تولى المنصور قلاوون بن عبد الله التركي السلطنة المملوكية خلفًا لابني السلطان الظاهر ركن الدين بيبرس في سنة 678هـ واستمر في منصبه ذاك حتى توفي أثناء استعداده لاسترداد عكّا –آخر معاقل الصليبيين في بلاد الشام آنذاك– في شوال سنة 689هـ، وفي تلك السلطنة التي دامت إحدى عشرة سنة سارت الدولة المملوكية على ذات القوة التي اتصفت بها في عصري المظفّر قطز والظاهر بيبرس من قبل، فعلى صعيد الشأن الداخلي؛ استتبت الأحوال الاقتصادية والسياسية والأمنية في مصر والشام والحجاز، وعلى صعيد العلاقات الخارجية ازدهرت التجارة –التي كان المماليك عمادها بحكم الموقع الجغرافي والقوة العسكرية– مع القوى الاقتصادية في البحر المتوسط مثل الدولة البيزنطية وجمهوريات إيطاليا المستقلة وممالك إسبانيا الشمالية، فضلاً عن العلاقات الراسخة مع دول العالم الإسلامي القوية آنذاك في كل من الهند واليمن والمغرب، وكذلك ممالك أفريقيا كالحبشة ومالي وغيرها.

وفي ظل هذه القوة الجيوستراتيجية والاقتصادية التي تمتّع بها المماليك، حفلت خزائن الدولة عند السلاطين العظام وعلى رأسهم المنصور قلاوون – مؤسس الدولة القلاوونية التي استمرت ما يزيد على القرن بقليل – بالغنى والثروة، ويعد انتشار العمائر المملوكية في القاهرة ودمشق وطرابلس الشام والقدس وغزة وغيرها من المناطق التي خضعت لها حتى اليوم دليلاً على المكانة الاقتصادية والسياسية القوية التي اتسمت بها هذه الدولة في عصر المماليك البحرية خاصة.

ويعد البيمارستان أو المستشفى المنصوري درة من دُرر العمارة المملوكية التي لا تزال شاهدة على عظمة والباني؛ فلقد أراد المنصور قلاوون إنشاء مبرة خيرية في القاهرة عاصمة المماليك يعمّ نفعها جميع المسلمين دون تغريمهم شيئًا.

وتعددت الروايات التاريخية التي تناولت الأسباب التي دفعت السلطان قلاوون إلى ذلك، فمن قائل أنه مرض سنة 675هـ فانتفع بأدوية من البيمارستان النوري الذي أنشأه نور الدين زنكي في دمشق، ومن قائل أنه أراد إنشاء عمل خيّر كصدقة جارية لولده ولي العهد الصالح علاء الدين علي الذي توفي في حياة قلاوون سنة 682هـ [1].

وأيًا ما كان السبب الذي دعاه إلى ذلك؛ فقد تم اختيار الموضع المحدد في قلب القاهرة، وبالتحديد الدار الُقطبية، وقد كانت إحدى المباني الكبيرة التي خُصّصت لسُكنى بعض الأفراد من الأسرة الأيوبية، وكانت قبل ذلك دار الأميرة الفاطمية ست الملك أخت الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله، وبعد التفاوض مع المالكة مؤنسة خاتون الأيوبية، تم إعطاؤها الثمن المطلوب، وتعويضها بدار أنيقة هي قصر الزمرد بالقرب من رحبة باب العيد في شمال القاهرة آنذاك.

كانت الخطة الموضوعة لهذا البناء المجمّع تتمثل في إنشاء مستشفى «بيمارستان» لكافة التخصصات، وصيدلية كبيرة بها كافة الأدوية والعقاقير يمكن أن تكون أقرب لمصنع أدوية إن صح توصيفنا، وقبة مخصصة لحفظ القرآن الكريم، ومدرسة لتعليم العلوم الشرعية والطبية، وسبيل ماء للمارين، فضلاً عن المنشآت الخدمية التي تخدم هذه المنشآت الأساسية من مطابخ وحمامات وغير ذلك، كل هذا من مال السلطان قلاوون شخصيًا [2].

وبعد الانتهاء من هذا البناء الضخم، كان لابد من وجود المال الكافي لتمويل المشروعات الطبية والعلاجية والتعليمية، فأوقف السلطان قلاوون شيئًا كثيرًا من أملاكه في الشام ومصر، بعضها حوانيت وبعضها رباع وبعضها قياسر[3] وبعضها فنادق وأحكار[4] فضلاً عن القرى والضياع.

ثم بعد ذلك قرر السلطان قلاوون أن ينتفع الناس غنيهم وفقيرهم بخدمات هذه المنشأة التعليمية والطبية العظيمة بالمجان، فجعله وقفًا، والوقف كما هو معلوم تحبيس الأصل بحيث لا يقدر أحد على بيعها أو التصرف فيها، وتسبيل المنفعة بحيث يستفيد منها الجميع.

فـأوقفه السلطان على الملك والمملوك، والجندي والأمير والوزير، والكبير والصغير، والحر والعبد، والذكر والأنثى. وجعل لمن يخرج منه، من المرضى، عند برئه كسوة. ومن مات جهّزه، وكفن ودفن. ورتب فيه الحكما، الطبائعية[5] والكحالين[6] والجرائحية[7] والمجبّرين[8]، لمعالجة الرمدى والمرضى والمجرحين والمكسورين من الرجال والنساء. ورتب[9] به الفراشين والفراشات، والقَوَمة لخدمة المرضى، وإصلاح أماكنهم وتنظيفها، وغسل ثيابهم، وخدمتهم في الحمام. وقرّر لهم على ذلك، الجامكيات[10] الوافرة. وعُملت النخوت والفرش والطراريح والأنطاع والمخدات واللحف والملاوات لكل مريض فرش كامل. وأُفرد لكل طائفة من المرضى أمكنة تختصُّ بهم. فجعلت الأواوين الأربعة المتقابلة للمرضى بالحميات وغيرها، وجُعلت قاعة للرمدى، وقاعة للجرحاء، وقاعة لمن أفرط به الاصهال، وقاعة للنساء، ومكان حسن للممرورين[11] من الرجال ومثله للنساء، والمياه تجرى فى أكثر هذه الأماكن. وأفردت أماكن. لطبخ الطعام، والأشربة والأدوية، والمعاجين وتركيب الأكحال … وعمل المراهم والأدهان، وتركيب الترياقات[12]، وأماكن لحواصل العقاقير، وغيرها من هذه الأصناف المذكورة. ومكان يفرّق منه الشراب. وغير ذلك من جميع ما يحتاج إليه. ورتب فيه مكان يجلس فيه رئيس الأطباء، لإلقاء درس طب، ينتفع به الطلبة، ولم يحصر السلطان، أثابه الله، هذا المكان المبارك بعده في المرضى، يقف عندها المباشر[13]، ويمنع من عداها، بل جعله سبيلا، لكل من يصل إليه، في سائر الأوقات، من غنى وفقير. ولم يقتصر أيضا فيه، على من يقيم به للمرضى، بل يرتب لمن يطلب وهو في منزله ما يحتاج إليه، من الأشربة والأغذية والأدوية، حتى أن هؤلاء زادوا في وقت من الأوقات، على ما تبين، غير من هو مقيم بالبيمارستان[14].

هذا الوصف التفصيلي لتلك المؤسسة التي بُنيت في الثلث الأخير من القرن السابع الهجري، الموافق الثلث الأخير من القرن الثالث عشر الميلادي، يكشف إلى أي مدى وصلت الحضارة الإسلامية في رقيها وتنظيمها وشأوها، ونتيجة لعظمة هذه المنشأة آنذاك؛ فقد تمتّع مديرها أو ناظرُها بالمكانة الكبرى في الدولة المملوكية على المستويين المالي والسياسي، يقول القلقشندي: «ونظرُهُ (أي البيمارستان) رتبة سنية، يتولاه الوزراء ومن في معناهم»[15].

ومنذ ذلك التاريخ ظهرت وظيفة «نظر البيمارستان» أي القائم على جميع شئون البيمارستان المنصوري، «وهي من أجلّ الوظائف وأعلاها؛ وعادةُ النظر [16] فيه من أصحاب السيوف لأكبر الأمراء بالديار المصرية»[17].

لقد كان المؤرخ والكاتب الموسوعي أحمد بن عبد الوهاب النويري (ت733هـ) أحد كبار الموظفين في البيمارستان المنصوري في الفترة ما بين شوال سنة 703هـ إلى آخر رمضان سنة 707هـ، وقد ذكر لنا – كشاهد عيان وأحد الموظفين المهمين – بالتفصيل الكميات الهائلة التي كانت تُصرف على المرضي والزّمنى من الأدوية والعقاقير والطعام والأكسية بل والأموال في بعض الأحيان، كما ذكر أنواع وأصحاب الوظائف من المحاسبين والمشتروات ومشرفي البناء والعمارة وغيرهم في وصف مهم ونادر لمنشأة خدمية كبرى في الحضارة الإسلامية كالبيمارستان المنصوري [18].

ونتيجة لهذا البناء العظيم ووظيفته المهمة، أطنب المؤرخون والرحالة في وصف محاسن البيمارستان المنصوري، فيقول الرحالة المغربي الشهير ابن بطوطة (ت779هـ) وقد مرّ به في حدود سنة 726هـ:

وأما المارستان الذي بين القصرين عند تُربة الملك المنصور قلاوون فيعجزُ الواصفُ عن محاسنِه، وقد أعد فيه من المرافق والأدوية ما لا يُحصر، ويُذكر أن مجباه ألف دينارٍ[19] كل يوم [20].

وقال الكاتب والمؤرخ ابن فضل الله العمري (ت749هـ) في «مسالك الأبصار» عن البيمارستان المنصوري بأنه:

المعدوم النظير لعظمة بنائه، وكثرة أوقافه، وسعة إنفاقه، وتنوع الأطباء وأهل الكحل والجراح به، وهو جليل المقدار، جميل الآثار، جزيل الإيثار [21].

ولقد تناولت الدكتورة حياة الحجي البيمارستان المنصوري في دراسة مستفيضة قيّمة في كتابها «صور من الحضارة العربية الإسلامية في سلطنة المماليك»، معتمدة على ما ذكره المؤرخون والرحالة وكُتّاب الموسوعات، وكذلك تناول الدكتور محمد محمد أمين دراسة وقفيات المنصور قلاوون في ملحق الجزء الأول من تحقيقه لكتاب المؤرخ عمر بن حبيب الحلبي «تذكرة النبيه في أيام المنصور وبنيه»، والمتعلقة بالبيمارستان المنصوري، وهي وثائق عُثر عليها في دور الوثائق والمحفوظات القومية. ومن خلال الدراستين؛ الوثائقية والتاريخية تتجلى لنا روعة وأهمية هذه المنشأة العظيمة من منشآت الدولة المملوكية بل الحضارة الإسلامية في ذلك العصر التليد!


[1] خطط المقريزي 4/ 268.[2] النويري: نهاية الأرب 31/ 106.[3] القياسر جمع قيسارية، وهي الخان الكبير الذي يشغله مجموعة من التجار وسُمي في أواخر عصر المماليك بالوكالة.[4] الأحكار جمع حكر، وهي العقارات أو الأراضي المحبوسة لغرض البناء أو الانتفاع.[5] الطبيب العام. انظر: ابن القيم: زاد المعاد 4/ 130.[6] أطباء العيون.[7] أطباء الجراحة.[8] أطباء العظام.[9] عيّن ووظّف.[10] المرتبات الجزيلة.[11] المصابون بالمرارة وأمراض الكبد. المعجم الوسيط 2/ 862.[12] الأمصال التي تعالج السموم.[13] المباشر: الموظف.[14] النويري: نهاية الأرب 31/ 107، 108.[15] القلقشندي: صبح الأعشى 3/ 418.[16] الإشراف والإدارة.[17] القلقشندي: صبح الأعشى 4/ 39، 40.[18] النويري: نهاية الأرب 31/ 109 وما بعدها.[19] ما يقارب ال150 ألف دولار بأسعار اليوم!![20] رحلة ابن بطوطة 1/ 203.[21] ابن فضل الله العمري: مسالك الأبصار في ممالك الأمصار 4/ 424.