في أبريل/نيسان 2006، قدّمت جوجل خدمة ترجمة مجانية وهي «ترجمة جوجل» (Google Translate)، حيث تترجم أشكالًا متنوعة للنصوص والوسائط مثل الكلمات المفردة والعبارات وصفحات الويب الكاملة. صدر محرك «ترجمة جوجل» في الأصل على أنه محرك «ترجمة آلية إحصائية»، أي ترجمة كل كلمة إلى معنى ثابت يغلب استعمالها للدلالة عليه، وفق الإحصاء.كانت عملية الترجمة من لغة ما إلى أخرى لا تتم مباشرةً، وإنما تمر بمحطتين هما: ترجمة النص المطلوب إلى اللغة الإنجليزية أولًا، ثم ترجمته من الإنجليزية إلى اللغة المطلوبة. وبما أن محرك الترجمة كان يعتمد كليًا على خوارزميات تنبؤية لترجمة النصوص، فقد كانت هناك مشكلة في دقة الترجمة والقواعد النحوية للنصوص الناتجة. حدثت تطورات أخرى لمحرك البحث لا تتضمن تحسين النصوص المُنتجَة. بدءًا من فبراير/شباط 2010، دُمج محرك ترجمة جوجل في متصفحاتٍ متنوعة مثل كروم، كما استطاع المحرك نطق النصوص واستخراج الكلمات الموجودة في صورةٍ ما، وكذلك تحديد اللغات غير المحددة وحده. وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2016، حوّلت جوجل محرك الترجمة الخاص بها إلى نظامٍ آخر يعتمد على «الترجمة الآلية العصبية» التي من المفترض أنها تستخدم تقنيات تعلم أعمق لترجمة جمل بأكملها في وقتٍ واحد بدلاً من ترجمة كل كلمة على حدة مما يضمن دقةً والتزامًا أكبر بالسياق الأصلي.


المعنى في الاستعمال

تتطلب «الترجمة الآلية العصبية» قوة حوسبة ضخمة، وتعتمد بالكامل على الترميز، حيث يتم تحويل كل كلمة من الجملة المطلوب ترجمتها إلى سلسلة من القيم العددية، والترميز العددي لكل كلمة جديدة متصل بالكلمات السابقة في الجملة الواحدة.يصف الباحث مارسيلو فيدريكو الفرق بين النظام السابق للترجمة الحرفية ونظام «الترجمة الآلية العصبية» كالتالي: في السابق، كان الأمر أشبه بوصف مكونات زجاجة كوكاكولا من حيث السكر والماء والكافيين وبقية المكونات. وأما النظام الحديث، فإنه يصف السمات المميزة مثل السيولة، المرارة، الحلاوة وغير ذلك مما يتعلق بالهيئة والطعم.إلا أن الترجمة الآلية العصبية لم تعتمد فقط على المبرمجين وإنما على الفلاسفة كذلك، وهو ما لاحظه باتريك هيبرون، الباحث في مجال التعلم الآلي والفلسفة، حيث ذكر أن النظام الذي تعتمد عليه «ترجمة جوجل» هو تطبيق حرفي لأعمال فتجنشتاين. قد سبق لموظفي جوجل أن اعترفوا بأن نظريات فتجنشتاين قد منحتهم بالفعل طفرةً في تطوير خدمة الترجمة الخاصة بهم وجعلها أكثر دقة وفعالية، إلا أن العلاقة بين فلسفة اللغة والذكاء الصناعي لم تشهد احتفاءً حقيقيًا إلا مؤخرًا. ما ذُكر أعلاه عن أن الترجمة الآلية العصبية تتطلب قوة حوسبة ضخمة، يعني أن المبرمجين يُعلّمون الآلات حيث يتم تدريب الآلات على كيفية فهم ارتباط الكلمات ببعضها البعض. يشرح هيبورن أن معظم الكلمات لها معانٍ متنوعة (الكلمة الإنجليزية «trunk» مثلًا يمكنها أن تشير إلى جزء من الفيل، من الشجرة، أو من السيارة، أو من جسد الإنسان). ولذا يتعين على «ترجمة جوجل» أن تفهم السياق أولاً لتتمكن من الترجمة. تتعامل الشبكة العصبية مع ملايين النصوص، مع التركيز على الكلمتين السابقتين والتاليتين لكل كلمة حتى يتمكن المحرك من التنبؤ بمعنى كل كلمةٍ بناءً على ما حولها من كلمات، ثم يحسب الذكاء الصناعي الروابط المحتملة بين كل كلمة وأخرى، وهي عملية تتضمن إحداثيات رقمية هائلة يصعب تخيلها.قدّم لودفيج فتجنشتاين (1889-1951)، وهو أحد أهم فلاسفة القرن العشرين، مساهمات كبيرة في المنطق والميتافيزيقا؛ إلا أن إسهاماته في فلسفة اللغة، خاصة من خلال كتابه «تحقيقات فلسفية» (1953)، كانت أبرز ما اشتهر به. رأى فتجنشتاين أن اللغة ليست مجرد جماد ما يفترض على العالِم إدراكه بشكلٍ واحد، وإنما هي أشبه بالسائل المتدفق الذي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بممارساتنا اليومية وشكل حياتنا. إن معنى الكلمة يكمن في استخدامنا لها، في الطريقة التي نقولها بها، والسياق الذي توجد فيه. فلا يمكن استخلاص معنى ما نقوله خارج سياق الكلام.«إننا لا نستطيع أن نحدد المفاهيم التي نستخدمها، ليس لأننا لا نعرف معناهم الحقيقي ولكن لأنه لا يوجد تعريف حقيقي لهم» كما يقول فتجنشتين، إلا أن ما نستطيع تحديده هو الممارسات الاجتماعية لنا والتي تتضمن هذه المفاهيم. وبرغم أن الفكرة التي تفيد بأن الكلمة الواحدة لها معانٍ متعددة وفقًا للسياق ليست جديدة، إلا أن فتجنشتاين كان رائدًا لمفهوم «المعنى في الاستعمال»؛ أي أن معاني الكلمات لا يمكن عزلها بعيدًا عن الممارسات الحياتية التي تُستخدم فيها الكلمات. وعلى نفس النمط، تقوم «ترجمة جوجل» بتطبيق نظريات فتجنشتاين حول المعنى محاولين تحقيق دقة أكبر، حيث إن الذكاء الصناعي لمحرك الترجمة يخلق علاقة بين الكلمات والسياق، بمعنى أنهم يوجدون مكانًا في الفضاء الرقمي للكلمة بناءً على الكلمات المحيطة لها، والكلمات الشائع ارتباطها سويًا، والسياق الذي ذكرت فيه.


إذن، لِمَ تفشل ترجمة جوجل أحيانًا؟

برغم أن ترجمة جوجل قد تطورت كثيرًا بعد اعتمادها على الترجمة الآلية العصبية والاستفادة من فلسفة اللغة؛ إلا أنها ما زالت تخيب آمالنا. هذا لأن فكرة أن معنى الكلمات يمكن تحديده فقط من خلال النظر إلى سلسلة مكونة من خمس كلمات وهي: الكلمة نفسها، الكلمتين السابقتين والكلمتين التاليتين، هي مثال للمغالطة المنطقية « التعميم»، وهي افتراض أن إثبات صحة جزء واحد من شيء ما، يدل على صحة أجزائه الأخرى؛ أي أنه لا ينبغي أن ينتج عن الترجمة الدقيقة لخمس كلمات ترجمة دقيقة للجملة كاملة. كما أن اللغة، أيًا كان استخدامها ومهما اختلف معناها، تتطلب العامل البشري لأنها، وكما علّق فتجنشتاين، تتأثر بالكامل بطريقتنا في قولها، وألعابنا اللغوية وأشكال حياتنا. ما يجعلنا نعتبر ترجمة جوجل سخيفة ومخيبة لآمالنا هي أن من الصعب على الإنسان الذي يتمتع بخبرة طويلة في الحياة، ويفهم لغته ويعرف جيدًا كيفية استخدام الكلمات بطريقة منطقية، أن يدرك فجأة مدى خلوّ نتائج ترجمة جوجل من أي فهم أو منطق.إن حكمنا القاسي على «ترجمة جوجل» كما لو كانت بشرية، وليست مجرد خوارزميات تجاهد لأن تصبح دقيقة ومنطقية، نابع من أننا نفترض أن أي محرك ترجمة قادر على التعامل بطلاقة وسرعة مع «الكلمات» لا بد أن يكون مدركًا لما يفعله ويعنيه. وهو ما يطلق عليه «تأثير إليزا» في علوم الكمبيوتر، وهو الميل اللا واعي إلى افتراض أن سلوكيات الخوارزميات تشبه السلوكيات البشرية.