عبر حلقات برنامجه «الموهوبون في الأرض» المذاع على قناة العربي، يأخذنا الكاتب الصحفي بلال فضل في جولة نتعرف من خلالها على تاريخ وحيوات العديد من الموهوبين والمبدعين العرب وبخاصة المصريون من بينهم.

على مدار حلقات ومواسم البرنامج المختلفة، ظهر وكأن هناك نمطًا مرت به حياة العديد من هؤلاء الموهوبين الذين حاولوا أن يغردوا خارج السرب، بعيدًا عن معايير الوسط الذي يعملون به من «شللية» وتمجيد لأنصاف المواهب، الداعمين لوجودهم من خلال تلك «الشللية» والعلاقات سواء بأشخاص داخل الوسط أو في النظام السياسي. انتهى الحال بمعظم هؤلاء نهاية يمكن وصفها بكونها مأساوية، بحيث يفتك بهم المرض محاصرين من العزلة التي فُرضت عليهم بسبب احترامهم موهبتهم إن أمكن القول.

القصص كثيرة جدًا وفي كافة المجالات تقريبًا التي تندرج ضمن مجالي الفن أو الكتابة. وحتى في حالة الموهوبين الاستثنائيين الذين نجحوا في الاستمرار دون أن يهينوا موهبتهم، سوف نجد أنهم لم يقدموا بشكل واضح على تحدي السلطة على سبيل المثال أو انتقادها بشكل علني، وهذا يظهر في حالة نجيب محفوظ على سبيل المثال.

وهنا بالتأكيد لا يمكن لوم نجيب أو غيره على ذلك، فعلى الأقل احترم نجيب وغيره موهبتهم وحتى ولو لم ينتقدوا بشكل علني النظم السياسية التي عاصروها فهم لم «يُطبلوا» لها حتى نهاية مسيرتهم. ومسألة أن تظل تحترم موهبتك أو تحافظ على موقفك هي مسألة مهمة للغاية في حقيقة الأمر، فكم من مثقفين وموهوبين احتفظوا عبر مسيرتهم بموقف مشرف ضد النظم السياسية الحاكمة في أوطاننا العربية ثم يتغير ذلك في لحظة ما قبل نهاية مسيرتهم بالأخص، وهو الأمر الذي رأيناه في الحالة المصرية بعد الإطاحة بحكم الإخوان المسلمين من مصر.

والغريب هنا أن بعض هؤلاء المتحولين لم يفعلوا ذلك طمعًا في منصب أو أي مكاسب مادية على سبيل المثال. هل يمكن تفسير ذلك بكبر سن بعض هؤلاء وتأثير الزمن على درجة إدراكهم للأمور والتعاطي معها؟ أم أن ذلك هو توجه شائع في أوساط بعض المثقفين العرب من تفضيل السلطوية العسكرية على السلطوية الدينية؟

بالتأكيد لا يمكن التعميم بأن جميع المثقفين أو الفنانين الملاصقين للسلطة هم أنصاف مواهب أو يفتقدون للموهبة كليةً، فهناك موهوبون ارتبطوا بالسلطة عن قناعة ومن بين هؤلاء: صلاح جاهين والكثيرون من جيله الذين آمنوا في عبد الناصر ومشروعه، ولكن تلك الفئة من الموهوبين التي التصقت بمشروع دولة ما بعد الاستقلال من الصعب أن نجدها في وقتنا هذا.

وكذلك نجد أولئك الموهوبين الذين قرروا السير مع التيار ومباركة النظام السياسي ليس عن اقتناع وليس طمعًا في منحة منه، ولكن فقط ليتركهم يمارسون عملهم دون محاولة وضع العراقيل في طريقهم، ولعل على رأس تلك المجموعة يأتي فنان مثل عادل إمام وغيره من الموهوبين.

ولسخرية القدر فإن بلال فضل الذي يقدم لنا ذلك البرنامج عن الموهوبين الذين في معظمهم دهسهم قطار الزمن أو قطار السلطة ورجالها، هو نفسه أحد هؤلاء الموهوبين الذين تركوا بلادهم رغمًا عنهم. ويمكن القول إن بلال قد اختار تقديم ذلك البرنامج بعد تجربته في منفاه الاختياري، بعد أن رفض أن يسير وفق هوى السلطة الجديدة في مصر، لأنه أصبح يشارك معظم هؤلاء الموهوبين نفس الوجع الذي عانوا منه بعد أن تحولوا ليصبحوا «المعذبون في الأرض»، ويظهر ذلك الأمر في تأثر بلال الشديد وهو يحكي عن العديد من قصص الموهوبين الذين عاندتهم الظروف في الوقت الذي بزغ فيه نجم أنصاف المواهب الأخرى التي تسير ركب السلطة.


عن النجاح والحظ

في كتابه عن العلاقة بين النجاح والحظ، يُحلل الاقتصادي الأمريكي «روبرت اتش فرانك» تلك الفكرة التي ربطت النجاح في إطار «اقتصاد السوق» بعاملين أساسيين: الموهبة والمجهود المبذول من قبل الأشخاص الناجحين. ورأى فرانك أنها فكرة منقوصة، ويجب أخذ عوامل أخرى في الاعتبار، من بينها الحظ.

فعلى سبيل المثال، يرى فرانك أن ولادة شخص ما في دولة من دول الغرب الصناعي المتقدم هو من قبيل الحظ، حيث إن ولادته في دولة تتمتع بدرجة مرتفعة من الرفاهة الاقتصادية هو عامل قد يضمن له النجاح ويضمن له استخدام موهبته ومجهوده في تحقيق ما يريد. فالموهوبون في أمريكا الذين يخرجون لانتقاد وتوبيخ الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب علانية هم محظوظون لكونهم في أمريكا حيث هناك ديمقراطية، سواء اختلفت معها أو اتفقت، ومؤسسات ترسخت داخلها حرية الرأي والتعبير تضمن لهم أن ترامب أو غيره لن ينهوا مسيرتهم أو يجبروهم على الجلوس في المنزل أو الهرب خارج أمريكا بحثًا عن مكان آخر للعيش فيه.

المشكلة في عالمنا العربي هو أننا لسنا محظوظين وفقًا لطرح فرانك في كتابه، على الأقل لكوننا نعيش في بلاد ليس فقط لا تتمتع بقدر كبير من الرفاهة الاقتصادية، ولكن تحكمها أنظمة شمولية تحول دون الاقتراب من تلك الرفاهة الاقتصادية.

بالتأكيد تساهم الديمقراطيات الغربية في جعلنا غير محظوظين، بدعمها لتلك الأنظمة العربية. ونتيجة لأننا لسنا محظوظين في عالمنا العربي تصبح الموهبة لعنة في بعض الأحيان، وتصير المعايير التي تحكم العمل في بعض الأوساط ليست الموهبة أو المجهود والكفاءة، وهو الأمر الذي يمكننا أن نراه في وسط مثل التقديم التليفزيوني على سبيل المثال. ففي الحالة المصرية تعج شاشات التليفزيون بأنصاف أو معدومي المواهب، في الوقت الذي يضطر فيه شخص مثل بلال فضل لتقديم برنامجه من منفاه الاختياري، ولعل بلال محظوظ بعض الشيء لأنه وجد منصة يخرج من خلالها ليستعرض ما لديه من موهبة.


الكل يبحث عن الأمان الوظيفي والاجتماعي

حينما تغضب السلطة من موهوب ما سواء كان صاحب قلم أو فنانًا ثم تقرر – على سبيل المثال- فصله من عمله داخل المؤسسة الصحفية العامة التي يعمل بها أو تمنع ظهور عمله للنور، فهي لا تحرمه فقط من ممارسة موهبته، ولكنها تُضيِّق عليه في معيشته حتى ينتهي به الحال في معاناة من أجل توفير مصدر دخل ليسدد من خلاله احتياجاته الأساسية من مأكل وملبس ومسكن.

الأمان الاجتماعي والوظيفي هو شيء مهم لكل شخص في هذه الحياة بمن فيهم الموهوبون في حالتنا هنا. فكرة التأمين أو وجود درجة من الأمان ضد المخاطر الحياتية التي نتعرض لها سواء إصابة ناتجة عن عمل أو مرض أو شيخوخة أو بطالة وعدم وجود فرص عمل، هي محور تشكل دولة الرفاهة بدرجة أو بأخرى والتي تشمل سياسات مثل التأمين الاجتماعي وإعانات البطالة ومنظومة التأمين الصحي وغيرها من السياسات الأخرى.

في العديد من حلقات برنامج «الموهوبون في الأرض» ظهر جليًا غدر الزمن بالكثير من الموهوبين ممن انتهى بهم الحال غير قادرين على توفير حاجاتهم الأساسية أو دفع فواتير الإقامة بالمستشفيات. ومن السمات الغالبة وفقًا لحديث بلال فضل في العديد من حلقات البرنامج هو خشية كثير من الفنانين من جور الزمان عليهم وسعي بعضهم، ومن بينهم تحية كاريوكا، لتوفير مظلة أمان اجتماعي للعاملين في صناعة الفن لتقي الفنانين تقلبات الزمان.

يرى الكثير من الفنانين أن مهنتهم هي مهنة متقلبة ولا توفر لهم دخل ثابت، فاليوم تعمل واليوم التالي تجلس في منزلك. لاعبي كرة القدم أيضا يتحدثون عن ذلك الأمر كثيرًا وعن فكرة أن الكرة ليست مهنة سوف تستمر معهم طوال العمر، وبالتالي فهم يحاولون قدر المستطاع تأمين مستقبل أبنائهم أثناء تلك الفترة التي يكونون فيها قادرين على العطاء داخل الملعب. يتشارك الفنانون ولاعبو كرة القدم في أن كليهما يتحصل على دخله من خلال موهبته بالأساس ويمكن القول إن الفئتين تتحصلان على دخل لا بأس به بالأخص نجوم الصف الأول، وبدرجة أقل الثاني، في الحالتين.

إن حديث المنتمين للفئتين عن فكرة الأمان فيما يتعلق بالمستقبل تدل على أهمية الأمان الاجتماعي والوظيفي حتى بالنسبة لأشخاص دخولهم تعتبر مرتفعة للغاية مقارنة ببقية أفراد المجتمع. وبالتالي فإن صانعي السياسات الذين ينتقدون الشباب، والذين من بينهم الكثير من الموهوبين في الأرض بلا شك، الذين يفضلون خيار الهجرة عن طريق البحر ويسخرون من رغبتهم في وظائف بها قدر من الأمان وتوفر لهم حماية جيدة وكريمة، هو أمر غير مفهوم على الإطلاق، خاصة أن هؤلاء الذين يدعون الشباب للقبول بوظائف – إن وجدت من الأساس- لا توفر لهم أي أمان من أي نوع، هم أنفسهم يعملون في وظائف توفر لهم أمانًا وظيفيًا واجتماعيًا ومعاشًا تقاعديًا وتأمينًا صحيًا.


الإبداع والتكنولوجيا والمنع

إن جار الزمان والنظم السياسية على الكثير من الموهوبين في الأرض، فإن التاريخ قادر على إنصافهم حتى بعد وفاتهم، وهو ما أسهمت به التكنولوجيا الحديثة. فعلى سبيل المثال، وكما أوضح بلال فضل في عدد من حلقات برنامجه، أن الكثير من الفنانين الذين لم ينصف الزمن موهبتهم أصبحت مشاهدهم في بعض الأعمال التي شاركوا فيها حاضرة وبقوة على مواقع التواصل الاجتماعي. ومن المثير للسخرية أن هذا التطور التكنولوجي قد أسهم – على جانب آخر- في تفكك دولة الرفاهة وتسريع وتيرة السياسات النيوليبرالية، التي تقلل من تحقيق الأمان الاجتماعي والوظيفي.

كذلك أسهم التطور التكنولوجي في نشر بعض الأفلام ذات المحتوى السياسي والتي منعتها الأنظمة السياسية من العرض في السابق. وكذلك وجد الكتاب والمثقفون ضالتهم في المواقع الإلكترونية المستقلة، لتفريغ ما في صدورهم من موهبة، وكذلك لضمان مصدر رزق.

بالتأكيد لن تستلم النظم السلطوية أمام ذلك التطور، فقد لجأت العديد من الدول العربية إلى حجب العديد من تلك المواقع الإلكترونية المستقلة، ويبدو أن الموهوبين في الأرض سيظلون في حالة حصار دائم من نظم تضرب على أيديهم وتأخذ بيد أنصاف المواهب السالكين دربها والأخذين صفها. كما يبدو أنها سنة الحياة أن يبرع الإنسان في إيجاد الشيء ونقيضه سواء كان ذلك الشيء مفيدًا أم مضرًا. فكما يتم تركيب السم يتم تركيب الترياق، وكما اخُترعت الألغام تم تدريب الأشخاص على تفكيكها، وكما وُجد الإنترنت وُجدت تقنيات حجبه. وكما أن هناك جماعة الممثلين والكُتاب والموهوبين بشكل عام هناك على الجانب الآخر جماعة المراقبين.