في الأول من فبراير 2020 يستيقظ المواطنون البريطانيون على واقع جديد، إذ تدخل بريطانيا مرحلة مختلفة من تاريخها. يخطط رئيس الوزراء جونسون للاحتفال بهذا اليوم المجيد والذي يمثل الخروج الرسمي لبريطانيا من الاتحاد الأوروبي .

كثير من المياه قد جرت في نهر التايمز منذ إعلان نتيجة الاستفتاء في 23 يونيو 2016، في ذلك الاستفتاء صوت 51.9% من البريطانيين للخروج من الاتحاد الأوروبي. استطاع البريكست أن يصبح قلب النقاش السياسي في بريطانيا بل والعالم لفترة طويلة، تغيرت حكومتان بسبب البريكست، اكتسب حزب العمال الزخم، وعاد ليفقدة مرة أخرى.

كثير من النقاشات البرلمانية والمفاوضات واللقاءات تمت من أجل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، في النهاية تحدد 31 يناير 2020 ليكون اليوم الأخير لبريطانيا في الاتحاد، بعدها سيكون أمام حكومة المملكة المتحدة 11 شهراً من أجل إتمام إتفاقات متعددة تشمل الجوانب المتعلقة بحرية حركة البشر ورأس المال وقوانين الهجرة والعمالة وغيرها.

من المتوقع ألا يتغير الكثير في تلك الفترة الانتقالية التي تشمل 11 شهراً، لكن مع بداية 2021 من المتوقع أن تتوصل بريطانيا والاتحاد الأوروبي وتخرج بشكل صحيح من الاتحاد الأوروبي، أو لا تتوصل لإتفاق وتخرج دون إتفاق وهو ما يمكن أن يحمل تأثيرات سلبية على الاقتصاد البريطاني.

مستقبل ضبابي لاقتصاد رائج

لعقود طويلة كان الاقتصاد البريطاني واحداً من أقوى الاقتصادات في الاتحاد الأوروبي، فمنذ انضمام بريطانيا للاتحاد الأوروبي في 1973 أو ما كان يعرف حينها بالمجموعة الاقتصادية الأوروبية European Economic Community نما الاقتصاد البريطاني بشكل مطرد، تجاوز حتى في معدلات نموه نمو الاقتصاد الأمريكي في تلك الفترة، حيث نما الاقتصاد البريطاني في 45 عامًا بواقع 103% في حين نما الاقتصاد الأمريكي في نفس الفترة بواقع 97% .

وفي الفترة ما بين 1973 – 2016 نما متوسط الدخل السنوي للمواطن البريطاني بمقدار 79% في حين لم ينمُ هذا المتوسط إلا بـ16 % فقط في الولايات المتحدة، هنا ينبغي الإشارة إلى أن النمو الذي حققته بريطانيا كان إلى حد ما نموًا متكافئًا إذا ما قورن بنماذج تزداد فيها معدلات اللامساواة مثل الولايات المتحدة. 

لم يستطع ذلك النمو في الدخل، وتحسن مستويات المعيشة، أن يقنع البريطانيين بالتصويت لصالح خيار البقاء في استفتاء البريكست. هيمنت على الاستفتاء قضايا الهجرة والسيادة الوطنية في ظل المد الشعبوي الذي شهدته بريطانيا وتشهده السياسة العالمية اليوم.

يصعب في الوقت الحالي الجزم بمدى تأثر الاقتصاد البريطاني بالبريكست مستقبلاً، بشكل أساسي لأننا لا نعرف ما الذي سوف يحدث في المرحلة الانتقالية من اتفاقات مع الاتحاد الأوروبي وشركاء بريطانيا التجاريين الكبار خاصة الولايات المتحدة والصين. لكن ثمة الكثير من الدراسات التي تطرح تنبؤات بمدى أثر الخروج من الاتحاد الأوروبي على مختلف جوانب الاقتصاد البريطاني.

كساد التاجر البريطاني!

طوال سنوات وجود بريطانيا داخل الاتحاد الأوروبي زاد اعتماد الاقتصاد البريطاني بشكل كبير على التبادل التجاري، فقد نمت نسبة مساهمة التبادل التجاري في الناتج المحلي البريطاني من 48% عام 1973 إلى 67% عام 2016، واليوم تصدر بريطانيا ما يقارب من نصف صادراتها لدول الاتحاد الأوروبي، مستفيدة من منطقة التجارة الحرة بين دول الاتحاد.

بالتالي، من المرجح أن يتأثر الاقتصاد حال قررت بريطانيا فرض تعريفات جمركية على الواردات من دول الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي سوف ينعكس على قطاعات الصناعة المعتمدة على الواردات الزراعية ، ومن شأن ذلك أن يقلل من تنافسية الصادرات البريطانية في السوق الأوربي حال فرضت دول الاتحاد تعريفات جمركية مماثلة.

تختلف التقديرات بشكل كبير حول تأثير التعريفات الجمركية على التجارة مع  الاتحاد الأوروبي، وبالتالي على الاقتصاد البريطاني. تشير التقديرات إلى أن الاقتصاد البريطاني سوف ينكمش بما يقارب 2.9% إذا كانت التعريفات الجمركية بينه وبين دول الاتحاد الأوروبي نحو 10% في المتوسط، وهو المتوسط العالمي للدول في منظمة التجارة العالمية، لكن إذا بقيت بريطانيا عضوًا في المنطقة الاقتصادية الأوروبية، أي أنها تستفيد من التعريفات الجمركية المنخفضة، فإن هذا الانكماش سوف يصبح 1.5% من الناتج المحلي.

ما يدعم تلك التوقعات هو محاولة الحكومة البريطانية الحثيثة إبرام اتفاقات تجارية مشتركة مع الولايات المتحدة والصين، لتفادي الأثر السلبي لتباطؤ التبادل التجاري مع الاتحاد الأوروبي. تقدر دراسة مسربة قامت بها الحكومة البريطانية أنه من شأن اتفاق تجاري مع الولايات المتحدة بتعريفات جمركية أقل أن يضيف 0.3% للناتج المحلي البريطاني، وأن من شأن اتفاقات تجارية أخرى مع كندا وأستراليا والصين والهند أن تضيف 0.4% أخرى للناتج المحلي البريطاني.

هل تفقد لندن مكانتها المالية؟

لن يؤثر الخروج من الاتحاد الأوروبي فقط على التجارة ،لكن على القطاع المالي في بريطانيا أيضا. خلال العقدين الماضيين، ومن خلال النمو الهائل الذي شهده القطاع المالي، احتلت بورصة لندن مكانة متقدمة بين بورصات العالم، إذ تعتبر بورصة لندن اليوم البورصة الأهم في العالم بعد نيويورك.

لكن كل هذا قد يتغير خلال السنوات القادمة، فبعد استفتاء البريكست في 2016 نقلت أكثر من 300 شركة تعمل في القطاع المالي في لندن مقراتها لدول أوروبية أخري . تشير إحدى التقديرات أن حوالي 1 تريليون دولار من الأصول ستغادر بريطانيا مع تلك الشركات . 

اعتمد القطاع المالي البريطاني طوال العشرين سنة الأخيرة ، علي قدرة لندن علي جذب المزيد والمزيد من الشركات الكبرى والبنوك وبالتالي استمرار الازدهار والانتعاش في بورصة لندن. كان رجال الأعمال من فرنسا وإيطاليا والصين، وغيرها من المراكز الاقتصادية الهامة في العالم، يلتقون في لندن التي  تمتلك بنية تحتية مالية وتكنولوجية جيدة تمكنها من أن تكون بيئة حاضنة لقطاع مالي قوي.

لكن هذا القطاع يعتمد في جزء كبير منه علي موظفين غير بريطانيين، وهو ما يمثل تحديا للشركات إذا قررت بريطانيا فرض رقابة على تصاريح العمل أو قواعد التأشيرات للمواطنين الأوروبيين فيها. 

ثمة دعاوى كثيرة حول قدرة القطاع المالي في بريطانيا على التعافي على المدى الطويل، والاستمرار كقطاع رائد في العالم، حال تحولت بريطانيا إلى ملاذ ضريبي بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي.

تفترض تلك التنبؤات أن لدى الحكومة البريطانية، نية مسبقة في فعل ذلك عبر تقليل معدلات الضريبة وبالتالي جذب المزيد من الاستثمارات. لكن في حال ضغط رجال القطاع المالي واسعو النفوذ والمقربين من قيادة حزب المحافظين الحاكم، لخفض معدلات الضرائب، كيف ستتمكن الحكومة من التوسع في تمويل برامج الدعم الاجتماعي، وعلى رأسها الصحة والتعليم، الأمر الذي مثل أحد الوعود الأساسية لمناصري البريكست.
  

كيف سيتأثر الناس؟

من المتوقع أن يقود خروج المملكة المتحدة دون اتفاق تجاري جديد مع الاتحاد الأوروبي إلى نتائج سيئة مباشرة، على الأقل على المدى القصير. تشير التقديرات إلى أن ذلك من الممكن أن يرفع التضخم، والذي شهد زيادة كبيرة بعد استفتاء 2016 وصلت لـ2.8% في نهاية 2017.

من شأن زيادة معدلات التضخم أن يدفع بنك إنجلترا لرفع أسعار الفائدة، وهو ما قد يعني المزيد من الركود في الاقتصاد البريطاني خاصة مع تشاؤم التوقعات لنمو الاقتصاد العالمي في الفترة المقبلة. من شأن هذا التضخم أن يؤثر أيضا على الفئات الأكثر فقرًا في بريطانيا، خاصة مع زيادة أسعار السلع الأساسية. 

بعيدًا حتى عن التضخم، من المتوقع أن ترتفع  معدلات البطالة في بريطانيا إذا خرجت دون اتفاق مع الاتحاد الأوروبي، وعلى الرغم من أن الاقتصاد البريطاني لم تتضرر معدلات التوظيف فيه حتى الآن بسبب البريكست، فإن الكثير من التحليلات تشير إلى أن تأثير خروج الشركات من بريطانيا وتراجع الاستثمار الأجنبي المباشر قد يؤثر على معدلات التوظيف.

تشير معظم التحليلات إلى أن القرار الذي اتخذه المواطنون البريطانيون في يونيو 2016 بالخروج من الاتحاد الأوروبي كان قرارًا سيئًا من الناحية الاقتصادية، لكن في أحيان كثيرة لا يفهم الناخبون كل تلك التعقيدات الاقتصادية، وهو ما جعل الحملات الداعية للبريكست تركز على الجوانب غير الاقتصادية مثل الهجرة والسيادة الوطنية. 

في النهاية يمكن القول إن البريكست وغيرها من تجليات صعود اليمين الشعبوي والتي يطرح في خطابه نزعات مضادة للعولمة هي بداية لعالم جديد يتشكل بفعل الموقف من نتائج العولمة الاقتصادية، والتي يعيش العالم في مرحلتها النيوليبرالية منذ ثمانينيات القرن الماضي، وهي مرحلة، لسخرية القدر، كان لبريطانيا دور تاريخي كبير في إقحام العالم فيها.