محتوى مترجم
المصدر
Open Democracy
التاريخ
2018/09/14
الكاتب
إيمان الشربيني

سارة، البالغة 25 ربيعًا، لا تأمن الحديث مع أبويها حول ما تشعر به حيال أمور كثر. لم يكن جهرها بالإلحاد ليمر مرور الكرام، هي التي كابدت الكثير مع مفهوم الدين منذ نعومة أظفارها. تقول «أصابهما الهلع وأصرا على أن أرى شيخًا من العائلة». بل هدد والدها بالكف عن الإنفاق على تعليمها الجامعي. تضيف:

أفزعني كل شيء، ووجدت نفسي في النهاية مجبرة على القول إنني أؤمن بالله.

الآن تلجأ سارة للكذب فيما يخص حياتها الجنسية وشرب الخمر وغير ذلك؛ لكن ما تصفه هي بـ«نظام التشغيل والإطفاء» يكشف بوضوح القيود التي تفرضها المجتمعات المحافظة، والإسلامية منها بخاصة.

تحتل مصر المرتبة السادسة ضمن أقل 15 دولة تحررًا في العالم، وفق مؤشرات ثلاثة: مؤشر التقدم الاجتماعي، ومؤشر الأداء البيئي، وتقرير الفجوة بين الجنسين الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي.

في البدء، واجهت مصر هجمة من الإسلاموية والتشدد الوهابي مهد لها الطريق المُنظِّر والرمز الإسلامي سيد قطب إبان عقدي الخمسينات والستينات، حين تزعم جماعة الإخوان المسلمين وحرض على العنف. شعر الكثيرون بأثر التحول المحافظ في المجتمع، وبالنتيجة عانت النساء أكثر من الرجال. وبالرغم من انتفاضة 2011 ضد نظام مبارك وما مارسه من جور، لا تزال النساء في مصر يتعرضن لمعاملة مهينة، ولليوم لا يزلن الطرف الأضعف في مسائل الطلاق والختان والتحرش الجنسي والتعليم.

كشف مسح أجرته الدراسة الاستقصائية الدولية بشأن الرجال والمساواة بين الجنسين أن 86.8% من الرجال يرون الأولوية الأولى لدى المرأة يجب أن تكون العناية ببيتها وأسرتها، قبل أن تهتم بالطموحات الحياتية المتاحة للرجال مثل العمل، بينما يرى 90% أن المرأة يجب أن تتقبل التعرض للعنف من جانب الزوج أو الشريك، وألا تهجر بيتها ما دامت الأسرة تحيا تحت سقف واحد. كشف المسح أيضًا أن النساء لا يفكرن على نحو مختلف كثيرًا (النسبة لدى النساء 76.7% و70.9% بالترتيب لنفس المعلمين المذكورين)، مما يعني أن النساء أنفسهن يعتنقن نمطًا مشابهًا من التفكير.


حالات مستعصية

إن ما مارسته وتمارسه سارة من كذب هو في جزء منه حب عميق لأسرتها، وفي جزء آخر ضرب من التكيف، باستثناء الكلفة العاطفية الباهظة، والانسحاق تحت وطأة الشعور بالذنب والخزي. تقول:

لا أستطيع حتى أن أخبرهم أنني تعرضت لاعتداء جنسي. عليّ أن أكابد الشك المرضي والقلق والكوابيس المزعجة. أشعر أنني أحيا حبيسة تحت قناع وأنه إن انكشف أمري فسأقتل نفسي.

سارة تعاني حاليًا من اضطراب ما بعد الصدمة ونوبات هلع ونوبات اكتئاب طفيفة.

مشاعر مماثلة تنتاب نورا، وإن كانت ظروفها أشد وطأة. تقول نورا، طالبة الدكتوراه ذات الأعوام الـ 28، بمرارة:

التقاليد سوط يعذبني به أبواي. أود أن أكون صادقة في كل شيء، لكن كلما فكرت في ذلك أفزعني العنف الذي قد أتعرض له، أو ما هو أسوأ: الطرد… ألجأ عادة إلى جرح نفسي أو نتف شعري لتنفيس الضغوط. المفارقة إنني أدعو الله لينتشلني من كل هذا أو يُذهبه عني بأي طريقة.

قال لها أخوها مرارًا إنها تستحق الموت عقابًا على ازدواجية ميولها الجنسية. صارت صحتها العقلية والبدنية في حالة مزرية، إذ تعاني من صداع نصفي شديد وقلق مدمر، أصبحا جزءًا مألوفًا من حياتها اليومية.

زينب، وتبلغ 32 عامًا، تعزو خلافاتها مع أبويها إلى رؤيتهما المحافظة. تقول «إنهما يعتقدان وفق قناعاتهما أن نمط حياتي غير مقبول أدبيًا أو دينيًا وخطأ أخلاقيًا، ويعتقدان أيضًا أنني أخاطر بنفسي ومستقبلي، ولذا فهما قلقان».

زينب قلقة بدورها، وهي تراوغ أسئلتهما بدلًا من الكذب عليهما، لكن «هذا لا يزال كذبًا مع ذلك» كما تقول، وتضيف «يبدو الأمر وكأنني في مرمى سيل من العداوات التي تجعل الراحة ضربًا من المستحيل. أنا عالقة على حافة طيلة الوقت، أطوي نفسي على خزي كبير وإرهاق مُضن».

من بين أكثر ما يعذب زينب في حياتها المزدوجة تلك، عجزها عن الجهر بما تشعر به، حتى في أشد لحظات حياتها صعوبة. تقول:

مررت مؤخرًا بأزمة صعبة، واضطررت لعيش حياة مزيفة. كلفني كتمان كل هذه الأحاسيس ثمنًا باهظًا، وتركني أكثر ألمًا وإنهاكًا، وفي بعض الأحيان يشتد قلقي حيال هذا الأمر ويؤثر على قرارتي اليومية. صرتُ أشعر على الدوام أنني في خانة الدفاع، سريعة الغضب ومستنفدة. لا أملك ترف الأمان المالي وأشعر أن صحتي وسلامتي الجسدية مهددتين، وهذا يورثني قلقًا واكتئابًا.

الاضطراب المجتمعي

تحدث عمرو علي، عالم الاجتماع ومدرس علم الاجتماع السياسي في الجامعة الأمريكي بالقاهرة، حول ما سماه «الاضطراب المجتمعي»، فقال «مما يدعو للأسف أن المرأة غالبًا ما تكون في مقدمة ضحايا الاضطراب المجتمعي.

لقد ابتلعت العولمة والنزعة الاستهلاكية المجتمع المصري، وترافق ذلك مع نزع الإنسانية على يد النيوليبرالية، وبالنتيجة صارت هناك نزعة فردية طاغية ومجتمع مفكك وشعور سائد بالعزلة لدى الأفراد. وأرى أن النساء يعشن فيما يشبه المنفى الداخلي».

يضيف علي «لقد ورثت مصر اختلالات الحداثة، التي جعلت منها مكانًا شديد التناقض على المستويين السياسي والاجتماعي؛ فلدينا انتخابات دون ديمقراطية، وبرلمان دون تمثيل، ونتغنى بمزايا المواطنة دون أن نقيم وزنًا للمواطن».

ويلاحظ علي أن النساء اللائي يحضرن محاضراته المفتوحة غالبًا ما يضطررن للتصرف على نحو أكثر تحفظًا من سلوكهن على الإنترنت، حيث يمكنهن التصرف بحرية أكبر.

ويقول علي «ليس من المستغرب أن ترى النساء يلاحظن النظرات المسلطة عليهن حين يتحدثن أو يلقين الأسئلة في مناقشة مفتوحة، بعكس رسائل البريد الإلكتروني ووسائل التواصل الاجتماعي، التي يوجهنها بطريقة أكثر مباشرة وثقة، قبل أو بعد الاستفسار عن المناقشة. ومع ذلك، يبدو أن هذه الفجوة تتقلص خلال الأعوام الأخيرة لصالح تواصل نسائي أكثر ثقة في الفضاءات العامة».

ولا يغفل علي، في الوقت ذاته، عامل الخجل، الذي يجبر الناس في مصر على الإفراط في الحساسية حيال الانطباع الذي يتركونه في الفضاء العام.


«أون ذا ران»: حادثة التجمع

انقسم المصريون إثر تسرب مقطع فيديو يسجل واقعة تعرض شابة للتحرش أثناء عودتها من العمل. صوّرت «منة جبران» الرجل الذي تحرش بها أمام أحد فروع سلسلة محال «أون ذا ران»، ونشرت المقطع عبر موقع فيس بوك، فقط لتتلقى سيلًا من التعليقات التي تسخر منها وتدافع عن سلوك الشاب المستهتر.

يقول علي:

إنهم لم يدينوها بقسوة، هي الضحية، فحسب، وإنما رفعوا المتحرش إلى مصاف النجوم والتقطوا الصور معه، وبعضهم ممن يُطلق عليهم نسويون.

وأضاف علي أن المصريين مهجوسون بما يمكن أن يُقال عنهم، وهو ما يمنع العديد من النساء من التحدث عما تعرضن له. «هذا الأمر خارج عن السيطرة، وآخر أمثلته واقعة تحرش أون ذا ران».

وبالنظر إلى أن 99.3% من المصريات قد تعرضن للتحرش، فإن التطبيع مع أمر مريع كهذا هو بحد ذاته أمر صادم.

في أعقاب انتفاضة 2011 التي أطاحت بديكتاتور البلاد الأسبق حسني مبارك، ومض بصيص أمل سريع لدى المصريات، المحافظات منهن والمتحررات، في قدر أكبر من الحرية.

يوضح علي:

مبارك أفسد علاقة المصريين بالدين بشكل غير مباشر؛ فمن خلال خنق المجال السياسي ألجأ الكثير من الناس إلى المجال الديني كنوع من التعويض أكثر منه اختيارًا حرًا، وربما بلغ هذا الأمر ذروته في منتصف العقد الأول من القرن الحالي، حيث رأينا طفرة مفاجئة، وإن كانت تتصاعد بثبات مطرد، في استعراض التقوى لدى فئات اجتماعية جديدة، مثل النساء اللائي تحولن لارتداء الحجاب.

بعد ثورة 2011، انتشر خلع الحجاب بين النساء في ثورة ثقافية مصغرة استدعت رد فعل سلبيًا على ما كان يمكن أن يبدو فعلًا عاديًا لا غضاضة فيه.

يقول علي «بالنسبة لي، لم يكن مستغربًا أن أسمع من نساء مصريات اختبرن أزمة إيمان من نوع ما أنهن يردن أن يحببن الله وأن يشعرن برحمته، لكن رغبتهن تلك تهتز بشدة حين يتعرضن للإهانة والاختزال في شخصية ثنائية الأبعاد، مطلوب منها أداء قائمة من الفروض، مثل ارتداء الحجاب أو الظهور بمظهر مقبول اجتماعيًا».

«لقد وصلت الخطب الدينية إلى مستوى مزر من العقم. أعتقد أن أسوأ ما ابتُلي به المجتمع المصري هو الضحالة. ثمة فقر مدقع في الخيال القادر على إيجاد الحلول للمشاكل. لكن الرأي العام يولد من جديد كل يوم وعلينا أن نتشبث بالأمل».


الحياة المزدوجة للنساء

هذا النمط من الهيمنة الذكورية الطاغية والعنف يسطّح من تعقيد الطبيعة البشرية في أوقات شديدة التعقيد، ومن الظلم لوم الفقه الإسلامي الغني بتراث من الاستيعاب الرحيم للفوارق الدقيقة، والمتعاطف مع التغيرات في الظروف.

يعتقد خبراء الصحة النفسية أن عواقب هذا النوع من الحياة المزدوجة تتجاوز الخلافات الأسرية. وكشفت دراسة أجرتها جامعة نوتردام على مدى عشرة أسابيع أنه كلما قل معدل الكذب قلت الشكوى من المتاعب النفسية والجسدية. والأكثر من ذلك أن أفراد العينة المستطلعة ممن لا يمارسون الكذب كثيرًا يتمتعون بعلاقات أكثر إيجابية وتفاعلات اجتماعية أفضل.

يقول الطبيب النفسي القاهري «شريف عثمان» إن الكذب المستمر يجعل الشعور بالذنب لصيقًا بالنساء، حتى حين يكذبن في سبيل حماية أنفسهن أو لأهداف نبيلة، ويضيف «هناك أيضًا الكثير من الضغوط النفسية لأنهن يضطررن إلى التنبه لكل الأكاذيب التي يروونها. وبمرور الوقت يتحول الكذب إلى عادة أو وسواس ويخرج عن السيطرة ليتخذ شكلًا مرضيًا».

ويمضي عثمان ليوضح أن المتابعة المستمرة لعدد ضخم من الأكاذيب قد يورث اضطرابات نفسية مثل اضطراب القلق العام، الذي تنتاب المصاب به حالة مستمرة من القلق، حتى في غياب أي مسبب للقلق، ومثل ضغوط أخرى قد تؤثر على الصحة النفسية، كقلة النوم بسبب الشعور الملح بالذنب وأمراض القلب الناجمة عن القلق، وضغط الدم غير المستقر.

فيما يخص العلاقات الاجتماعية والشخصية، يؤكد عثمان أن تراكم الأكاذيب يدمر الثقة المتبادلة بين الأحبة، ويقول «خسارة ثقة الناس تضرب طوقًا من العزلة حول الكذابين، والكذابين بدورهم عادة ما يميلون إلى الانسحاب اجتماعيًا لأنهم لا يحبون مكابدة القلق المصاحب للكذب أو الخوف حيال انكشافهم. عليك أن تقيم إيجابيات وسلبيات الكذب وصناعة قرار واع».

ويشرح عثمان في سياق المجتمع المصري المحافظ «لا يجب أن يكون الكذب الخيار الأول. يجب أن يتواصل الناس مع آبائهم وأن يكشفوا عن مكنونات صدورهم بدلًا من كتمان كل شيء. إن الخطوة الأولى لترويج فكرة ما في المجتمع بحيث تلقى القبول هي طرح الفكرة جهرًا».

عثمان أوصى في الوقت ذاته بالتفاهم حول الأمور غير المقبولة من جانب الأسرة، فقال «يجب أن نستخدم مهاراتنا في التفاوض لطلب مزيد من الحقوق، فليست كل الأمور مسلمات جامدة، وهذا الحل يمكن اللجوء إليه قبل الكذب».

يثق عثمان أن التغيير قادم، وأنه لا حاجة للانتظار لعشرات السنوات قبل أن تحدث ثورة ثقافية، وأن «النساء الآن أجهر صوتًا. لا تستهن بقوة وسائل التواصل الاجتماعي؛ فنحن لم نعد نُلقن ما يتعين علينا فعله كما كان الحال من قبل، والنساء أصبحن أكثر قوة في المطالبة بحقوقهن، وإذا ما استمر الحال هكذا ففي غضون عقود قليلة ستصبح المصريات حرائر في فعل ما يشأن».

تقول خبيرة علم النفس السريري «شارون بيري» إن المعلومات المخفاة عن الأسرة يجب أن يُفضى بها إلى أشخاص آخرين كي لا تنوء النساء بحمل هذه الأكاذيب، وأن «معظم الأسر متصلبة الرأي وتعيش في حالة من الإنكار بشأن ما قد يكون أبناؤها يفعلونه أو لا يفعلونه»، وتضيف أن الكذب يحمي الأسرة لكنه في نهاية المطاف يضر بمن يمارسه. وكما تشرح بيري «الأمر لا يتعلق بالجنس فقط. إننا بحاجة إلى النظر إلى حالات الحمل والأمراض المنقولة جنسيًا والإيدز، وهي أمور لا يبدو الشباب هنا واعين بها».

بيري، مع ذلك، تستشرف المستقبل بنظرة إيجابية: «الناس يتفتحون ببطء ويتحدثون مع أطفالهم ويقدمون المساعدة. لا يمكننا تحدي الأعراف الثقافية أو تبرير الكذب، لكن بوسعنا حصر ممارسة الكذب نفسها في أضيق نطاق ممكن».

ومع أن الكثير من النساء لا يشاطرون عثمان وبيري رؤيتهما المتفائلة، تعتقد نورا أن حب أسرتها لها سيجُبّ حتمًا أي خلاف معها، أو كما تقول «أعرف أنني أبدو ساذجة، لكن ربما كان عقلي يحاول التأقلم مع الحقيقة القاتمة».