في عام 2006 تم إنتاج فيلم «الماس الدامي – Blood Diamond»، دارت أحداث الفيلم بشكل أساسي حول سيراليون في التسعينيات، حيث الحرب الأهلية التي قام فيها المتمردون بمهاجمة القرى فقتلوا النساء وأرسلوا الرجال للعمل كعبيد في مناجم استخراج الماس. تورط الأطفال في هذه المأساة ولم ينج منهم أحد، فإما أن يتم تجنيدهم للقتال والانخراط في العمل قسريًا، أو يخضعوا لمختلف أنواع التعذيب والتي يأتي في مقدمتها قطع الأيادي.

لم يكن هذا الفيلم سوى انعكاس للواقع الأليم والمأساة التي عاشتها أفريقيا خلال حقبة الاستعمار الغربي وما بعدها، فمشهد قطع الأيادي هذا قد عاصره الأطفال والرجال وبشكل أكثر وحشية، كما عانت ويلاته ملايين من النساء طيلة حياتهن وحتى وفاتهن. ورغم انتهاء الاستعمار رسميًا، فإن آثاره ما زالت باقية وما زالت تُطارد تلك الدول حتى اليوم.

ومؤخرًا اعتذرت بلجيكا عن اختطافها آلاف الأطفال المولودين لأزواج من أعراق مختلطة أثناء حكمها الاستعماري في بوروندي والكونغو ورواندا. ولكن هل يكفي هذا الاعتذار لمحو آثار الماضي؟


قطع الأيادي وتشويه الأجساد

حصلت بلجيكا على حصتها الاستعمارية بأفريقيا خلال مؤتمر برلين المنعقد بين عامي 1884 و1885، والذي حضرته أبرز القوى الاستعمارية العالمية آنذاك. تم الإقرار بوضع الكونغو تحت النفوذ البلجيكي بقيادة الملك ليوبولد الثاني، وتم إعلانها مستعمرة بلجيكية عام 1906. وبعد الحرب العالمية الأولى وتحديدًا في 1922 حصلت بلجيكا على رواندا وبروندي، حيث تنازلت عنهما ألمانيا المنهزمة بالحرب لصالحها، لتصبحا تحت يد بروكسل حتى عام 1962.

كان تكوين تلك الإمبراطورية البجيكية خطوة أولى في مسيرة استعباد سكان هذه المستعمرات، والتي انتهت بقتل ما يزيد على 10 ملايين شخص جوعًا وتعذيبًا ومرضًا. فبعد إجراء دراسات حول المنطقة والتيقن من وجود موارد طبيعية هائلة بها وخاصة الكونغو، لم يتردد ليوبولد الثاني، في استغلال تلك الثروات من العاج والمطاط وإرسالها إلى مصانع السيارات الأوروبية.

ومن أجل توفير يد عاملة كافية لاستخراج المطاط، عمد ليوبولد إلى إنشاء فرق مرتزقة تكونت أساسًا من العنصر الكونغولي، تحت إشراف الضباط البلجيكيين. قامت هذه الفرق بممارسة القتل والترهيب لإجبار السكان على استخراج المطاط. فهاجمت القرى، واعتقلت الأهالي، وأرغمت الرجال على العمل في ظروف قاسية.

تشير الروايات في هذا الصدد إلى أن الطريقة المستخدمة في العمل كانت من أكثر الطرق وحشية، حيث يتم إلصاق المطاط بأجساد العبيد حتى يجف، ثم يتم انتزاعه بالقوة مما قد يصاحبه نزع أجزاء من اللحم. وكان من يرفض العمل يتعرض للقتل والتعذيب وتشويه جسده، وأحياناً أخرى اغتصاب زوجاته وبناته وقتلهن بالنهاية. أما من يتكاسل في تسليم الكمية المطلوبة، فيُسلم يده بدلًا عنها. حتى أن صحافي ألماني حصر أكثر من 1300 يد مقطوعة في يوم واحد عام 1896.

بهذه الطريقة تمت إبادة قرى بأكملها بالكونغو، حيث استمتع الجنود البلجيكيون بتجميع الأيادي المقطوعة بدلاً من المطاط، وأحيانا أخرى أجبروا الرجال على اغتصاب أخواتهم وأمهاتهم كنوع من العقاب بدلًا من قطع الأيدي، وأوقاتًا ثالثة قاموا بقطع أيادي الأطفال أمام آبائهم وقتلهم بالنهاية. وكانت هذه إحدى أكثر الوسائل انتشارًا، حيث تشير إحدى الروايات إلى قيام الجنود البلجيكيين بقطع يد وقدم ابنة لم تبلغ الخامسة من عمرها، واغتصاب والدتها، وتشويه جسدهما وقتلهما بالنهاية، كل ذلك لمجرد أن والدها لم يحضر الكمية المطلوبة من المطاط.

جاءت هذه الوقائع الأليمة في تقرير تقصي الحقائق الذي قامت به بريطانيا عام 1904، عقب انتشار الأخبار عن تلك الجرائم المروعة، وفي العديد من الكتب من بينها كتاب بعنوان «Black-White, Metis – Belgium and the segregation of Metis in Belgian Congo and Ruanda-Urundi» والذي وُثقت به عديد من القصص المأساوية عن تلك الجرائم، والتي تسببت بموت نحو 10 ملايين شخص في الكونغو وحدها، حيث انخفض عدد السكان في الفترة (1880-1920) من 20 مليوناً إلى 10 ملايين، نتيجة انتشار التعذيب والأمراض والمجاعات عقب تسخير الرجال للعمل بالمطاط، بدلًا من إنتاج الطعام.


الاعتذار بعد فوات الأوان

باسم الحكومة البلجيكية الاتحادية، أُقدم اعتذاري للخُلاسيين المنحدرين من الاستعمار البلجيكي وعائلاتهم، عن الظلم والمعاناة التي تعرضوا لها… فقد انتهكت بلجيكا حقوق الإنسان لهؤلاء الأطفال عندما اعتبرتهم بمثابة تهديد لنظامها الاستعماري؛ وقامت بتجريدهم من هويتهم وشوهت سمعتهم وفرّقتهم عن أشقائهم.

بهذه الكلمات اعترف رئيس الحكومة البلجيكية «شارل ميشيل» رسميًا بجانب آخر من جرائم الاستعمار إزاء الأطفال. كانت هذه المرة الأولى التي تعترف فيها بلجيكا بجرائمها الاستعمارية، وتسلط من خلالها الضوء على مأساة آلاف الأطفال الذين اختطفتهم من رواندا وبروندي والكونغو.

وضّح هذا الاعتذار جانب من سياسات الفصل العنصري الذي كان أحد أعمدة حكمها الاستعماري. فقد رفضت بلجيكا – كغيرها من القوى الاستعمارية- الزواج بين البيض والسود، إلا أن هذا الرفض لم يحل دون إتمام الزواج بطرق غير شرعية. فعندما كان البلجيكيين يرسلون في مهمة إلى قرية لأيام أو أسابيع، كانوا يسألون في كثير من الأحيان رئيس القرية عن رفيقة، وغالبًا ما تكون هذه الرفيقة الابنة الصغيرة للرئيس، وفي أوقات أخرى، كان يتم اغتصاب النساء بكل بساطة.

نتج عن تلك الزيجات أطفال أطلق عليهم أحيانًا اسم métis الخلاسيون، لكنهم قوضوا –من وجهة نظر بلجيكا- سياسات الفصل الرسمي وأفسدوا مكانة الجنس الأبيض،كما شكلوا تهديدًا للدولة، حيث خافت أن يحاولوا إثارة التمرد عند بلغوهم الرشد وأن يطلبوا امتيازات معينة من الحكومة البلجيكية كأوروبيين، كما كان الحال في كندا في تمرد النهر الأحمر 1869-1870، عندما ثار الميثيون وأطاحوا بالحكومة المحلية.

نتيجة لذلك، لجأت بلجيكا إلى فصل هؤلاء الأطفال عن عائلاتهم وعن السكان السود ككل، قامت بنقلهم بالقوة إليها في الفترة من عام 1959 حتى استقلال كل المستعمرات الثلاث، وأوكلت رعايتهم إلى مؤسسات كاثوليكية، ووضعت كثيرًا منهم بمدارس داخلية منعزلة عن العالمين الأوروبي والأفريقي.

قُدر عدد الأطفال بنحو 20 ألف طفل، رفض معظم الآباء الاعتراف بهم، ولم يحصل الكثير منهم على الجنسية، فعاشو دونها ودون آبائهم أو أمهاتهم، ومن تمكّن منهم من تكوين أسرة، ظل عاجزًا عن إجابة أبنائه بشأن أصوله. فيروي أحدهم:


الأجيال المسروقة

بذلنا قصارى جهدنا لخلق حياتنا في بلجيكا، لكن بعد أن بدأنا في تكوين أسرة خاصة بنا، بدأ أطفالنا في طرح الأسئلة علينا: من هي أمك؟ ومن هو والدك؟ ومن أين هم؟ لم يكن لدينا إجابة لذلك.

لم يكن هذا حال الأطفال في دول الاستعمار البلجيكي فقط، لكنه حال الكثير من الأطفال في دول العالم حتى بالدول الغربية ذاتها كما هو الحال في أستراليا وكندا وغيرهما الكثير. فالنظرة الاستعلائية لهذه الدول ورؤيتها للجنس البشري الأبيض (الأوروبيون)، على أنه يسمو على بقية أجناس الأرض، كانت المسيطرة عليهم أينما كانوا.

دفعتهم هذه الرؤية إلى اتباع مختلف الأساليب للإبقاء على سمو هذا الجنس نقيًا دون اختلاطه بغيره ولا سيما العرق الأسود. وتمثلت أبرز هذه الأساليب في عمليات الاختطاف والاقتلاع القسري للأطفال ومحاولات محو الهوية الأصلية، مما تسبّب بخلق أجيال كاملة من الأطفال المختطفين، حتى أُطلق عليهم في أحيانًا عدة «الأجيال المسروقة».

ففي أستراليا على سبيل المثال تمثلت هذه الأجيال المسروقة في أطفال السكان الأصليين الذين انتزعتهم الوكالات الحكومية والفيدرالية والبعثات التبشيرية في الكنيسة من عائلاتهم تحت قانون برلماني من الفترة بين عامي 1909 و1970، وذلك خوفًا من تمازج جنسهم مع باقي الأجناس الأسترالية خاصة الأبيض.

كما تكرر الأمر في كندا عام 1876، حينما أصدرت السلطات قانونًا يمنحها حق انتزاع أطفال الهنادرة (أبناء السكان الأصليين) من عائلاتهم بالقوة، ووضعهم بمدارس داخلية بهدف تطهيرهم ثقافيًا وماديًا من جذورهم والقضاء على تقاليدهم. وعلى الفور بدأت الحكومة في إجبار الأهالي على تسليم أطفالهم لتلك المدارس التي كانت بإدارة الكنيسة الكاثوليكية.

بلغ عدد هؤلاء الأطفال نحو 150 ألف طفل هندري، عانوا الويلات بتلك المدارس، فمُنعوا من تكلم لغاتهم أو لهجاتهم الأصلية وفُرضت عليهم اللغة الإنجليزية. كما تعرضوا لأنواع عدة من التعذيب من قبيل الضرب بالأسواط الجلدية والصعق بالكهرباء، فضلًا عن الاستغلال الجنسي، وعمليات التعقيم للقضاء على عرقهم المختلف. وأدى ذلك إلى وفاة أكثر من 6 آلاف من هؤلاء الطلاب، حيث تم دفنهم في مقابر مجهولة دون إخبار آبائهم.

ورغم هذه الانتهاكات لم يكن من هذه الحكومات سوى الاعتذار، حيث اعتذرت أستراليا عن السياسات التي اعتمدتها الحكومات السابقة إزاء سكانها الأصليين طيلة 60 عاماً، وأحيت يومًا للاعتذار في 26 من مايو/آيار من كل عام. فيما قدّمت الحكومة الكندية اعتذارًا خجولًا، وقامت بتسمية تلك الجرائم بأنها «لم تكن مناسبة»، وهو الأمر الذي كررته بلجيكا، مؤخرًا، في ظل الضغوط عليها من أبناء الأفارقة المختطفين، لكن ما يبدو واضحًا في ظل المأساة التي سببتها تلك السياسات الممنهجة أن الاعتذار وحده لا يكفي.