كنت متشككا في البداية من أن «أفكار خارج القفص» للأستاذ عبد الرحمن أبو ذكري سيأتي قريبا في مستواه لمستوى أعمال المفكر الكبير علي عزت بيغوفيتش، ولكنني ما إن شرعت في قراءة الأول حتى تيقنت أن أثره فيّ لن يختلف كثيرًا عن أثر مثل هذه الكتابات الحية لبيجوفيتش وغيره ممن يحفرون أعمالهم في الوجدان لتصبح مختلطة بالنفس خلطًا لا يمكن فصله.

وعلى الرغم من تنويه أ. أبو ذكري في مقدمة كتابه «أفكار خارج القفص» على أن ما ألهمه أسلوب كتابه هذا هو كتاب «هروبي إلى الحرية» حيث قال:

«لقد استلهمت تجربة أستاذنا علي عزت بيجوفيتش في كتابه الذي تُرجم تحت عنوان هروبي إلى الحرية.. استلهمتها في الشكل والمضمون معًا؛ فالكتاب عبارة عن أفكار عرضت في أقل مساحة ممكنة فجاءت كثيفة إلى درجة قد تستلزم أحيانًا إعادة القراءة عدة مرات لسبر غور الفكرة»

إلا أن من يطالع الكتابين يجد ثمة فروقات توحي بتمايز الذات الكاتبة بين أ. أبوذكري وبين بيغوفيتش؛ فالكتاب ليس مجرد إعادة صياغة الأفكار أو خواطر وهوامش على كتاب “هروبي إلى الحرية” بل العكس هو الصحيح؛ إذ أن “أفكار خارج القفص” من الكتابات أصيلة الفكرة، ولم يكن بأي حال من الأحوال أو من أي وجه من الوجوه نسخة مقلدة أو محسنة لكتاب بيغوفيتش. ولذلك كانت المقارنة بين الكتابين واجبة لما بينهما من صلة قرابة.

يقال عن العنوان أنه “عتبة النص”، لذا فإن عنواني الكتابين يحملان الروح العامة لكليهما. “هروبي إلى الحرية” يشير إلى حالة بها قدر من السيولة دون التميع، فالهروب كان عند بيغوفيتش للحرية وهي الركيزة الأساسية للخلق والدليل الحقيقي لقدرة الخالق وميثاق العهد بين الخالق وخالقه. فالهروب هنا هو لمعنى الحرية الذي هو في سردية بيغوفيتش ذروة تجلي مفهوم الخالقية. فالله لكونه إلهًا حقًا يخلق إنسانًا حرًا. يقول د. عبد الوهاب المسيري في مقدمته لكتاب بيغوفيتش الإسلام بين الشرق والغرب ناقلاً عن بيغوفيتش نفسه رؤيته لمفهوم الحرية:

«إن قضية الخلق (كما يؤكد علي عزت بيجوفيتش) هي، في الحقيقة، قضية الحرية الإنسانية. فإذا قبلنا فكرة أن الإنسان لا حرية له، وأن جميع أفعاله محددة سابقا -إما بقوى مادية داخله أو خارجه- لا تكون الألوهية ضرورية في هذه الحالة لتفسير الكون وفهمه. ولكننا إذا سلمنا بحرية الإنسان ومسئوليته عن أفعاله، فإننا بذلك نعترف بوجود الله إما ضمنًا وإما صراحة. فالله وحده هو القادر على أن يخلق مخلوقا حرًّا، فالحرية لا يمكن أن توجد إلا بفعل الخلق. الحرية ليست نتيجة ولا نتاجا للتطور، فالحرية والإنتاج فكرتان متعارضتان. فالله لا ينتج ولا يشيد.. إن الله يخلق..!»

ومن هنا يتضح أن هروب بيغوفيش وإن كان لمعنى رحب، وفي هذا قدر لا بأس به من السيولة، إلا أنه لم يهرب للمعنى مجردًا في ذاته ولكن معنى الحرية عنده مربوط ربطًا واضحًا جليًا بمعنى الخالقية الإلهية أي أن الحرية التي يقصدها بيغوفيتش هي العبودية لله وحده وذلك بنزع كل القيود المتوهمة عن الإنسان وإبقاء قيد الله عليه وحده. إذن فحرية بيغوفيتش هي العبودية لله وحده دون غيره.

ويشير بيغوفيتش في موضع آخر نذكره على سبيل المثال لا الحصر لكون الحرية هي المقصد الحقيقي للخلق في خاطرة مهمة من كتابه “هروبي إلى الحرية” حين يقول في الخاطرة رقم 1665:

«هل حدث لك أن أعجبت بالفعل بأحد المجرمين أكثر من إعجابك بمن يسمى بالمواطن الصالح؟ هل تساءلت عن السبب؟ أعتقد أن الأمر قد يكون هكذا لأن المجرم أكثر أصالة وأكثر تعبيرًا عن ذاته، فهو هو. وبينما يتصرف المواطن الصالح في الغالب تبعًا لقانون لا يخصه بل فُرض عليه، فإن المجرم يتصرف وهو صادق مع نفسه تبعًا لقانونه الخاص. لا يعني هذا أن تعجب بالمخالفات أو أن تساند الجريمة والخطيئة، ولكن الأمر يتعلق بالجانب الآخر من المقارنة، أي عنصر الشخصية. فنحن نعجب بالشخص الذي يشرع لنفسه، وفي المقابل، نحن نعجب بتصرفات الشخص الملتزم أخلاقيًا لا بشخصه، إذ أنه يطيع قانونًا ويمتثل له، والامتثال شكل من أشكال غياب الحرية. والتصرفات التي تكون وفقًا لقانون غير نابع من الروح يسهل نبذها. في شعر أواخر القرن التاسع عشر نجد فهمًا واضحًا للمجرمين والخطاة، وينشأ هذا الفهم مما تقدم ذكره. ويعبر عنه قول برناد في مسرحية ابسن (براند): “كن ما تريد أن تكونه، ولكن كن صادقًا مع نفسك على طول الطريق”. هناك مواقف متطرفة بعينها، يبدو المجرم خلالها شخصًا حرًا، ويبدو المواطن الصالح عبدًا للقوانين. في مواجهة اختيار كهذا، سيكون تعاطفنا التلقائي مع الشخص الحر. ربما يحظى العبدُ بالشفقة، لكن لا يود أحد أن يكون مكانه»

وعلى صعيد الكتاب الآخر «أفكار خارج القفص» يدرج العنوان بالقارئ على عتبات النص موحيًا بأن عالم أبوذكري أكثر صلابة من عالم بيغوفيتش، ولكنها في الوقت ذاته صلابة غير جامدة، يرى فيها التفاصيل واضحة ولكنها مختارة بعناية ودقة. فالقفص ليس معنى كالحرية ولكنه في حالة أبوذكري لا يُرجى بل يُترك ويُفر منه. والعنوان أيضًا أكثر موضوعية من العنوان السابق وكان غرض كاتبه واضحًا من البداية فكما كتب هو عنه:

«هذا الكتاب ليس للمتعة الذهنية المجردة، وليس الغرض منه نيل رضا القارئ وموافقته وتصفقه واستحسانه؛ بل الغرض منه تعليمه التفكر، ومساعدته على تكوين ملكة للنظر والنقد والحكم»

فالحالة النفسية للذات الكاتبة لهذا النص تختلف كثيرًا عن حالة بيغوفيتش في سجنه؛ فالأولى حالة واعية بقدر ما لها إرادة في عملية هدم متعمدة لبعض المسلمات الفكرية وكأنها حالة رجة عنيفة بعض الشيء للقارئ لغرض إفاقته، ثم محاولة لإعادة بناء رؤية يرى بها القارئ العالم بعدما تيقظ وعانى جراء عملية الهدم. ومن أمثلة هدم بعض الأفكار السائدة الخاطرة رقم 274:

«يُمكن اعتبار الكاتب والمفكر المصري أحمد أمين؛ رأس الجيل الذي مثل آخر المؤمنين وأول الهيومانيين العلمانيين (المُلحدين) مثله في ذلك مثل دانتي إلليجري وتوماس مور وغيرهم»

ولكنه بعد هذه العملية التفكيكية المؤلمة لا يترك القارئ في حالة الاضطراب هذه بعدما ذكر الإلحاد في حق أناس مسلمين لم يعلنوا إلحادهم صراحة وذلك بعملية بناء لمفهوم الإلحاد في استكماله لنفس الخاطرة:

«والإلحاد بعكس ما شاع في أوساط المتفيهقين؛ ليس هو الإنكار البسيط لوجود الألوهية، فهذا عمليًا مستحيل، وقد صرح الرجل في نهاية مُذكراته (يعني أحمد أمين والكلام هنا لي) بإيمانه؛ والذي يغلب عليه الطابع الغنوصي العقلانيين. لكن الإلحاد الذي نقصده هو إنكار الحاكمية الكلية للوحي الإلهي على الوجود الإنساني، وذلك كما استخدم اللفظ في القرآن، فهو إنكار لبعض أسمائه وصفاته سُبحانه، أو هو إنكار لبعض الوحي وحجيته انصرافًا لغيره، أو إنكار للآيات بجملتها»

ويفصل فيما يزيد عن الصفحة ونصف الصفحة في كتاب من المفترض أن به من الأفكار ما لا يزيد عن صفحة حتى لا يلقي بقارئه في صحراء دون دليل يمشي على خطاه بل يفصل كثيرًا بل وترحم واستغفر لمن زعم كونهم ملحدين:

«وإلحاد أحمد أمين وطه حسين ومحمد حسين هيكل وتوفيق الحكيم وعباس العقاد من النوع الأول؛ إنكار (غير واع في كثير من الأحيان) لطلاقة القدرة تأثرًا بصورة الإله ومفهوم الألوهية في الفلسفات الغربية، وإعلاء لـ((العقل)) على الوحي تأثرًا بفعلة “النهضة الأوروبية”. لكن هل كان رحمه الله واعيًا بأنه ينقُضُ عُرى إيمانه؟ الله وحده أعلم وإن كنت أرجح أنه -وكل جيله- لم يكونوا واعين بذلك، بل ربما قلد بعضهم ((أستاذهم)) لُطفي السيد جهلاً ثم استمرأ ذلك أو استكبر الرجوع عنه، أو ربما لم يجد بديلاً مستساغًا في هذا العصر المضطرب»

ولا يكتفي كما ذكرت في هذه الفرضية الصادمة لكثير من القراء برأيه الشخصي فحسب، بل يشرع في بيان السبب وينتقل من الرؤية الخاصة إلى الاتجاه العام الذي ساد تلك الحقبة من التاريخ. فعقلنة الدين كانت السمت العام لجيل غزاه فكر المستعمر المتغلب وطغى عليه طوفان التساؤل وإعلاء العقل فوق الوحي. وفي ذلك يستطرد قائلاً:

«ومن مظاهر الإلحاد -حسبما ذكر في مذكراته- تشاؤمه المفرط وحزنه العميق وانشغاله ربما بالشر الذي لم يقع، وهو الانشغال الذي يُظلم النفس ويؤزمها…لقد ذكرنا إلحاد أحمد أمين شبه العقلاني، لأنه على إيمانه العميق بوجود الله ورحمته وتصديقه بأن الإنسان مفطور على «الشعور بإله» إلا أنه ابن عصره؛ واحد من الجيل الذي حاول أو اعتسف المحاولة للتوفيق بين العقل المادي والوحي…لقد أورثته الفلسفة مرارة لعجزه عن وضعها موضع التنفيذ، كما أشار في غير موضع؛ كما زادت حساسية الأديب تشاؤمه الغامض من المستقبل؛ التشاؤم الذي لم يكن يعرف أن مصدره هو نسقه الفلسفي المادي. رحمه الله وعفا عنه»

وجاء الجانب البنيوي معضدًا لروح الكتابين العامة ومضفيًا عليها الملامح الذاتية لكل عمل على حدة. فنجد أن الصياغات المستخدمة في كتاب «هروبي إلى الحرية» أكثر تجريدًا مما يعطي مستويات للفهم وأعماق متعددة ومتداخلة للنص. فعلى سبيل المثال يقول في الخاطرة رقم 695:

«بين الحزن واللامبلاة سأختار الحزن»

فهذه الخاطرة برغم من سلاسلة كلماتها ووضوح عبارتها إلا أن مستويات تفسير القارئ لها تختلف من شخص لآخر حسب عمق الذات المتلقية ومعايشتها لتجارب مركبة. فالحزن كالحرية فعل إنساني مركب، بينما اللامبالاة هي فعل آلي لا روح فيه ولا مشاعر. لذا كان اختيار بيجوفيتش للحزن رغم قساوته هو انتصار لإنسانية الإنسان في أصعب المواقف مثل الحرمان من الحرية بالسجن في حالة كتابة الكتاب المذكور، ويمثل هذا الانتصار بالضرورة انتصارًا لتركيبة الإنسان الحرة واستعلاء له لكونه مخلوقًا متفردًا لله وحده. ففوز الإنسان باختياره الحزن في حالة بيغوفيتش هو الوجه المقابل للإنسان الذي لأجل هذا خلقه الله. وبهذا الصدد يكون الحزن هو نوع من العبادة لأنه استعلاء على خلاف اللامبلاة.

وعلى الصعيد الآخر تعضد البنية اللفظية عالم أبوذكري، فهو عالم أكثر وضوحًا. فكلمات مثل “قفص- لبنات- بناء- هدم” ترتبط بالواقع أكثر من التجريد ولكن كما ذكرت من قبل فالواقع هنا لا يُذكر للاستحسان وإنما في غالب الأحيان لهدمه وبناء أفكار جديد مرتكزة على الوحي. ولهذا كانت روح أسلوب أبوذكري يماثل روح إبراهيم عليه السلام وهو يقف أمام الأصنام، وكان قلمه مثل معول نبي الله ابراهيم. ومن هنا غلب على الكتاب الطابع الجزل في كثير من الأحيان، ولكن يخفف بالكثير من الأدعية والتأملات عن العشق والحب. فهي نفسية العبد الذي يهتدي بنور الوحي في كل زمان بروحه التي تأبى تجليات الباطل وترفض الاستسلام لها ولو كان وحده كما فعل سيدنا إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. يقول أبوذكري في الخاطرة رقم 141 في زجر واضح قائلاً:

«ما أشد غرور وسخافة البشر؛ يسمون الشيء عدمًا لانعدام قدرتهم على إدراكه، وقد يكون عند خالقه سُبحانه وجودًا أكمل لا تُحيط قدراتنا بصفاته»

ولكنه زجر وتوبيخ لا ينفك عن الشفقة على بني البشر.

قد يُعاب على أبو ذكري استخدامه الكثير من الألفاظ والاصطلاحات التي لا يفهمها القارئ العادي والمتوسط في بعض الأحيان لارتباط الألفاظ والدلالات المستخدمة بسياقات فلسفية ومكونات حضارية لا يعلم عنها القارئ شيئًا فتضيع الغاية الأساسية من الكتاب ألا وهي «تعليمه التفكر، ومساعدته على تكوين ملكة للنظر والنقد والحكم» فعلى سبيل المثال يقول في الخاطرة رقم 242:

«تنشغل بعض الجماعات «الإسلامية» المُسلحة بُمحاربة العدو الداخلي، فتحذو في ذلك حذو مدرسة ما بعد الكولونيالية وسائر التيارات الرومانتيكية؛ في محاولة تطهيرها للواقع من العناصر «المعادية» لأيدلولوجيتها، وصولاً إلى «جحيم» الطوبيا المنشودة! على الجانب الآخر؛ نجد أن نبي الإسلام (صلى الله عليه وسلم) قد أمر بقبول علانية المنافقين وإيكال سرائرهم إلى الله حفاظًا على تركيبية المجتمع الإسلامي وتنوعه، والتي اقتضتها المشيئة الإلهية ابتداء، ربما لموافقتها لمغزى الكبد الإنساني داخل التاريخ بل لقد اقتضت المشيئة الإلهية عدم ملاحقة المنافق أو الكافر قضائيًا -باصطلاحنا المعاصر- إلا إذا ترتب عليه أثر مادي براني يمكن قياسه؛ تهديد النظام العام للمجتمع الإسلامي»

ففي المثال السابق كثير من الإصطلاحات المحملة بفلسفات ودلالات تحتاج لقارئ متوسط الثقافة لفكها مثل «ما بعد الكولونيالية – الرومانتيكية – الطوبيا – البرانية» وهذا ما قد يتعذر معه الفهم وخاصة أن الكاتب قد نوه أنه يستهدف تكوين ملكة التفكر للقارئ. فإذا كان القارئ لازال يحتاج لتكوين مثل هذه الملكة، فكان من الممكن إيراد مسردًا مبسطًا للمصلحات الفلسفية الورادة في الكتاب ويكون مرفقًا في آخره كما هو الحال في كتب د.عبد الوهاب المسيري على السبيل المثال.

وقد يكون الرد على هذه الحجة أن الكاتب يقوم بشرح مثل هذه المصطلحات ضمنًا في الخاطرة الوارد فيها المصطلح، بهذا لا تعوق عملية الفهم إضافة إلى أن تكوين ملكة التفكر قد تحدث لدى قارئ عنده قدر ليس بالهين من الثقافة ولكنه لم يمتلك بعد مثل هذه الملكة، يقول علي عزت بيجوفيتش في هذا السياق في «هروبي إلى الحرية»:

«إن القراءة المُبالَغ فيها لا تجعلنا أذكياء، بعض الناس يبتلعون الكتب و هم يفعلون ذلك بدون فاصل للتفكير، و لكن هذا الفاصل ضروري لكي يُهضم المقروء و يُبنى و يُتبنى و يُفهم … عندما يتحدث إليك الناس يخرجون من أفواههم قِطعاً من هيجل و هايدجر أو ماركس في حالة أوليه غير مصاغة جيداً … عند القراءة فإن المساهمة الشخصية ضرورية مثلما هو ضروري للنحلة العمل الداخلي و الزمن، لكي تحوّل رحيق الأزهار المتجمع إلى عسل»

وإذا كانت الفئة المستهدفة من هذا الكتاب هم هؤلاء فيكون إيراد مثل هذه المصطلحات لا غرابة فيه ولن يؤدي إلى الحول دون الغرض الذي كُتب الكتاب لأجله لأن هناك بونا شاسعا بين تعلم التفكر، والقراءة كمادة خام لمثل هذه العملية الشاقة والمرهقة لإنتاج رؤية يستطيع القارئ من خلالها تحويل الأفكار المتناثرة إلى فكر عضوي متناسق ومتكامل.

وختامًا إذا كان استلهام أبوذكري لبيجوفيتش قد تم على مستوى البنية والمضمون ولكنه شكل عملاً مستقلاً يأخذ الخصال الوراثية من أبيه دون التطابق معه أو اجترار ما قاله في قوالب لفظية جديدة. تجلى هذا في البنية المختلفة الأكثر حسية دون جمود والتي يمكن من خلالها تتبع آثار بيغوفيتش وغيره من المفكرين -كالمسيري مثلاً- على أبوذكري دون المساس بأصالة تجربته وذاتية رؤيته. ولقد نجح في التفلت من براثن الجمود والتي غالبًا ما يقع فيها من كان محملاً بترسانة معرفية ضخمة وذخيرة حية من المعلومات مثله. وفي ظني تأتى ثمار هذا النجاح من صميم ما حاول إيصاله لقارئه ألا وهو التفكر فيما قرأ ووعى ومكابدته ليصل به إلى هذا النضح.

والله من وراء القصد