لا يزال الجدل محتدمًا حول طبيعة العلاقة بين «الدولة» و«المجتمع المدني»، وهل العلاقة بينهما مبنية على التعاون أم التصادم، وهل تغيرّت طبيعةُ هذه العلاقة مع الزمن أم أنها ظلت ثابتة خاصة مع تغير طبيعة النظر إلى كل من الدولة والمجتمع المدني مع الوقت؟!

يحاول هذا المقال الإجابة على سؤال العلاقة المربكة بين الدولة والمجتمع المدني وحدود النزاع والتعاون بينهما، بعيدا عن سؤال أصل النشأة، وما إذا كانت الأمة جماعة متخيّلة قائمة قبل قيام الدولة، أم أن الدولة هي التي أنشأت الأمة وبالتالي المجتمع بالمعنى الحديث؟


مفهوم المجتمع المدني في الفلسفة الغربية

إن «الدولة» تختلف بحسب المنظور الذي نستخدمه لفهمها، حيث يؤكد هيجل على أنها تنشأ عن دافع أخلاقي عضوي، بينما اعتبرها هوبز وشميت قائمة على القانون الطبيعي، وقال ماركس إنها ناتجة عن السيطرة الاقتصادية لطبقة على طبقة أخرى، كما نظر إليها كُلسن بوصفها ظاهرة قانونية بالأساس، بينما اعتبر جرامشي أنها نظام للهيمنة.[1]

أما «المجتمع المدني» فاعتبر توماس هوبز في منتصف القرن الـ 17 أنه يُنظَم سياسيًا عن طريق الدولة القائمة على فكرة التعاقد، بينما اعتبر جون لوك أنه مُنظَم بشكل طبيعي وهو فوق الدولة، أما روسّو في القرن الـ18 فاعتبر أن المجتمع المدني هو المجتمع صاحب السيادة القادر على تشكيل إرادة عامة يتماهى فيها الحاكمون والمحكومون، بينما رأى مونتسكيو أن المجتمع المدني يأتي في سياق البحث عن البنى الأرستقراطية الوسيطة المعترف بها من السلطة، أما هيجل فاعتبر أن المجتمع المدني هو حالة بين الأسرة والدولة فهو يتوسطهما ويفصل بينهما في الوقت ذاته، وبدوره شدد توكفيل على دور المنظمات المدنية الفاعلة في نطاق الدولة بالمعنى الضيق، بينما قفز غرامشي على التعريف الماركسي للمجتمع المدني كمجتمع برجوازي وجعله النطاق الذي تتم فيه الهيمنة الثقافية، وهي تختلف عن عملية السيطرة التي تميز المجال السياسي.[2]

وبالتوازي مع ظهور الدولة الحديثة قبل نحو أربعة قرون وتبلور مفاهيم القانون العام والعقد الاجتماعي، والفصل بين شخص الحاكم ومؤسسات السلطة، ظهر أيضا مفهوم المجتمع المدني في بدايات القرن السابع عشر وأصبح في نفس الوقت واقعًا مُعاشًا، لتتزامن الأفكار والأحداث معا، فلم تكن معرفة عمياء بعيدة عن المفاهيم، أو مفاهيم جوفاء بعيدة عن التجارب كما يقول كانط.


بين الدولة والمجتمع المدني

إن مصطلح «المجتمع المدني» ظهر واختفى عدة مرات على مدى القرون الأربعة الماضية، حيث بدأ المصطلح ليبراليًا مع مدرسة التنوير الإسكتلندي (هيوم وآدم سمث) واستمر في التطور إلى أن جاء جرامشي وأعاد له الحياة في النصف الأول من القرن العشرين، قبل أن يظهر هابرماس بفكرة المجال العام ليمثِّل جسرًا بين الليبرالية والماركسية، ومع انهيار الاتحاد السوفيتي تحوّل الأمر إلى صناعة، حيث موّلت الدول الغربية المجتمع المدني لضرب الدول الشيوعية في أوروبا الشرقية وخاصة بولندا، ليقدم بذلك بديلا مبنيًا على الحراك الاجتماعي القائم على التمييز بين المجتمع والدولة.

ويمكن النظر إلى علاقة المجتمع المدني بالدولة في الغرب من خلال ثلاث مراحل:

  • الأولى تمتد من مايكيافيلي حتى الثورة الفرنسية، وكان مطلب المجتمع المدني فيها؛ اتحاد القاعدة الاجتماعية مع البنية السياسية لتشكيل الجسد الاجتماعي، بهدف إقصاء الكنيسة عن الحياة العامة، واستقلال الدنيوي عن السماوي.
  • بعد الثورة الفرنسية كان هدف المجتمع المدني استقلال المجتمع عن الدولة.
  • في القرن العشرين إيجاد مساحات تلاق مع الدولة لتحقيق الرفاه للإنسان.[3]

ويرى جون كين أن انشغال الفكر الغربي بضرورة إيجاد نقطة التوازن بين الدولة والمجتمع أنتج خمس صيغ لطبيعة المجتمع المدني وعلاقته بالدولة:

  • الأولى، كما يمثلها هوبز وآخرون ترى أن مهمة الدولة هي الانقلاب على مجتمع الطبيعة غير الآمن، وإحلال «المجتمع المدني» مكانه، وهو مجتمع يتماهى مع الدولة وتكون هي الأساس فيه.
  • الثانية، ويمثلها لوك وكانط والتنوير الإسكتلندي، ويرى المجتمع المدني حالة طبيعية، وأن مهمة الدولة ليست الانقلاب عليه، وإنما المحافظة عليه ورعايته وتطويره.
  • الثالثة، تؤكد أن الدولة شرٌّ لا بد منه ويجب مقاومتها والحد من سلطانها إلى الحد الأدنى.
  • الرابعة،المنظور الهيجلي الذي يرى الدولة مكمّلة للمجتمع المدني، ولكنها عابرة له وقوّامة عليه، وشرطٌ لإعطائه البُعد الأخلاقي والعمومي.
  • وخامسًا وأخيرا، المفهوم الذي يرى أهمية استقلالية المجتمع المدني عن الدولة، وأهميته ليس فقط لكف غلوائها والحد من سلطانها، بل كذلك للحد من هيمنة الأغلبية الشعبية ضد الأفراد والأقليات. وهذا المنظور يمثله كل من توكفيل وجون ستيوارت ميل.[4]

وفي ظل هذا الجدل يؤكد المفكر المغربي عبد الله العروي على أنه يمكن النظر للدولة بطريقتين: المنظور الأول، يقضي بأن الغاية المقدّرة للبشر ليست من عالم المرئيات، وأن الحياة الدنيا بمثابة تجربة يجتازها المرء ليعرفَ قيمته وما يستحق من جزاء في حياة أخرى محجوبة عنه [5]، فالدولة في هذا المنظور مجرد تنظيم اجتماعي لا يمكنُ أن تتضمن قيمة أعلى من قيمة الحياة الدنيا، وهي في خدمة الفرد لكي يحقّقَ غايته العليا الأخروية. وهذا المنظور يقدّم الأخلاق على السياسية ويجعل الدولة وسيلة في خدمتها. أما المنظور الثاني فيرى أن غاية الإنسان هي المعرفة والسعادة، وهو يسعى إلى سد حاجاته باستمرار لذلك يتعاون الأفراد فيما بينهم لتحقيق هذه الغايات، والدولة تعد إحدى ظواهر هذا التعاون ووسيلة لتحقيق الغايات البشرية. وفي كلا الحالتين لا تكتسب الدولة القيمة إلا إذا انغمست في المجتمع وخدمت أغراض الفرد العاقل، عندئذ تصبح دولة أخلاقية وتحتل مكانا في منظومة الحق والخير.[6]

لكن يجب أن لا نستغرق في التفريق بين الدولة والمجتمع، ونهمل هذا التداخل الكبير بينهما، فالمجتمع المدني يخترق الدولة عن طريق المجلس التشريعي – الممثل للطبقات (Estate Assembly) بحسب هيجل – وعن طريق الرأي العام، كما أن الدولة تخترق المجتمع المدني عن طريق السلطة العامة والشرطة وإدارة العدالة وتنظيم الاقتصاد ضد الافتقار. فيما لا يحقق المجتمع المدني العقلانية والعمومية إلا عبر الدولة، التي تجسد هذه القيم، وبالتالي ترعى المصلحة العامة وتتجاوز انقسامات وأنانية المجتمع المدني؛ لهذا لا ينبغي النظر إلى المجتمع كمضاد تماما للدولة، فعندما تريد الدولة أن تطبق القانون مثلا، فإنها تحتاج إلى المجتمع المدني ليرسخ في المواطنين روح احترام القانون والتعاون مع السلطات لتحقيق المصلحة العليا للجميع.[7]

كما يجب أن ننتبه إلى الفرق بين الإنسان في داخل الأسرة ونفس الإنسان الذي نعتبره مواطنًا عندما يخرجُ إلى المجتمع، وهذا الذي لم ينتبه إليه روسو عندما اعتبر أن هناك تعارضًا بين إرادة مجموع الأفراد في المجتمع المدني والإرادة العامة في الدولة، ولو ميّز بين الفرد والمواطن وبين المجتمع المدني والدولة لما نشأ هذا التعارض المتوهم بين المصلحة العامة وإرادة مجموع الأفراد، حتى أن هيجل يرى أن الدولة إذا لم تستطع أن تحقق المصالحة بين المصالح الخاصة والغاية العامة فإنها تنهار.

وقد كتب هيجل في مقال بعنوان «الدستور الألماني» رأى فيه أن الدولة تنقسمُ إلى جوهر وعرَض، فالعرض مثل حقوق الملكية والامتيازات السياسية والضرائب وإدارة العدالة، أما الجوهر فهو «سلطة مجتمعية عليا» تطلب من الأفراد فعل ما هو ضروري للحفاظ عليها، وفيما عدا هذه الأمور تترك السلطة الحرية لإرادة الأفراد [8]. ويمكن القول بأن هناك دائرتان يمكن فهم الواقع من خلالهما وهما الدائرة السياسية (الدولة) والدائرة المدنية (المجتمع)، حيث يُنشئ التداخل بين المجتمع المدني والدولة ما يعرف بـــــ «المجتمع السياسي».[9]

ورغم أن المجتمع المدني أصلا مصطلح لم يظهر إلا في ظل الدولة، إلا أنه لا يوجد ما يمنع من ظهور مجتمع مدني بدون دولة، والاكتفاء بوجود سلطة فقط كما كان الحال في مكة قبل الإسلام (فهي مركز حضري وتجاري والعنف فيها ممنوع بالعادات والتقاليد)، لكنها تبقى حالة نادرة [10]، حيث الأصل أن المجتمع يشهد صراعات تحتاج إلى دور الدولة الحاسم لمنع العنف وإقرار السلام. ورغم أن الدولة كيان قام بالأساس لمنع التوحش، فإنه كيان قابل في ذاته للتوحش لذلك فإنه يجب حصر دورها في أضيق الحدود.

وأخيرا يجب التنبيه إلى أن العلاقة بين المجتمع المدني والدولة تختلفُ من ثقافة لأخرى ومن منطقة إلى أخرى، ولما كانت الدول القومية في الجزء الأكبر من العالم النامي نتاجًا كولونياليا يتميز اقتصاد السوق فيه بالهشاشة؛ فإن المجتمعيات المدنية في الجنوب لا بد وأن تكون مختلفة عن مثيلاتها التي ظهرت في الشمال.[11]


الخلاصة

نشأ مفهوم المجتمع المدني المعاصر من تصادم بين تيارين رئيسيين في الفكر السياسي الغربي؛ الأول تطوّر من ميكافيلي وهوبز عبر لوك وكانط ثم مونتسكيو وتوكفيل إلى مفكري الليبرالية المعاصرة. أما الثاني فمرَّ من هيغل عبر ماركس وغرامشي إلى هابرماس ومنظري اليسار الأوروبي الجديد. لكن المفهومين تقاربا بعد ذلك إلى حد كبير حيث انتقل الليبراليون من اعتبار المجتمع المدني ساحة توحّش تحتاج إلى سلطان الدولة، إلى اعتباره ساحة تحضر وتواصل بناء. وعند اليسار المعتدل فإن المجتمع المدني تحول من فضاء هيمنة البرجوازية إلى فضاء شبه محايد، ثم إلى ساحة للتواصل الإيجابي.[12]

وقد يقول البعض إن الدولة والحرية متنافران، ففي حين تقوم مؤسسات المجتمع المدني على التطوع والانضمام الحر غير الإلزامي، فإن الدولة تقوم على الإجبار والقمع واحتكار العنف. لكن يجب أيضا الأخذ في الاعتبار أن هناك مساحات تلاق واسعة بين الدولة والمجتمع المدني.

لذلك يرى الباحث أن العلاقة بين المجتمع المدني والدولة تفاعلية معقّدة ومتداخلة بشكل لا يمكن فصله بسهولة؛ كالضوء والعتمة تماما، وإنه لمواجهة قوة الدولة لا يجب إضعافها، ولكن يجب تقوية المجتمع وزيادة رأس ماله الاجتماعي لتكون العلاقة بينهما صحية ومفيدة لكليهما ولمصلحة الفرد، وكما يقول كانط: «إذا كانت الشجر قوية فلا مانع من أن تتصارع الفروع». لذلك فإنه من الأفضل التفكير بمنطق الطبيب الذي يبحث عن مصلحة المريض، وليس أخصائي الطب الشرعي الذي يبحث في الأسباب ولا يدخل العلاج في دائرة اهتماماته.


[1] وائل حلاق، الدولة المستحيلة (الدوحة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2014، ط1)، ص59.[2] عزمي بشارة، المجتمع المدني.. درسة نقدية ( الدوحة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2012، ط 6)، ص 268. [3] عبد العزيز لبيب، محاضرة لمقرر قضايا في العلوم الاجتماعية والإنسانية، معهد الدوحة للدراسات العليا، خريف 2016.[4] عبد الوهاب الأفندي، الدولة والمجتمع المدني، محاضرة لمقرر قضايا في العلوم الاجتماعية والإنسانية، معهد الدوحة للدراسات العليا، ربيع 2016.[5] يقول القديس أوغسطونينوس في كتاب «مدينة الله» إن الدنيا مجرد ِإعداد الناس لعالم الملكوت، فيما يقول ابن تيمية في كتاب السياسة الشرعية إن الأصل أن الله خلق الأموال إعانة على عبادته لأنه خلق الخلق لعبادته [6] عبد الله العروي، مفهوم الدولة (الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، ط9، 2011) ص ص 14 – 19 [7] عزمي بشارة، المجتمع المدني.. درسة نقدية ( الدوحة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط 6، 2012).[8] G.W.F. Hegel, Political Writings (London, Cambridge University Press, (1999.[9] عزمي بشارة، المجتمع المدني.. درسة نقدية ( الدوحة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2012، ط 6).[10] عبد الوهاب الأفندي، الدولة والمجتمع المدني، محاضرة لمقرر قضايا في العلوم الاجتماعية والإنسانية، معهد الدوحة للدراسات العليا، خريف 2016.[11] مايكل إدواردز، المجتمع المدني النظرية والممارسة، ترجمة عبدالرحمن شاهين(الدوحة، المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسيات، ط1، 2015) ص20.[12] عبد الوهاب الأفندي، الدولة والمجتمع المدني، محاضرة لمقرر قضايا في العلوم الاجتماعية والإنسانية، معهد الدوحة للدراسات العليا، ربيع 2016.