هذا كتاب [ألفه أتول غواندي الجراح الأمريكي ذو الأصول الهندية] عن تجربة الفناء الحديثة، عما يعنيه كوننا مخلوقات تشيخ ثم تموت، وكيف غير الطب هذه التجربة، وأين توقف عن تغييرها، وما الأفكار الخاطئة التي حملناها حول نهاية الإنسان المحتومة، وكيف نتعامل مع هذه النهاية.

مع التقدم العلمي، غدت ملابسات الشيخوخة والموت من اختصاص الطب، ومع أن أهل التخصص أثبتوا عدم استعدادهم للقيام بذلك فإن ذلك التوجه ما يزال في ازدياد. كان المنزل مسرحًا أكثر الوفيات حتى عام 1945، لكن بحلول الثمانينيات لم يعد يشهد إلا 17% منها. يخرج المسنون والمحتضرون من بيوتهم إلى أسرة المستشفيات حيث يقضون آخر أيامهم بين قوم لا يكادون يعرفون أسماءهم، ناهيك بفقد شبه تام للتحكم في أمورهم، بعد أن اعتاد البشر طويلًا على أن تسير حياة العجائز وفق إرادتهم بينما يتحتم على العائلة تهيئة الظروف لإنفاذ تلك الإرادة.

أحدث تطور الطب ثورة في التركيبة السكانية حول العالم، إذ بلغت نسبة المسنين أرقامًا مبهرة من المنظور التاريخي، بينما أعداد أطباء الشيخوخة المعتمدين في الولايات المتحدة – على سبيل المثال يشهد هبوطًا. لا يحب كثير من الأطباء العناية بالمسنين، ذلك لأنهم لا يجيدون ذلك، كما أن طبيعة مشكلات المسنين المزمنة لا تشعر الطبيب بالتفوق أو بالمهارة مقارنة بالمشاكل الصحية القابلة للعلاج، رغم التأثير الهائل لطب الشيخوخة على حياة المسنين.

أظهرت دراسة لجامعة مينيسوتا أن احتمال إصابة المرضى من زوار فرق العناية بالشيخوخة بالعجز أقل بنسبة الربع من غيرهم، واحتمال إصابتهم بالاكتئاب أقل بنسبة النصف، كما أن حاجتهم إلى الخدمات الصحية المنزلية أقل بنسبة 40%؛ ذلك رغم أن مبلغ مهام تلك الفرق كان تسهيل المعالجة، بمتابعة التهاب المفاصل أو حتى التأكد من تقليم الأظافر وكفاية الغذاء المتناول ومدى أمن المنزل لحياة المسن، لكن المفارقة أن الجامعة أغلقت لاحقًا قسم العناية بالشيخوخة.

يقول […] الطاعنون في السن إن ما يخافون منه ليس الموت؛ بل ما يحدث قبيل الموت؛ وهو أن يفقدوا القدرة على السمع، أن يفقدوا ذاكرتهم، أن يفقدوا أعز أصدقائهم، أو أن يفقدوا طريقة الحياة التي عاشوها.

نجا المسنون في العالم الصناعي عامة من رعب ملاجئ الفقراء الموبوءة، لكن خيارهم الجديد مراكز عناية حديثة يرونها جحيمًا مخيفًا يختار البعض الأزمة القلبية وحيدًا منعزلًا عوضًا عنها، ذلك لأن استجابة تلك المراكز لرغبات المسنين لم تختلف عن مثيلتها لدى ملاجئ الاستغلال الكلاسيكية، حتى لاحظ بعض علماء الاجتماع تشابهًا بين السجون ومنازل التمريض قبل نصف قرن من حيث هي مؤسسات مطلقة السيطرة مقطوعة عن المجتمع الأوسع.

بشكل عام، نتجت لا مبالاة مراكز العناية بالمسنين التقليدية برغبات نزلائها عن عقود من المجد الطبي اللاحق على الحرب العالمية الثانية، كما كان انتشارها نتاج رغبة المشرع في تخفيف العبء عن المستشفيات. صحيح أن الأسرة كانت البديل البديهي، لكن زيادة أعداد وأعمار المسنين صادف اعتماد الأسر الشابة على مصدري دخل، كما يكره المسنون انتقال السلطة من أيديهم إلى أيدي الأجيال الأصغر سنًا عند الانتقال للعيش معهم، لذا لا يثور المسنون لأنه ما من بديل أمامهم.

تكمن مشكلة بيوت التمريض في أولوياتها، وهي أمور مثل تقرح الجسم ووزن النزلاء، أمور مهمة لا جدال، لكنها ليست ما يثمنه النزلاء حقيقة، فهم لا ينشدون مجرد حياة آمنة بل حياة ذات قيمة تستحق أن تعاش، وليس مطلبهم بالجنوح الذي يبدو عليه. في حين يفضل الشباب ملاقاة الغرباء وخوض التجارب الجديدة، فإن اهتمام الكبار بنصب على علاقاتهم القديمة ويثمنون المضارع مقارنة بالمستقبل.

نتيجة الوعي المتنامي ظهرت أجيال جديدة من بيوت التمريض، مراكز عناية متطورة بطرق مختلفة، منها ما هو أشبه بالمجمعات السكنية التي ادعت توفر حرية وشبه استقلالية مع وجود خدمة تمريضية، لكن سيثبت أن هدف بعضها لم يكن إرضاء النزيل بل أسرته (أصحاب القرار)، بينما ستأتي محاولات أخرى بنتائج مبهرة.

رسخ منزل تمريض يدعى «تشيس ميموريال» مفهوم حياة البيت الشخصية، وتستجلب النباتات الطبيعية وعددًا من الحيوانات الأليفة إلى المكان، تحدث أفراد أعتقد أنهم عاجزون عن النطق، ونهض بعض ملازمي الفراش وطلبوا اصطحاب الحيوانات في جولة. أثبتت تجربة تشيس ميموريال نجاحًا طبيًا أيضًا، مثل انخفاض متوسط عدد وصفات الأدوية إلى النصف تقريبًا، بخاصة بعض الأدوية النفسية، وهبوط الوفيات بنسبة 15%، وازدادت النتائج تحسنًا مع زيادة إحساس المرء بالتحكم في حياته في التجارب الأخرى.

معركة الإنسان المقضي عليه بالفناء هي معركة الحفاظ على سلامة حياتنا، أي تجنب أن يصبح أحدنا منتقصًا أو مشتتًا أو خاضعًا […] والموت والشيخوخة يجعلان هذا الصراع صعبًا حقًا، ولكن المحترفين الذين نلجأ إليهم […] يجب ألا يجعلوا المشكلة أسوأ مما هي عليه.

تنفق نسبة كبيرة من ميزانية الرعاية الطبية على حالات شبه ميئوس منها، وهو أمر عجيب ومعاش في آن. في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، يجري إنفاق 25% من مصاريف الرعاية الطبية على 5% من المرضى في سنواتهم الأخيرة، بل أكثرهم في أشهرهم الأخيرة أيضًا. إن ضرر العلاج المكثف للموت أكبر من نفعه، سواء على المرضى الذين تتردى حالتهم الصحية بشكل جسيم خلال الأسابيع الأخيرة مقارنة بأقرانهم ممن لا يخوصون العلاجات اليائسة، وعلى أحبابهم الذين تتضاعف احتمالية إصابتهم بالاكتئاب ثلاث مرات مقارنة بذوي سابقي الذكر. لقد صار الموت، لا المريض، أطول عمرًا، بفضل التقدم العلاجي الهائل، وكثيرًا ما لا يفرق البشر بين الحالتين، أو لعلهم في حاجة إلى سياقات مختلفة وبعض الإرشاد.

في دراسة أجراها مستشفى ماساتشوستس على مرضى بسرطان الرئة من المرحلة الرابعة، وجد أن العينة التي تلقت نصف العلاج المعتاد للأورام مع جلسات العناية التلطيفية المختصة بمنع المعاناة والتخفيف عن المرضى، كانت أسبق إلى الإقلاع عن العلاج الكيميائي، وإلى الانتقال إلى بيوت رعاية الهوسبيس المتخصصة في توفير الراحة لمن لا يرجى شفاؤهم، كما ازدادت معدلات أعمارهم بمقدار الربع، مقارنة بالعينة التي تلقت العلاج المعتاد للأورام كاملًا دون جلسات العناية التلطيفية، لكن هذه دراسة يصعب مواجهة المرضى بمغزاها.

ينقسم الأطباء من حيث دورهم في اتخاذ القرار إلى ثلاثة أنواع، أولهم، وأسبقهم ظهورًا وأكثرهم انتشارًا هو، الطبيب ذو العلاقة الأبوية، الذي تسبب في الأزمة الحالية، وهو من يخبر مريضه: افعل ذلك، إنه الأفضل لك. الطبيب المعلوماتي هو ثاني أنواع الأطباء، يقدم للمريض حقائق وأرقامًا، وتظهر مثالبه في حالة الكم الهائل من المعلومات أو عدم رجوح إحدى الكفتين (أو أكثر) بدرجة كافية. مؤخرًا جرت الدعوة إلى تبني نموذج الطبيب التفسيري، يسأل المريض عما يهمه حقًا وعما يقلقه، وبناء على الإجابات يوجه المريض إلى الفعل المناسب، وهذا هو النوع اللازم للاستفادة من تجربة ماساتشوستس.

اعتقدنا [نحن الأطباء] أن عملنا هو أن نضمن صحة الناس وبقاءهم أحياء، غير أن مهمتنا في الواقع أكبر من ذلك بكثير؛ إنها تمكين الناس من الحياة السعيدة، والحياة السعيدة ترتبط بالأسباب التي من أجلها يرغب المرء في أن يعيش.

غالبًا ما يمضي المريض في طريق العلاج الأليم قدمًا مهما ضعف الأمل، لكن من الخطأ اعتبار ذلك قرارًا من الأساس، بل هو الطريق الوحيد المعبد أمامه، كما يجهل معظمهم ضعف الأمل في النجاة نتيجة نقص المعرفة الطبية وتحرج الطبيب من التصريح، هكذا يختار المرضى خلاف أولوياتهم. تخسر أكثر الحالات الخطرة بالعلاج الصارم كثيرًا مما كانوا ليتمنون فعله في نهاية حياتهم، يخسرون فرحة الاجتماع بالأهل والأحفاد والرفاق، يخسرون حماسة أهداف جديدة قصيرة، يخسرون كثير من لحظات العافية من الآلام، كما يخسر أحبابهم الكثير قبل وفاتهم وبعدها.