زينت شوارع السودان اليوم بالهدوء غير المعتاد، وخلت من مظاهر الحياة حيث كانت تنضب في بيوت مواطنيها المحتمين بمنازلهم من عاصفة الغلاء اليوم 27 نوفمبر/ تشرين الثاني، وسط حالة من التجاهل العربي الرسمي وغير الرسمي، لتفاجأ السودان الجميع بنجاح نسبي لعصيانها المدني في يومه الأول.


من أين بدأ العصيان؟

أعلن نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي، الجمعة 24 نوفمبر/ تشرين الثاني، بالسودان عن عزمهم على العصيان المدني لإسقاط الحكومة عبر هاشتاج «السودان عصيان مدني 27 نوفمبر»، بداية من اليوم 27 نوفمبر/ تشرين الثاني –أطلق عليه البعض يوم العيد-؛ رفضًا لإرهاب الدول ضد مواطنيها ولغلاء الأسعار، طامحين في حياة إنسانية كريمة تضمن لهم أدنى قدر من الحفاظ على حقوقهم.

نصت الدعوة للعصيان على عدد من المطالب أولها: إعادة الدعم الكامل للأدوية وعودة العلاج المجاني مرة أخرى، هذا إلى جانب الرجوع عن قرار رفع الدعم عن السلع الاستهلاكية ودعم التعليم، مع التأكيد على المطالبة بإقالة الحكومة وإجراء انتخابات مبكرة لتشكيل حكومة جديدة.

اشتعلت موجة الغضب التي يعيشها المجتمع السوداني خلال الشهر الجاري بعد رفع أسعار الأدوية إلى 300% بسبب ما أقرته الحكومة من تحرير أسعار الدواء، نتيجة لتعويم الجنيه السوداني ورفع الدعم عن الوقود والسلع الأساسية، لسوء الأوضاع الاقتصادية بعدما وصل معدل التضخم إلى 1.3% في شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.

و خرجت المظاهرات المختلفة – غلب عليها الطابع النسائي – في يوم 24 فبراير/ تشرين الثاني منددة برفع أسعار الدواء ومطالبة بالتراجع عن قرار الحكومة؛ لاعتباره قرارًا غير عادل ويتسبب في موت الكثيرين بحثًا عن ثمن الدواء الباهظ، كما أغلقت بعض الصيديلات أبوابها طوال اليوم معلنة احتجاجها عن القرار، وأطلق نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي حينها هاشتاج «أعيدوا الدعم للأدوية» وتصدر قائمة الأكثر تداولًا بالسودان معلنين رفضهم لتلك السياسات.


التخبط سيد الموقف الرسمي

أقر وزير الصحة في يوم 25 نوفمبر/ تشرين الثاني بوجود خطأ في تسعيرة الدواء الجديدة بالصيدليات، وأعلن عن إعادة تصحيحها خلال الثلاثة أيام المقبلة، كما تم إقالة الأمين العام للمجلس القومي للأدوية والسموم بسبب تلك الأخطاء التي نجم عنها غضب شعبي واسع.

و تم التراجع عن رفع الدعم عن أدوية الأمراض المزمنة، ووعد الوزير بزيادة في دعم العلاج المجاني للمرضى والعمل على تساوي أسعار الأدوية بكافة أنحاء السودان، كما تنبأ بفشل دعوى العصيان المدني معللًا ذلك بتفهم الشعب السوداني لما تمر به البلاد من أوضاع اقتصادية قاسية، واضطرار الحكومة لأخذ مثل هذه القرارات.

مما يوضح مدى تخوف الحكومة من انتشار دعوة العصيان المدني بهذه السرعة وسعيها لوأدها قبل ولادتها، كما أن الشرطة السودانية قامت بفض التظاهرات – كعاداتها – التي خرجت يوم 24 نوفمبر/ تشرين الثاني رفضًا لرفع الدعم عن الدواء، فيما زاد من شرارة الغضب وانتظار يوم العصيان أملًا في التخلص الحكومة أو الغلاء.

كما توجه الرئيس السوداني عمر البشير إلى الإمارات أمس السبت 25 نوفمبر/ تشرين الثاني، في زيارة لبحث إمكانيات التعاون بين البلدين لعدة أيام مصطحبًا معه وزراء الرئاسة والخارجية والكهرباء، وهو ما دعى إلى استغراب الكثيرين واعتبروه شكلًا من أشكال الهروب، حيث تواجه البلاد دعوات للعصيان وتشهد حالة من الغضب، ولكن البشير في حالة من عدم الاكتراث.


السودان تنجح في يومها الأول

الخرطوم شارع كترينا .. الان #السودان_عصيان_مدني_٢٧_نوفمبر #العصيان_المدني_السوداني_في_يومه_الأول

Gepostet von Samo Hussein am Samstag, 26. November 2016

تعيش السودان حالة من التوتر الداخلي لزيادة الأسعار وحالة الغلاء التي يعاني منها المجتمع منذ وقت طويل، فحالة الغضب التي انتابت الشعب على مدار 3 أيام مضت لم تكن وليدة اللحظة، إلا أن تهديد أهاليهم بالموت بسبب نقص الدواء كان كفيلًا بأن يحركهم ضد من يحكمهم بالعصا.

وتمت الدعوة بشكل عفوي – غير نابع من أي تيار سياسي – للعصيان والاحتماء بالمنازل اليوم 27 نوفمبر/ تشرين الثاني، هو ما شكك البعض فيه واعتبر الدعوة موجهة من النظام لتحقيق حالة من الاستقرار بدلًا من التظاهرات والغضب المنتشر بالشوارع. إلا أن الدعوة انتشرت سريعًا بين الأوساط السياسية والفنية بالمجتمع السوداني، لتعلن الأحزاب والحركات المعارضة وعدد من الفنانيين والصحفيين استجابتهم لرغبة الشعب في العصيان، غير آبهين ببطش الدولة والنظام السياسي الحاكم.

أعلن كل من؛ «المكتب السياسي الانتقالي للحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل» و«حزب المؤتمر السوداني» و«حزب الأمة» و«الجبهة الثورية السودانية» و«حركة العدل والمساواة» و«لجنة المعلمين» مشاركتهم الشعب في عصيانه المدني، آملين في إعادة بناء نظام ديمقراطي بالسودان.

كما دعى تحالف «قوى الإجماع المعارض» السوداني الشعب بالالتزام بالعصيان المدني، داعين لإسقاط النظام القائم مصرحًا: «سيسعى التحالف سعيا حثيثا وسط جموع الشعب السوداني التي انتظمت في مواجهة نظام الافقار والجوع، والقوي السياسية الداعية إلى إسقاط النظام واجتثاثه من جذوره والعمل على إنجاز الثورة الشعبية التي تحقق الخلاص للوطن»، حسبما أوضح في بيانه الصادر قبل اليوم.

وحثت حركة تحرير السودان والحركة الشعبية على العصيان المدني، كما شاركت كل من جامعة الأحفاد وجامعة النيلين وجامعة الخرطوم بالعصيان، هذا إلى جانب مشاركة الاتحاد النسائي وشركة الاتصالات MTN السودانية.

والجدير بالذكر أن الأطباء قاموا بإضراب ناجح الشهر الماضي بالسودان، مما أجبر الحكومة على التراجع عن قراراتها ضد المرضى والمستشفيات والتفاوض مع الأطباء، مما يحرك الشعب اليوم بقدر من الثقة في قدرتهم على تغيير الواقع وإجبار الحكومة على الاستجابة لمطالبهم.

هذا إلى جانب رغبة الشعب السوداني في استعادة أمجاد أجدادهم، حيث كانت السودان أول دولة عربية تتخلص من الحكم العسكري بقيادة الجنرال إبراهيم عبود عام 1964 من خلال العصيان المدني، كما أطاحت السودان بالمشير جعفر نميري عام 1985 بانتفاضة جماهيرية واسعة.

واليوم تحقق السودان مفاجأة جديدة وتعلن عن قدرتها على التعبير السلمي عن غضبها بالرغم من كل المعوقات التي تواجهها، في حين تتعرض دول عربية أخرى لنفس الظروف الاقتصادية الصعبة والقرارات الحكومية الطائشة ولا يتحرك فيها ساكن، فيأمل الكثيرون أن تكسر السودان القاعدة بخطواتها البطيئة وتنجح في التخلص من ديكتاتورية حكامها بالشوارع الخالية، لعل شوارعنا تغار منها ويمر العيد عليها قريبًا.