إننا اعتدنا النظر إلى السماء ونتساءل عن مكاننا بين النجوم، والآن ننظر للأسفل فحسب ونقلق بشأن مكاننا بين التراب.
من فيلم Interstellar

تراهم من بعيد قبابًا تستقر على أعلى القمم والهضاب الأكثر جفافًا في العالم، ساحرة ذكية استطاعت أن ترشد البشر ليتتبعوا من خلالها أضواء وأطيافًا كونية صادرة من الأجرام السماوية منذ ملايين ومليارات السنين.

نتحدث عن المراصد والتسكوبات الأرضية التي لا يتم ذكرها كثيرًا في أحاديث الفضاء؛ لكنها كانت المفتاح الأول لاستكشافه بدءًا من تلسكوب غاليليو؛ وصولًا لتلسكوب هابل الفضائي. إذًا؛ لنأخذك في رحلة استكشاف لأهم المراصد والتلسكوبات الأرضية.


المرصد الأوروبي الجنوبي ESO

هو منظمة فلكية تأسست عام 1962، يقع مقرها العلمي والتقني والإداري بالقرب من مدينة ميونيخ بألمانيا. يدير هذه المنظمة 14 دولة أوروبية وتعمل في عدة مواقع رصد في صحراء تشيلي القاحلة. المرصد الأول البصري يقع في «لاسيلا – La silla» على ارتفاع 2400 متر، ويبعد نحو 600 كم شمال سانتياغو. المرصد الثاني هو المرصد الراديوي المعروف باسم Atacama Large Millimeter/submillimeter Array، أو اختصارا ALMA؛ والذي يقع على «هضبة شاجنانتور – Chajnantor plateau» على ارتفاع 5 كم شرق بيدرو دي أتاكاما على بعد 50 كم. المرصد الثالث وهو الأكبر المعروف باسم «مرصد بارانال – Paranal Observatory» أو VLT.


مرصد بارانال VLT

هو أحد المراصد التابعة للمرصد الأوروبي الجنوبي في تشيلي، وعلى قمة «أنتوفاجاستا – Antofagasta» على ارتفاع 2635 مترًا. بدأ بناؤه عام 1991، ورصد أول الإشارات القادمة من الفضاء في العام 1998. يعرف أيضًا بأنه أكبر التلسكوبات (المراصد) الأرضية Very Large Telescope نظرًا لاحتوائه على مجموعة تلسكوبات داخلية.

أربعة من هذه التلسكوبات رئيسية وكبيرة؛ مزودة بمرايا قطر الواحدة منها يصل إلى 8.2 متر، وتسمى بالترتيب هكذا:-

«أنتو – Antu، كوين – Kueyen، ميليبال – Melipal، ويبون – Yepun»؛ وهي أسماء للشمس، القمر، مجموعة النجوم المعروفة بالصليب الجنوبي، وكوكب الزهرة بلغة شعب «مابوتشي – Mapuche». وأربعة تلسكوبات أخرى مساعدة ومتحركة مزودة بمرايا يصل قطر الواحدة منها إلى 1.2 متر.

ترصد هذه التلسكوبات الضوء والأشعة تحت الحمراء القادمة من الفضاء، ويمكن أن تعمل جميعها بشكلٍ جماعي لتشكيل ما يعرف باسم «مقياس تداخل – interferometer»؛ وهو تقنية تستخدم في الفيزياء وعلوم الفلك؛ لقياس خواص الموجات عن طريق تحديد ودراسة التداخل الذي يحدث عندما تنطبق موجتان أو أكثر على بعضهما.

يعطي مقياس التداخل الذي يشكله المرصد فرصة للفلكيين لدراسة ورؤية تفاصيل دقيقة تفوق دقة التلسكوبات والمراصد العادية بنحو 25 مرة.

أما عن اكتشافات المرصد؛ فأول طيف مباشر رصده هو الطيف المباشر الصادر عن كوكب «HR 8799 c» خارج المجموعة الشمسية، كما استطاع قياس أول كتلة لكوكب «HD 209458 b» خارج المجموعة الشمسية أيضًا، والذي يطلق عليه اسم «أوزيريس» بشكلٍ غير رسمي. اكتشف المرصد أيضًا النجم «R1 36a1» الأكثر ضخامة والذي يقدر كتلته بنحو 265 مرة من الشمس.


مرصد كيك

هو مرصد فلكي شيّد عام 1960، يقع على أفضل موقع فلكي في نصف الكرة الشمالي، وربما العالم بالقرب من قمة مونا كي، البالغ ارتفاعها نحو 4200 متر، في جزيرة هاواي شمال وسط هاواي، حيث يمكن للتلسكوبات الاستفادة من الظروف الجوية المستقرة من درجات الحرارة الباردة، والرطوبة المنخفض كذلك.

يتكون المرصد من تلسكوبين توأمين (W.M) يشكلان أكبر نظام تلسكوب بصري. بني التلسكوب الأول «كيك 1 – Keck 1» عام 1992، والتلسكوب الآخر «كيك 2 – Keck 2» عام 1996.

يبلغ قطر المرآة الأولية للتلسكوبين نحو 10.4 متر، مكونة من 36 قطعة مرآة فردية سداسية الشكل بقطر 1.8 متر؛ تتحرك كل قطعة بثلاثة محركات يتم التحكم بها بأجهزة الكمبيوتر لظبط البعد البؤري للمرآة الأولية.

أما عن أهم اكتشافات المرصد؛ فقد رصد الأشعة تحت الحمراء للنجوم التي تدور حول مركز مجرتنا درب التبانة، والتي كشفت عن وجود ثقب أسود بالقرب من مركز المجرة تعادل كتلته كتلة نحو 3600000 شمس. كما تم اكتشاف قمر «ديسنوميا – Dysnomia» لأكبر الكواكب القزمة «ايريس – Eris».


تلسكوب غرين كانارياس

يعتبر أحد أكبر التلسكوبات البصرية في العالم بمرآته البالغة نحو 10.4 متر، وتضم 36 قطعة مرآة فردية سداسية الشكل يمكن تحريكها بشكل منفصل عن بعضها البعض. صمم التلسكوب بحيث يكون قادرًا على مراقبة نطاقات الضوء الضوئية، والأشعة تحت الحمراء في الأجرام السماوية.

يقع التلسكوب غرين في «مرصد روكي دي لوس موتشا تشوس – Roque de los Muchachos Observatory» في لا بالما على ارتفاع نحو 2326 مترًا في جزر الكناري في إسبانيا.

بدأ العمل عام 2000، ورصد أول الإشارات عام 2007. تديره أربع مؤسسات من مختلف أنحاء العالم هي؛ معهد الفيزياء الفلكية في جزر الكناري، والجامعة الوطنية المستقلة في المكسيك، والمعهد الوطني للفيزياء الفلكية والبصريات والإلكترونيات في المكسيك، وجامعة فلوريدا.


تلسكوب جنوب أفريقيا الكبير SALT

صورة لتلسكوب جنوب أفريقيا SALT

في منطقة ساذرلاند بالقرب من مقاطعة كيب الشمالية التي تبعد عن كيب تاون نحو 400 كم في جنوب أفريقيا، وفي مرصد جنوب أفريقيا الفلكي؛ يقع التلسكوب البصري SALT على ارتفاع نحو 1798 مترًا.

يحتوي التلسكوب على مرآة رئيسية بقطر 11 مترًا تضم 91 قطعة مرآة فردية سداسية الشكل بقطر متر واحد. صمم التلسكوب من أجل قياس وتحديد الأطياف الناتجة عند تبعث المادة الإشعاع الكهرومغناطيسي، أو تتفاعل معه.

بنِي التلسكوب بتمويل جماعي من سبع دول هي؛ جنوب أفريقيا، الولايات المتحدة، ألمانيا، بولندا، الهند، المملكة المتحدة، ونيوزيلندا، وبدأ العمل منذ عام 2011.


تلسكوب ماجلان العملاق

سُمي التلسكوب تيمنًا بالمستكشف «فرديناند ماجلان – Ferdinand Magellan» الذي أبحر حول العالم، واستكمل رحلته الاستكشافية الأولى عام 1522، مستعينًا بعلم الفلك كبوصلة إرشاد في الرحلة.

يقع التلسكوب في مرصد «لاس كامباناس – Las Campanas» على ارتفاع يبلغ نحو 2550 مترًا حيث أضيف لمجموعة تلسكوبات المرصد في جنوب صحراء أتاكاما في تشيلي.

تتميز هذه المنطقة بجوٍ جاف يسمح بالعمل في ظروف طبيعية ملائمة بعيدًا عن سقوط الأمطار والرياح القوية، وانعدام الغطاء النباتي من الأشجار العالية والكثيفة؛ مما يعطي صورة أكثر وضوحًا ليلًا.

يتمتع التلسكوب بتصميمه الفريد الذي يتكون من سبع مرايا مرنة؛ تتحرك كل مرآة منفصلة بمحركات يتم التحكم بها بأجهزة الكمبيوتر المتطورة من أجل ضبطها لمواجهة الاضطرابات الجوية. تشكل المرايا السبعة سطحا بصريا بمساحة 368 مترا مربعا، بقطر يبلغ 24.5 متر.

طريقة العمل والتحكم هذه تحول النجوم المتلألئة إلى نقاط واضحة ومطردة من الضوء. تلتقط المرايا الضوء وتعكسه على المرآة المركزية، ومن ثم إلى كاميرات التصوير عالية الدقة لتقديم صور أكثر وضوحًا بـ10 مرات من صور تلسكوب هابل الفضائي لتحليل الضوء. ومن المرتقب بدء العمل بالتلسكوب عام 2022.


مرصد الثلاثين مترًا TMT

يعد هذا التلسكوب أحد المشاريع الفلكية الأكثر طموحًا في مجال الرصد البصري، ورصد الأشعة تحت الحمراء الفلكية. يقع على ارتفاع نحو 4267 مترًا على جبل مونا كيا في جزر هاواي. شارك في بنائه وتصميمه عدد من العلماء؛ ليصبح أحد التلسكوبات البصرية الأكثر تقدمًا وقوة على الأرض.

اكتسب اسمه وفقًا لقطر المرآة الرئيسية الذي يبلغ ثلاثين مترًا، وتتكون من 492 قطعة مرآة فردية يتم التحكم بها بشكل جيد، وتم تزويد التلسكوب بخواص «القدرة البصرية التكيفية – Adaptive optics»؛ وهي تقنية تعمل على تحسين تصوير الرصد الفلكي حيث تسهم في خفض الاضطرابات المصاحبة للموجات الضوئية القادمة من الأجرام السماوية.

تبلغ مساحة التجميع الضوئي للتلسكوب نحو 144 مرة من مساحة تجميع تلسكوب هابل الفضائي.قدرته على تجميع والتقاط الأشعة الضوئية على هذا المدى؛ يتيح للفلكيين فرصة لدراسة ومعالجة المسائل العلمية في جميع مجالات الفيزياء الفلكية مثل علم الكونيات، ودراسة النجوم في مجرتنا والمجرات المجاورة لها، ودراسة تشكل المجرات الأولى والثقوب السوداء في الكون المبكر، وكشف وتوصيف الكواكب حول النجوم القريبة، واستكشاف خارج نظامنا الشمسي.

سينضم التلسكوب إلى مجموعة التلسكوبات في مرصد كيك؛ وسيعمل معها على التقاط طول موجي يتراوح مداه بين 0.3-28 ميكرون، وهو المدى الموجي الذي يراقب أوسع مجموعة من خطوط الطيف الهيدروجينية، والمدى الطيفي لمعرفة خصائص الغلاف الجوي للشمس بدءًا من الغلاف الضوئي، وصولًا إلى «الإكليل – Corona» أو هالة الشمس، وهي منطقة خارجية خفيفة تحيط بالشمس.


التلسكوب الأوروبي الفائق ELT

هو أحد التلسكوبات التي يتم بناؤها من قبل المرصد الأوروبي الجنوبي ESO، وبدعم دولي من مجلس المرافق العلمية والتكنولوجية في المملكة المتحدة STFC، ويلعب علماء جامعة أكسفورد دورًا رئيسيًا في تصميمه وبنائه. يبعد عن مرصد بارانال نحو 23 كم.

يقع التلسكوب على قمة جبل سيرو أرمازونيس بارتفاع نحو 3060 مترًا في صحراء أتاكاما في تشيلي. يتم بناؤه ليصبح أكبر التلسكوبات البصرية في العالم؛ حيث يحتوي على 5 مرايا يبلغ قطر المرآة الرئيسية فيه نحو 39 متر؛ مكونة من 798 قطعة مرآة فردية سداسية الشكل. أما عن التلسكوب كاملاً؛ فيبلغ قطره 85 مترًا، وتزن قبته الدورانية 5000 طن!

صمم التلسكوب بحيث تصبح لديه القدرة على تصحيح الاضطراب المصاحب للموجات الضوئية الصادرة من الأجرام السماوية عند وصولها الغلاف الجوي الأرضي.

إحدى الأدوات المهمة في التلسكوب هو «هارموني – HARMONI»؛ وهي مقياس طيف عالي الدقة مصمم لالتقاط مدى طول موجي يتراوح بين 0.47 و2.45 ميكرون، وأيضًا التقاط نحو 4000 صورة مختلفة الألوان قليلًا في وقتٍ واحد.

سيعمل هذا التلسكوب الهائل على دعم الباحثين في تكوين صورة أكثر دقة عن تطور الكون، ودراسة كل شيء عن الكواكب في النظام الشمسي، والنجوم في مجرتنا، واستكشاف مجرات أخرى لم يتم استكشافها بعد.


تلسكوب الصين الراديوي FAST

هو نوع من التلسكوبات الراديوية شيّد في مقاطعة قويتشو في الصين على مساحة 500 متر، واضطرت الحكومة الصينية حينها لإجلاء نحو 1800 من سكان القرية في المقاطعة، وتعويضهم بـ 1800 دولار أمريكي للعائلة عن الخسائر التي لحقت بهم من أجل إقامة التلسكوب. بلغت تكلفة إقامته نحو 180 مليون دولار، واستكملت الصين بناءه عام 2016.

هدف التلسكوب هو إيجاد موجات جذبوية، واكتشاف النجوم النابضة، وأي علامات قد تشير إلى وجود حياة أخرى في الكون. صمم شكله النهائي في هيئة نصف كرة تستقبل الموجات الراديوية من النجوم على بعد نحو 1351 سنة ضوئية.

ختامًا؛ لا يخفى على أحد أن أبرز وأهم المراصد الأرضية التي صنعها البشر؛ هو مرصد موجات الجاذبية المعروف باسم LEGO في الولايات المتحدة الأمريكية الذي أذهل التاريخ العلمي برصده لموجات الجاذبية التي تنبأت بوجودها النظرية النسبية العامة لآلبرت آينشتين عام 2016؛ والتي نتجت عن اندماج ثقبين أسودين، وحصول علماء المرصد على جائزة نوبل في الفيزياء هذا العام عن ذلك الإنجاز، كما رصد المرصد نفس الموجات في 16 أكتوبر هذا العام ناتجة عن اندماج نجمين نيترونين لأول مرة.

فهل تعتقد أننا على موعد مع اكتشافات كونية أخرى قد تكشفها تلك المراصد؛ خصوصًا المنتظر إنشاؤها قريبًا؟