصر، توقفت حماستها عن الانشغال بالمغرب فاضطرب وتفرقت صفوف أنصار الفاطميين في المغرب، فأسّس زيري بن مناد إمارة في مدينة الجزائر، وأسّس آل حمدون إمارة لهم في «المسيلة»، وأسّس الحسن بن كنون الإدريس إمارة في إقليم الريف المغربي، وأسّس أبناء موسى بن أبي العافية إمارة لهم في الصحراء المغربية.

عاد الأندلسيون للهجوم على المغرب والاستيلاء على مدنه، وساعدهم في ذلك الصراع بين آل حمدون وزيري بن مناد الصنهاجي الذي انتهى بمقتل زيري على يد جعفر بن حمدون الجذامي المعروف بـ «ابن الأندلسي».

وجعفر بن حمدون هو ابن عليّ بن حمدون، وجده الأكبر عبد الحميد كان الداخل إلى الأندلس من الشام، ونزل بكورة إلبيرة؛ ثم تنقل حفيده حمدون، جد جعفر هذا، إلى بجاية، وصحب أبا عبد الله الشيعي الداعي، ودخل في مذهبه. فلما تغلب الشيعي على إفريقية، ظهر عليُّ بن حمدون.

ثم ازداد ظهورًا في أيام عبيد الله المهدي وحظوة، وضمه إلى ابنه أبي القاسم ولي عهده، فازداد حظوة لديه، وخرج معه إلى أرض الغرب، فأمره ببناء مدينة «المسيلة» وولاه عليها، فبقي بها إلى أن هلك في فتنة أبي يزيد سنة 334.

تولى جعفر «المسيلة» خلفًا لأبيه، فلم يزل متوليًا لها، رفيع المنزلة عند سلطانه، إلى أن قتل زيري بن مناد، صاحب أفريقية التابع للفاطميين، القائمَ بدعوة بني أمية محمد بن الخير بن حزر الزناتي؛ خاف جعفر من صاحب أفريقية، فبادر إلى الفرار بنفسه مع أخيه يحيى وجميع أهله وماله سنة 360، فصار عند بني خزر أمراء زناتة.

ثم شق جعفر الصحراء معهم قاصدين زيري، فالتقوا معه، ودارت بينهم حرب صعبة انجلت عن قتل زيري وخلق من رجاله، واحتوى الزناتيون فيها على جميع عسكر زيري، وأدركوا ثأرهم منهم. ولما أن تم الأمر لأمراء زناتة وجعفر بن عليّ على ما أملوه من الفتح في عدوهم زيري بن مناد، بادر جعفر بمراسلة الحكم بن عبد الرحمن في الأندلس، ملقيًا بنفسه إليه معتصمًا بدعوته؛ ثم أرسل إليه أخاه يحيى بنفسه، ثم سار إليه بنفسه فحظي عنده[10].

تبع ابن حمدون جمهرة من أصحاب المدن المغربية، باستثناء الحسن بن كنون الذي امتنع عن بيعة الحكم المستنصر فأرسل إليه ابن حمدون قائده غالب الناصري في حملته الشهيرة التي استمرت أعوامًا، وانتهت بانتصار القرطبيين وتوحد كل المغرب الأقصى وجزء من المغرب الأوسط تحت حكم بني أمية[11].

وبما أنه لم يعد هناك قتال في المغرب، أخذ الحكم الجند من القبائل إلى الأندلس حيث تم تدوينهم في ديوان المقاتلين بمشورة من الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي.

كانت هذه القوات القبلية التي دخلت جزيرة الأندلس أصنافًا شتى، ولم يكونوا ذوي رأي واحد أو مذهب واحد، فكان منهم الشيعة كقبائل صنهاجة، والإباضية كقبائل بني برزال، والمتعصبون لبني أمية كقبائل زناتة (يفرن ومغراوة)، وكان منهم من يعتقد في إسلام محرّف بعقائد وثنية كبرغواطة[12].

كانت الفكرة سيئة من جملة أفكار المصحفي السيئة التي دمرت الأندلس. ولعل جعفر بن عثمان المصحفي لما رأى نفسه من غير عصبة يحمونه، وتذكر أنه من أصول بربرية أمازيغية مكناسية، اتخذ هؤلاء الجنود درعًا له في مواجهة عدوه قائد الجيش غالب بن عبد الرحمن الناصري، وهو الذي كان الجيش يواليه بشكل كامل، فجاء بهؤلاء المقاتلين لعله يجد بهم عصبة، ولعله كان يمنّي نفسه أن يستبد بالخلافة دون أصحاب الخلافة كما حصل لبعض الحجّاب في بغداد العباسية والقاهرة الفاطمية.

لم يكتفِ جعفر المصحفي بذلك؛ فقد قام المصحفي بقتل شقيق الحكم وتولية الحكم لابنه الصبي، ثم قرر التوقف عن الهجوم على الممالك النصرانية لتوفير النفاقات. وهذه حكاية المؤرخ الأندلسي الأكبير أبي حيان للواقعة[13]:

كان جوذر وفائق، فتيا الحكم، قد أخفيا موته [أي موت الحكم]، ودبرا على صرف البيعة إلى أخيه المغيرة. وكان قال له فائق: إن هذا لا يتم لنا إلا بقتل جعفرٍ المصحفي.
فقال له جوذر: ونستفتح أمرنا بسفك دم شيخ دولة مولانا! قال له: هو والله ما أقول لك.
ثم بعثا إلى المصحفي ونعيا إليه الحكم، وعرفاه برأيهما في المغيرة، فقال لهما المصحفي: «وهل أنا إلا تبع لكما وأنتما صاحبا القصر ومدبرا الأمر، ولكما الرأي فيما قلتماه!» فأخذا في تدبير ما رأياه.
وخرج المصحفي وجمع حاشيته وجنده، ونعى إليهم الحكم وعرفهم مذهب جوذرٍ وفائق في المغيرة، وقال: «إن بقينا على ابن مولانا كانت الدولة لنا [يقصد الصبي هشام المؤيد بالله ابن الحكم المستنصر بالله]. وإن بدلنا استبدل بنا». فقالوا: الرأي رأيك. فبادر المصحفي ببعثه محمد بن أبي عامر مع طائفة من الجند وقته إلى دار المغيرة لقتله.
قال ابن أبي عامر: فألفيت المغيرة مطمئنًا لا خبر عنده، فنعيت إليه أخاه الحكم فجزع. وعرفته جلوس ابنه هشام في الخلافة، فقال: أنا سامع مطيع. فكتبت إلى جعفر بحاله وبالصورة التي ألفيته عليها من السلامة. فراجعني جعفر المصحفي وهو يقول: «غررتنا. اقض عليه وإلا وجهت غيرك من يقتله!» فقتله رحمه الله خنقًا.

نستطيع القول إنه بنهاية عهد الحكم المستنصر، كانت الأندلس قد انتصرت في الصراع على المغرب مع الفاطميين، فمدت سلطاتها حتى الجزائر العاصمة، وتخلى الفاطميون عن الصراع معهم بعد أن أغنتهم كنوز مصر والحجاز والشام، وأصبح الصراع مع السلاجقة في المشرق أولى من الصراع مع الأمويين في المغرب.

لكن دولة الفاطميين أصبحت تتمتع بالتجانس، بينما أصبحت دولة بني أمية خليطًا من الأمم؛ عربًا وصقالبة ومولدين ورومًا وبربرًا.

مات الحكم بن عبد الرحمن الناصر وترك الحكم لصبي لم يتجاوز التاسعة، ومعه أمه التي شغفها الوزير محمد بن أبي عامر.

المراجع
  1. عبد العزيز الثعالبي، تاريخ شمال أفريقيا، 138-141.
  2. فتح الأندلس وذكر أمرائها، ص41، 42، 43.
  3. ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 5/83.
  4. ابن عذاري، البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، 1/261.
  5. لسان الدين ابن الخطيب، أعمال الأعلام، 2/37،38.
  6. الناصري، الاستقصا في أحوال المغرب الأقصى، 1/255.
  7. لسان الدين بن الخطيب، أعمال الأعلام، 2/381.
  8. شهاب الدين المقري التلمساني، نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب، 1/211.
  9. القاضي النعمان، المجالس والمسايرات
  10. ابن عذاري، البيان المغرب، 2/242 وما يليها.
  11. ابن حيان، المقتبس من أنباء الأندلس، ص26. وابن عذاري، البيان المغرب، 2/228.
  12. ابن الخطيب، أعمال الأعلام، ص192.
  13. ابن بسام، الذخيرة، 4/58.