مشاعر متخبطة انتابتني بعد أن انتهيت من مشاهدة فيلم «Loving Vincent» الذي أثار ضجة كبيرة في الوسطين السينمائي والتشكيلي، الفيلم الذي تم التركيز في تقديمه للجمهور بشكل أساسي بكونه العمل السينمائي الأول في التاريخ الذي تم رسم جميع كادراته التي تجاوزت الـ 66 ألف كادر بالألوان الزيتية بأسلوب مقارب لمدرسة الفنان الهولندي الاستثنائي «فينسنت فان جوخ» بأسلوبه الانطباعي الشهير.

مشاعر متخبطة بين الإعجاب العظيم بالعمل التشكيلي، وبين خيبة أمل قوية من العمل السينمائي.

الفيلم الذي تدور أحداثه بعد وفاة الفنان الكبير، يتتبع قصة الشاب الهولندي «آرماند رولين» الذي يكلفه والده رجل البريد «رولين» بتوصيل رسالة أخيرة كتبها «فينسنت» لأخيه «ثيو»، وأثناء رحلته للبحث عن ثيو وللقيام بالمهمة يستكشف آرماند جوانب إنسانية خفية حول فينسنت عبر عشرات الأشخاص الذين يلتقي بهم وتقاطعت مسارات حياتهم في لحظة أو أخرى مع حياة فينسنت، سواء أثناء رحلته المضنية مع اضطرابه النفسي، ودخوله مصحة نفسية، وأولئك الذين عمل معهم وخاض عبرهم رحلة تطوير أسلوبه وأدواته، والنساء اللاتي وقع في حبهن ووقعن في حبه، والمقاهي التي جلس عليها، والبارات التي قضى أمسياته في ظلالها، وانتهاءً بالمكان الذي استضافه ولفظ أنفاسه الأخيرة فيه.

حتى لحظة مشاهدتي الفيلم، كانت معلوماتي عن فان جوخ تتطابق مع ما ذكره موقع ويكيبيديا، الرجل الذي عاش بين عامي 1853 – 1890، وأنتج 800 لوحة لم يبع منها سوى واحدة فقط أثناء حياته، وعن أذنه التي قطعها وقدمها لفتاه تعمل في ماخور كان قد وقع في حبها، وعن إنهائه لحياته في حقل بعد أن أطلق على نفسه الرصاص.

إلا أن Loving Vincent فتح عيني على نظرية جديدة بخصوص مقتله، وأنه لم يمت منتحرًا، وأن أمرًا آخر من المحتمل أن يكون قد حدث، يكشف الفيلم غموضه وخصوصًا مع تأكيد أن الرجل كان قد قطع شوطًا مع العلاج النفسي في أواخر حياته ودعم أخيه المخلص ثيو له ماديًا وعاطفيًا – وهو ما ظهر في الرسائل التي تبادلها الأخوان والتي يلقي الفيلم الضوء عليها – وأن اضطرابه النفسي كان قد تحسن بشكل ملحوظ يتنافى مع فرضية انتحاره الشهيرة.

مشكلتي مع الفيلم هي تركيز صانعيه بشكل أساسي على إعادة رسم الظروف التي أنتج فيها فينسنت 49 لوحة أغلبها بورتريهات لتلك الشخوص التي قابلها في مرحلة ما من حياته، بحيث يتمكن المتلقي من إعادة خلق للأحداث والتماهي في مشاهدة حية لكل شخص في نفس اللحظة التي تركت انطباعًا لدى فينسنت ودفعته للرسم.

مهمة جمع الخيوط التسعة والأربعين في خيط درامي واحد كانت شديدة الصعوبة، وتركت ندوبًا واضحة في القصة، بحيث نجح الفيلم تشكيليًا على مستوى «الرسم»، بينما ظهر ضعيفًا للغاية على مستوى «البناء الدرامي» وتفاعل الشخصيات وتصاعد الأحداث المؤدي لكشف غموض وفاة فان جوخ.

وعلى سبيل المثال فالقاتل المفترض لفينسنت قام الأخير بتصويره بالفعل في إحدى لوحاته، لكن لم يتح الفيلم الوقت والانتباه الكافي لتتبع علاقة ذلك الرجل بالفنان أو الملابسات الدقيقة للحظة إطلاق النار، قس على ذلك تفاصيل كثيرة في حياة الفنان والظروف التي أدت لمعاناته النفسية والتي عاملها الفيلم بضحالة نسبية على حساب انتباهه للتفاصيل البصرية المتعلقة باللوحات الـ 49 وكيفية عرضها بشكل متحرك Animation لتبدو حية في إطار سينمائي، وبذلك بدا الفيلم كلوحة تشكيلية ممتدة على طول ساعة ونصف هي مدة الشريط السينمائي، أكثر من كونه عملاً سينمائيًا روائيًا.

أرى أن «التقنية» قد تم تسويقها بشكل مبالغ فيه على حساب «الدراما»، وخصوصًا أن صناع الفيلم أعطوا انطباعًا خاطئًا –بقصد أو بغير قصد – بأن الفيلم قد تم رسمه من الصفر، وهو أمر غير صحيح، حيث اعتمد الفيلم على مشاهد حية تم تصويرها للممثلين، ونماذج ثلاثية الأبعاد، وأخرى منتجة عبر الكمبيوتر CGI، تم التعامل معها لاحقًا بتقنية الـ Rotoscoping لإعادة رسمها بالألوان الزيتية وبضربات شبيهة بضربات ريشة فان جوخ – وهو الأمر الذي أشك كثيرًا أنه كان سيعجب فان جوخ نفسه – والروتوسكوبينج كتقنية قدمت أفلامًا عظيمة مثل فيلم «كيانو ريفز» و«روبرت داوني جونيور» A Scanner Darkly عام 2006 الذي تم تصويره أولًا ثم إعادة رسمه لإعطاء تأثير بعينه ينقل للمشاهد الاضطراب المصاحب لتعاطي المخدرات، وهو ما خدم قصة الفيلم بشكل مذهل.

إلا أنه في Loving Vincent صحيح أعطى تأثيرًا بالاضطراب الكفكاوي المستمر، إلا أنه لم يصاحب سوى شذرات بسيطة من تفاصيل حياة فان جوخ، أبقتني جائعًا لدراما غير موجودة ومفتقدة بفداحة.

حتى الموسيقى جاءت شاحبة للغاية وذات تون واحد لعدم وجود إطار درامي حقيقي تصاحبه، ربما باستثناء الموسيقى الافتتاحية لـ «كلينت مانسل»، وأغنية النهاية Starry Starry Night التي قدمتها المغنية الإنجليزية الشابة «ليان لا هافاس» بصوت ملائكي وإحساس مفعم بالحب لشخص «فينسنت فان جوخ»، والأغنية في الأصل كتبها وقدمها المطرب الأمريكي دون ماكيلين لأول مرة عام 1971.

الفيلم الذي شارك في إنتاجه «معهد الدوحة للأفلام»، أعاد لذاكرتي فيلم أنيمشن آخر شارك نفس المعهد في إنتاجه عام 2014 بعنوان «النبي» مقتبسًا عن كتاب «جبران خليل جبران» الأشهر الذي يحمل الاسم ذاته والذي شارك ممثلون كبار في تأدية التعليق الصوتي الخاص به منهم سلمى حايك، وليام نيسون، وألفريد مولينا، وفرانك لانجيلا. إلا أن «النبي» كان تحفة درامية على جميع المستويات نجحت في التغلغل في أعماق روح وفلسفة «جبران» بشكل ثري ومشبع تجول في عوالم جبران الفلسفية ورؤيته لصيرورة الموت والحياة والخير والشر والحب والكراهية، بشكل وازن بين جمال التقنية البصرية –التي شارك فيها أيضًا مئات الرسامين – وبين دقة وإمتاع القصة السينمائية، وفي نفس الوقت حافظ على أسلوب متفرد Original خاص بالفيلم، وهي الفكرة التي أرى أن صناع Loving Vincent تجاهلوها بشكل ما، لم تظهر الأصالة Originality وإنما ظهر تقليد أكاديمي غير مفهوم لأسلوب فان جوخ وحسب، مما جعل العمل محبطًا بشكل ما.

ربما أكثر ما أحببته في الفيلم بشكل بصري هو انتباهه لعنصر اللون الأصفر الذي كان يحيط بأعمال فان جوخ بشكل رئيسي، وهو الراجع لعشقه لعناصر صفراء توافرت في بيئته مثل زهرة عباد الشمس، وحقول القمح الأصفر، وشروق وغروب الشمس على الحقول الذي قضى عمره في الرسم والإبداع داخلها.

نسى صناع الفيلم أن فان جوخ هو الوحيد القادر على رؤية العالم بالطريقة التي كان يرى العالم بها، لذلك اختار الشكل «الانطباعي» في الرسم، فلم يكن قط يرسم الأشياء كما هي، وإنما كان يتتبع أثرًا واهيًا لها يشكل انطباع تلك الأشياء في مخيلته، وبالتالي استفزتني تلك المحاولة لتقليد أسلوبه ولم أفهمها قط، حتى وإن كان بذل في سبيلها كل ذلك الجهد العملاق، وكنت أتمنى لو أعطى الفيلم نفسه محاولة أكبر لفهم فنسنت ورؤيته الفريدة هذه للعالم، نفس الأمنية التي غنت بها «ليان» في نهاية الفيلم من كلمات «دون ماكيلين»:

الآن أفهم ماذا حاولت أن تخبرني.. كيف عانيت من أجل سلامة عقلك.. كيف حاولت أن تطلقهم أحرارًا.. لن يسمعوا إليك، لم يعرفوا كيف.. ربما هم يسمعون الآن..
Now I understand what you tried to say to me How you suffered for your sanity How you tried to set them free They would not listen، they did not know how Perhaps they’ll listen now

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.