يتصرف علماء الاجتماع العسكري كمحللين سياسيين وخبراء علاقات إستراتيجية وصحفيين ومساهمين في باقي فروع علم الاجتماع بدلا من إثراء مجالهم الخاص.

جاي سيبولد باحث في معهد الجيش الأمريكي للعلوم السلوكية والاجتماعية

يعود السبب في هذا النقد القاسي الذي وجهه أحد الباحثين الأمريكيين في علم الاجتماع العسكري إلى الميوعة النسبية لهذا العلم وافتقاده للنطاق المركزي التي يمكن أن تحل من خلاله المشاكل والأسئلة الرئيسية لهذا العلم.


علم الاجتماع العسكري

على الرغم من الأهمية الرئيسية التي تكتسبها المؤسسات العسكرية في المجتمعات الحديثة إلا أن علم الاجتماع العسكري علم حديث نسبيا بدأ في الظهور في بدايات العشرينات بعد الحرب العالمية الأولى ولم يتبلور كمجال مستقل في علوم الاجتماع إلى بعد الحرب العالمية الثانية وأثناء الحرب الباردة. مع أن جهود الرواد الأوائل بدأت في أوائل العشرينات كما أسلفنا إلا أن التدشين الحقيقي لهذا العلم كفرع معرفي مستقل ضمن جسد علوم الاجتماع تم على يد كيرت لانج في تدوينه للجزء الذي خصص لعلم الاجتماع العسكري في الموسوعة الدولية للعلوم الاجتماعية عام 1968.

هذا التأخر الملحوظ لعلماء الاجتماع في دراسة الأنساق العسكرية في الغرب رغم توفر وكثرة المعلومات والبيانات ربما تعطينا لمحة عن وضع هذا العلم في العالم العربي الذي تعد دراسة علم الاجتماع العسكري فيه مهمة خطرة لا يُقدم عليها كثير من علماء الاجتماع المدنيين العرب.

يمكن للباحث أن يجد بعض المصادر عن هذا المجال في المكتبة العربية ولكنها تكاد تكون معدودة على الأصابع، ويرجع فضل الريادة في هذا المجال المعرفي في العالم العربي إلى عالم الاجتماع المصري إبراهيم حسن الخضر الذي ألف كتابا بعنوان «علم الاجتماع العسكري» في العام 1980 حاول فيه تنظيم وترتيب المجال وسرد موضوعاته لكنه على حد تصريحه لأحد المواقع الإلكترونية أسدل الستار تماما على هذا الموضوع منذ ثلاثين عاما بسبب الصعوبات الجمة التي واجهها، وألمح لصعوبات أمنية واجهها في هذا الإطار.

لا يمكننا أن نتناسى أيضا مجهودات عالم الاجتماع العراقي النشيط إحسان محمد الحسن الذي ألف كتابا بنفس الاسم وكذلك الباحث فؤاد الأغا أيضا الذي يتهمه الدكتور إبراهيم الخضر بأنه نقل كتابه كما هو حرفا حرفا في مؤلفه الذي يحمل الاسم ذاته.

بعد التراجع النسبي للعسكرة في المجتمعات الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية وصعود القوة العالمية الجديدة الولايات المتحدة انتقلت شعلة الريادة في هذا العلم أيضا إلى الولايات المتحدة التي وفّرت فيها المؤسسة العسكرية الموارد اللازمة للباحثين وعلماء الاجتماع الأمريكيين الذين أسهموا إسهامًا حقيقيًا في تمييز المجال كفرع مستقل في علوم الاجتماع.

قبل صدور موسوعة لانج 1968 و كتابه الذي حمل اسم «المؤسسات العسكرية وسوسيولوجيا الحرب» سارت اجتهادات العلماء الأمريكيين في اتجاهين؛ الاتجاه الأول الذي عبر عنه كتاب ستوفر «الجندي الأمريكي» الذي صدر في العام 1950 من أربعة أجزاء، يتناول هذا الاتجاه ما يمكن أن نسميه سوسيولوجيا الفرد داخل المؤسسة أو الحياة العسكرية، كيف تؤثر هذه الحياة العسكرية على وعيه الاجتماعي وقدرته على التأقلم وسلوكه قبل وأثناء وبعد المعركة ودوافعه القتالية ومشاكل العمل و التقاعد بعد الخروج من الخدمة.

استفاد هذا الاتجاه من دراسات علم النفس العسكري المتقدمة التي تسبق نظيرتها الاجتماعية، بينما سلكَ الاتجاه الآخر الذي عبر عنه كتاب «الجندي والدولة» الذي صدر في 1957 للكاتب هانتينجتون، سلوكا مختلفا نحو دراسة مواضيع مثل المهنة العسكرية والعلاقات المدنية العسكرية وتوزيع القوى بينهما ومسألة السيطرة المدنية على المؤسسة العسكرية.

مع صدور كتاب لانج «المؤسسة العسكرية وسوسيولوجيا الحرب» إلى جانب كتاب كوتيس وبليجرين «دراسة في المؤسسة العسكرية الأمريكية والحياة العسكرية»، بدأ علم الاجتماع العسكري يسير في اتجاه اعتبار المؤسسة العسكرية مؤسسة اجتماعية رئيسية بمنظور محدد، وهنا يمكننا أن نقتبس من الكتاب الأخير تعريفه للمؤسسات العسكرية بأنها «نظام محدد من النشاطات المختلفة التي تهدف لتحقيق هدف معين هو الشروع في العدوان على المجتمعات الأخرى وحماية المجتمع من عدوان الآخرين وتوفير وسائل الضبط والسيطرة في النطاق المحلي».


فئات علم الاجتماع العسكري

بناءا على جهود لانج والعلماء اللاحقين يُمكننا تقسيم مسائل علم الاجتماع العسكري إلى خمس مسائل رئيسية ضمن فئتين:

1- الفئة الأولى هي العوامل والمسائل الداخلية في المؤسسة العسكرية وتضم ثلاث مسائل رئيسية وهي:

  • الجيش باعتباره مهنة السلاح.
  • الجيش باعتباره مؤسسة اجتماعية يضم قيمًا و قواعد وهياكل تنظيمية.
  • الجيش باعتباره مؤسسة اجتماعية ذات أهداف وطرق للعمل.

2- الفئة الثانية وهي المسائل المرتبطة بالتفاعلات الخارجية للمؤسسة العسكرية وتضم مسألتين:

  • العلاقات بين المؤسسة العسكرية والمجتمعات الأوسع حولها في المركز منها علاقات القوة بين الجيش والمجتمع المدني.
  • العلاقة بين الجيش والمنظمات الحكومية وغير الحكومية ومن بينها علاقات الشراكة والتحالف.

مهنة السلاح

أفراد المهنة العسكرية ليسوا مجرد متخصصين في استخدام السلاح والشؤون والعلوم العسكرية، حيث يمر أفراد المهنة العسكرية بعملية تنشئة مهنية و إجراءات وضوابط فرز وانتقاء وتجنيد وصناعة لا تنطبق على غيرهم من أفراد المجتمع، وتنتج هذه «الصناعة» أفرادًا ذوي معايير سلوكية معينة بأبعاد أيديولوجية وثقافية مرتبطة بالتنظيم والطاعة والعقيدة العسكرية ورؤية مميزة للعالم تختلف عن غيرهم من أصحاب المهن الأخرى، وهو المجموع الذي يمكننا أن نُطلق عليه العقلية العسكرية التي ترتبطُ عناصرها المختلفة بطبيعة الخدمة، والخبرة العسكرية، والوسط الاجتماعي الذي تنبثق منه المؤسسة العسكرية.

بالرجوع إلى العهود القديمة يمكننا أن نلاحظ أن المهنة العسكرية بدأت كمهنة نهب لكن هذه الطبيعة التي اعتمدت على الغنائم والسلب كمدخلات مادية للمنظومة المهنية لم تعد تلائم متطلبات الضبط الاجتماعي داخل سياق الدولة القومية الحديثة؛ فقد استبدلت المنظومة الحديثة هذه الموارد بالمرتبات والدعم المادي غير النقدي كتوفير السكن والرعاية الصحية للجنود، ويشير العالم الإجتماعي «موسكوس» في هذا السياق إلى أن حجم التعويضات والامتيازات المادية المقدّمة للمهنيين العسكريين مرتبطة بالأوضاع التاريخية والاجتماعية وتعكس مقدار التوتر والشد والجذب بين المهنة العسكرية والجيش مع المجتمع الأوسع المحيط بها.

تتعامل المهنة العسكرية مع العنف القاتل لذا بالإضافة إلى المحددات التي قد تتشاركها مع المهن الأخرى إلى أنها تتطلب قدرا عاليا من الضبط والسيطرة داخل إطار المهنة ليس فقط في عمليات التدريب والعمليات القتالية إنما في عمليات الإدارة والتنسيق اللوجستية والمؤسسية، لذا تتميز المهنة العسكرية بسيادة عامل الضبط والسيطرة المهنية.

أحد المسائل المثيرة التي أثارت جدلا أكاديميا في الولايات المتحدة وجدلا شعبيًا في مصر في مسألة المهنة العسكرية هي مستوى التعليم العام غير العسكري الذي تتطلبه المهنة؛ إذ تنعكس تأثيرات هذه المسألة ليس فقط على المعايير والمؤهلات المهنية وإنما تمتدُّ أيضًا إلى ما يمكن أن نسميه «صورة المهنة وقوتها الإجتماعية» سلبًا أو إيجابًا في المحيط الاجتماعي الأوسع.

الجيش كمؤسسة اجتماعية

يجادل المتخصصون في علم الاجتماع العسكري بأن الجيش يجب أن يُدرس كمؤسسة اجتماعية أساسية على غرار الأسرة والمؤسسات الدينية والاقتصادية والتعليمية والحكومة ؛على أساس معايير عدة، مثل الدور الوظيفي داخل النسق العسكري، وقيم المؤسسة العسكرية وعقيدتها وهيكلها وأنماطها السلوكية، وقدرتها على التكيف مع التغيير.

النقطة الأخرى التي تمتد إليها دراسات علماء الاجتماع هي قياس التأثيرات المتقاطعة بين المؤسسة العسكرية والمؤسسات الاجتماعية الأخرى في تشكيل ما يُمكن أن نسميه الهوية. في هذا السياق فإن اعتبار المؤسسة العسكرية مجرد مدافع عن المجتمع أو السيادة هو اعتبار مُغالي في التجريد، فالأقرب للدقة أن المؤسّسة العسكرية هي نسَق مفتوح مدخلاته هي المجندين والأسلحة، ومجموع من العقائد والأفكار يعمل للاشتباك مع الأعداء في ساحة المعركة.

لذا فإن دراسة المؤسسة العسكرية يجبُ أن تتمّ عبر عمليات تقييم لهذه المدخلات، ومن خلال معادلات التأثر والتأثير لحساب عمليات التشكيل، ثم المخرجات التي تنتجها هذه المؤسسة؛ من هذه الزاوية يُمكن الحكمُ على المؤسسات العسكرية من خلال الأنظمة والأنساق الإدارية والهياكل السوسيو-اقتصادية.

تبرز هنا مسألة خلافية وهي مرونة النسق العسكرية مع المجال أو المحيط السياسي الذي يبرر عدد ونوعية المدخلات (المجندين-السلاح-الأفكار).


في العلاقات المدنية العسكرية

تهتم بدراسة العلاقات المدنية العسكرية بعدة نقاط رئيسية منها ممارسة السيادة والسيطرة على الجيش من قبل المؤسسات المدنية ومسائل التمويل وتوزيع والتغير في القوة وتنضم إليها عدة مسائل أخرى، في ما يتعلق بعلاقة الجيش بالمنظمات الخارجية، سواءا كانت جيوش حليفة، أو منظمات أمنية، أو قوات مشتركة لحفظ السلام، ويسعى المتخصصون في علم الاجتماع لدراسة المسارات التي تسير فيها المنافسة والتعاون بين الجيش والسلطة المدنية لتوزيع محددات السيادة، وكذلك العلاقة بين الجيش والجيوش الأخرى، كذلك السيادة المستعارة التي تعمل فيها وحدات من الجيش ضمن سيادة دولة أخرى.

من أدوات السيطرة المدنية على الجيش التي يدرسها علماء الاجتماع تبرز الميزانية وتوزيعها ومناقشتها، وكذلك القوانين العسكرية ونظام الترقيات وتمدين بعض الوظائف والمناصب العسكرية، وتشجيع مشاركة المؤسسة العسكرية في المناقشات والقرارات المرتبطة بشؤونها. ومن أبرز العوامل الداخلية المؤدية إلى تدخل المؤسسة العسكرية في شؤون المجتمع هي تصور أفراد المؤسسة لدورهم فإذا تضمن هذا التصور وجوب تدخلهم لحماية المجتمع من السياسيين الفاسدين زادت احتمالات تدخلهم. وتزيد فرص التدخل إذا استخدمت الحكومة القوات المسلحة لـ مهام شرطية لقمع المعارضة أو التمرد الداخلي.

من الناحية الهيكلية فإن المؤسسات العسكرية ذات التماسك الداخلي القوي تميل إلى التدخل في شؤون المجتمع على النظم الأقل تماسكًا،ـ ومن أهم عوامل التماسك داخل المؤسسة العسكرية هي القيادة المركزية، والانضباط، والتدرج الهرمي، والاكتفاء الذاتي، وابتعاد العسكريين لفترات طويلة عن المحيط المدني.

المراجع
  1. "علم الاجتماع العسكري" فؤاد الأغا
  2. “core issues and theories in military sociology” Guy L Siebold