منذ بداية الثمانينيات، بدأت الإصلاحات الاقتصادية المدعومة من صندوق النقد والبنك الدوليين في عالمنا العربي، واعتمدت برامج الإصلاح الاقتصادي في تلك البلدان خططًا تقشفية في مجملها.

كان الفقراء والطبقة الوسطى في الخطوط الأمامية لتلك الحروب اليومية أو ما يسمى بـ «الإصلاحات الاقتصادية»؛ لأن تلك الإصلاحات اعتمدت على خطة أساسية تتضمن التوسع في الخصخصة، وتخفيض الدعم الاجتماعي، وتقليل الإنفاق الحكومي، وخفض قيمة العملات المحلية، ما نتج عنه موجات من التضخم والغلاء تأثرت بها الفئات الاجتماعية الأكثر هشاشة وفقرًا. 

عملت تلك الإصلاحات على دمج الاقتصادات العربية في منظومة الاقتصاد العالمي، لكن ليس عن طريق زيادة مساهمتها في الإنتاج العالمي، بحيث تصبح تلك الدول منتجة وتصدر منتجات للسوق العالمية، ولكن عبر زيادة اندماج الاقتصادات المتخلفة في تلك الدول داخل منظومة الاستدانة على الصعيد العالمي. 

تلك الاستدانة كان لابد لها من قطاع بنكي وقطاع مالي متطور، في الدول التي تطبق الإصلاحات الاقتصادية، حتى يمكن للحكومات الاقتراض من القطاع البنكي المحلي فيها أو الاعتماد على القطاع المالي فيها للاقتراض من الخارج عبر السندات وأذون الخزانة.

وبينما يتجه الخطاب الشائع للحديث عن الأثر الاجتماعي لهذه (الإصلاحات الاقتصادية) والمتضررين منها، نتقدم نحن بالسؤال في الاتجاه الآخر: من هم المستفيدون من الإصلاحات الاقتصادية؟

في هذا المقال نركز على القطاع المالي خاصة البنوك، وكيف استفاد هذا القطاع من إجراءات الإصلاح الاقتصادي في 3 دول عربية هي مصر والأردن ولبنان، وهي دول استفاد فيها القطاع المالي بشكل كبير من الإصلاحات الاقتصادية.

 اعتمدت ميكانزمات الإصلاح الاقتصادي في الثلاثة بلدان على الاقتراض بأسعار فائدة مرتفعة من البنوك من أجل تمويل النفقات الجارية في الميزانية العامة، هذا الاقتراض المفرط أدى لتزايد الدين العام في الثلاثة بلدان، في مصر مثلًا تخطت نسبة الديون من الناتج المحلي 93 %، وفي الأردن فإن نسبة الديون تصل إلى ما يقرب من 95 % من الناتج المحلي، بينما في لبنان والتي تعد من أكبر البلاد المدينة في العالم بلغت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي 150%.

مصر: كلفة الخروج من عنق الزجاجة

في مصر، وهي النموذج الأحدث والأكثر وضوحًا للإصلاحات الاقتصادية، بعد قرار تعويم العملة المحلية في نوفمبر 2016 وما تلاها من رفع أسعار الفائدة، توسعت الحكومة في الاقتراض الخارجي والمحلي. كان المبرر الأساسي لرفع أسعار الفائدة البنكية، ليتراوح في المتوسط ما بين 16-20 % بعد سنة واحدة من التعويم، هو امتصاص الصدمة التصخمية التي أنتجها تحرير سعر الصرف والتي وصلت في 2017 لما يقارب 32%. 

بداية من قرار التعويم، بدأ العائد على سندات وأذون الخزانة الحكومية في الارتفاع. ارتفعت نسبة الدين الداخلي إلى الناتج المحلي في الفترة ما بين سبتمبر 2016 وحتى مارس 2017 فقط من 77.5 % من الناتج المحلي إلى أكثر من 91.5%، في نهاية 2018 كان الدين العام يمثل حوالي 97% من الناتج المحلي.

بالطبع استفادت البنوك بشكل كبير من رفع أسعار الفائدة؛ لأن هذا سوف يعني إقراض الحكومة بسعر عالٍ والحفاظ على أرباح تلك البنوك. يظهر هذا في عامي 2017 و 2018، فقد ارتفع صافي ربحية البنوك 18% في سنة واحدة، إذ وصلت في 2018 إلى ما يقرب من 70 مليار جنيه، بعدما كانت حوالي 58 مليارًا في 2017. حققت تلك البنوك معظم أرباحها من شرائها أوراق الدين الحكومية، عديمة الخطر، عالية العائد.

ولذات السبب تعزف البنوك المصرية منذ ثلاثة عقود عن القيام بدورها الأصلي، أي توظيف ودائعها في تمويل المشروعات، مكتفية بإقراض الحكومة. فإذا ما انخفضت الفائدة على الدين الحكومي، سوف تبحث البنوك عن مصادر أخرى لتوظيف ودائعها المتراكمة، وهو ما يمكن أن يفسر عدم تقليل البنك المركزي لأسعار الفائدة على الإيداع والاقتراض بصورة كبيرة، بالرغم من تجاوز الاقتصاد لصدمة التضخم التي تلت التعويم.

تمثل تلك الحالة الاقتصادية إعادة توزيع الثروات لصالح الأقلية العاملة في القطاع البنكي وأصحاب الإيداعات الكبيرة، وعلى الرغم من أن أكبر البنوك التي تستثمر في أدوات الدين الحكومية في مصر هي بنوك مملوكة للحكومة، إلا أن تمويل فوائد الديون غالبًا ما يقع عبئها على الفئات الأفقر في ظل الهيكل الضريبي الحالي في مصر، إذ تمثل الضرائب غير المباشرة مثل القيمة المضافة ما يقارب نصف الحصيلة الضريبية، التي تستخدمها الحكومة في تمويل فوائد الاقتراض المفرط. 

الأردن: تاريخ النيوليبرالية الطويل

 بدأت الأردن في نهايات الثمانينيات في تنفيذ إصلاحات اقتصادية مدعومة من صندوق النقد والبنك الدولي، وبعد خمس سنوات فقط من بداية التحول النيوليبرالي في الأردن في 1989 فقدت العملة المحلية ما يقرب من 50% من قيمتها.

اعتمدت الأردن في تلك الفترة التي تلت التحول النيوليبرالي على الاقتراض الخارجي بشكل أكبر، خاصة المنح والقروض من المؤسسات الدولية، وفي دولة صغيرة المساحة ومحدودة السكان، كانت في الغالب تلك المنح والقروض كافية لتمويل الاحتياجات الضرورية للحكومة.

إلا أنه وبداية من الألفية الثالثة، تحديدًا 2006 بدأ الأردن في الاعتماد بشكل كبير على الاقتراض الداخلي من البنوك والمؤسسات المصرفية العاملة في السوق، ونما الدين المحلي بمعدل أعلى بكثير من نمو الدين الخارجي.

يبلغ الدين الداخلي حوالي 19 مليار دينار (26.6 مليار دولار )، بينما لا يزيد الخارجي على تسعة مليارات دينار،(12.6 مليار دولار )، ما يجعل حجم الدين المحلي تقريبًا ضعف الدين الخارجي.

ويمثل الأردن حالة مثالية لكيفية مزاحمة الحكومة للقطاع الخاص في الاقتراض من البنوك، ففي الأردن تبلغ معدلات الفائدة على السندات وأذون الخزانة الحكومية ما يقارب 8 %، وهو ما يعد سعر فائدة مرتفع.

بهذه الطريقة، تستفيد البنوك الأردنية من عجز الموازنة العامة المتنامي والذي بلغ في 2018 ما يوازي 2.6% من الناتج المحلي، إذ بلغ مجموع السندات والأذونات الحكومية، التي تقوم الحكومة من خلالها بتمويل العجز، 2.77 مليار دينار في 2017.

لبنان: الإدمان على الدين

في لبنان هي الأخرى، وهي واحدة من أعلى دول العالم المدينة، حيث تصل نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي لنحو 150%، استفاد القطاع المصرفي من الإجراءات الاقتصادية المدعومة من صندوق النقد والتي تعمل على تقليل عجز الميزانية. ويُرجّح أن المصارف جنت بين عامي 1993 و2017 نحو 50 مليار دولار تقريبًا من الفوائد على الدين الحكومي.

هذا فقط ما يخص الديون الحكومية والتي اقترضتها مؤسسات الدولة اللبنانية لتمويل رواتب القطاع العام، والتحويلات الهامة مثل التحويل لمؤسسة الكهرباء والتي تعاني أزمة مزمنة في لبنان.

لا يدخل في تلك الأرباح مثلاً العوائد على أذون الخزانة التي يصدرها البنك المركزي اللبناني “مصرف لبنان”، والتي تمثّل مصدر الربح الثاني بعد سندات الخزينة. وتفيد التقديرات بأن المصارف توظّف حاليًا أكثر من 65% من ودائعها في السندات الحكومية الصادرة عن وزارة المال ومصرف لبنان، وبالتالي تحقّق معظم إيراداتها من المال العام وتعيد توزيعها على المساهمين وكبار المودعين.

ليس من الغريب في هذا السياق أن نجد أن القطاع البنكي اللبناني متطورًا بشكل كبير. يبلغ عدد البنوك التجارية العاملة في لبنان 50 بنكًا، إلا أن 10 منها فقط تستحوذ على أكثر من 82% من مجمل الودائع والنشاط الإقراضي في السوق المصرفي، ويقارب إجمالي حجم الودائع 250 مليار دولار، أي ما يوازي 4 أضعاف الناتج المحلي اللبناني.

توظّف هذه المصارف نحو 31.9 مليار دولار في الدين الحكومي، موزّعة بين 18.4 مليار دولار في الدين بالليرة (سندات الخزينة) و13.5 مليار دولار في الدين بالعملات الأجنبية (يوروبوندز).

وبالاستناد إلى متوسطات الفائدة على الدين القائم في نهاية 2017، جنت المصارف في العام الماضي 1.2 مليار دولار من سندات الخزينة و850 مليون دولار من سندات اليوروبوندز، أي أكثر من ملياري دولار. وهو مبلغ يوازي ما دفعه المُقيمون في لبنان ضرائب على مجمل دخلهم (الأرباح والأجور) في نفس تلك الفترة أو ما يعادل 4% من الناتج المحلي الكلي للبنان والذي بلغ 51 مليار دولار.

تعبر الإصلاحات الاقتصادية في الثلاثة نماذج السابقة عن أجندة نيوليبرالية تقشفية، فمن أجل سد عجز الموازنة يتم تخفيض الدعم، واقتطاع النفقات – بما في ذلك تخفيضات في أجور القطاع العام-، وخفض قيمة العملة عن طريق التعويم الحر أو المدار، في مقابل الانفتاح على الاستدانة من الأسواق المحلية والعالمية.

ويدفع الفقراء والطبقات الوسطى من أقوات يومهم تكاليف تلك الديون عبر الضرائب غير المباشرة، والتراجع في مستوى الخدمات العامة، والتضخم الذي لا تحد منه أسعار الفائدة المرتفعة، وتستفيد البنوك في كل الحالات وتحقق معدلات أرباح مرتفعة بدون أن تأخذ أي مخاطرة ممكنة عن طريق استثمارها في عجز تلك الحكومات عن تطبيق إصلاحات حقيقية في الاقتصاد.