هل من الممكن وصف عمل فني ما في وقتنا الحالي بالأصالة؟

يصعب الجزم بإمكانية ذلك خصوصاً في الأعمال البصرية الاستهلاكية التي تعتمد على سمات معينة محددة مسبقاً لجذب نوع معين من الجماهير، بل إن مفهوم الأصالة نفسه لم يعد يملك الثقل الذي امتلكه سابقاً، فنحن نعيش في عالم ما بعد حداثي تختلط به الرموز والعلامات التجارية والجماليات المختلفة والفترات الزمنية لتكون عملاً واحداً، لا يعد ذلك اكتشافاً جديداً، فالأعمال الفنية خصوصاً التجارية في السينما أو التلفزيون تقتبس وتصنع قصاصات من الجماليات والأفكار منذ التسعينيات أو قبلها، يمكن تحديد التاريخ الأهم لفهم طبيعة الأعمال المعاصرة بعام 1994 عندما صنع كوينتن تارنتينو فيلمه الأشهر خيال رخيص Pulp Fiction الذي موه الخط الفاصل بين ما هو سرقة وما هو تأثر بالأعمال الأخرى، يقع الفيلم في عالم سائل من الاقتباسات والاستدعاءات من تاريخ السينما وتاريخ الثقافة الشعبية من الموسيقى القديمة إلى أفلام الستينيات، لكن النقطة الرئيسية في طبيعة الصناعة الفنية في عصر لا يهتم بالأصالة أو لم يعد هناك ما يبتكره بعد أعوام من الابتكار هي الاستقاء من مصادر متعددة ومختلفة، الانغماس في مشاهدة وسماع منتجات ثقافية من أوقات مختلفة ذات جماليات مختلفة والخروج منها بمزيج هجين من تلك الخبرات.

منذ أيام انتهى عرض حلقات مسلسل بيمبو المعروض على منصة شاهد، ابتكر فكرة المسلسل محمد أديب وأشرف عليها المخرج عمرو سلامة وهو الذي مع كل عمل يقسم حوله آراء المشاهدين والنقاد، والسبب بشكل رئيسي هو تحدثه عن أعماله على مواقع التواصل الاجتماعي ومحاولة شرح نواياه أو فلسفته وتجربته، أول ما يلفت النظر في بيمبو وأول ما تم التسويق له هو استخدامه قائمة أغنيات من الثمانينيات والتسعينيات، لكن فريق العمل والممثلين وطبيعة القصة تنحو أكثر نحو جذب سن لم يعاصر تلك الأغنيات وتلك الثقافة، شباب من عمر خمسة عشر حتى العشرين تقريباً وربما أكبر فاختيار الممثلين منغمس في تلك الثقافة «الانستجرامية» مع ضيوف شرف من عارضات الأزياء والمؤثرين الرقميين، كما أن الحبكة الرئيسية تملك شريراً يسمي نفسه «سفاح الانفلونسرز» أي المؤثرين، فكيف يعمل ذلك المزج لصالح أو ضد المسلسل؟

النوستالجيا وثقافة الشباب

تميل الثقافة البصرية والسمعية الحالية لدمج عناصر من عقود مختلفة لا يتعلق الأمر بشكل رئيسي بالنوستالجيا بقدر ما يتعلق بدورة الموضات أو الصيحات Trend Cycle التي تعيد مثلاً أزياء عام 2000 إلى عام 2021 و2022 كما أن جمالية النوستالجيا التي تستدعي باليتات لونية من ملابس نهاية الثمانينيات وبداية السبعينيات وشرائط الكاسيت ومطربين مثل هشام عباس وحميد الشاعري وبدلات الرياضة اللامعة الملونة وكاميرات الفيلم الخام تملك رواجاً بين الأجيال الأصغر وليس ذلك لأسباب عاطفية لأنهم لم يعاصروا تلك الصيحات بل لأنها تمثل ما هو عصري ومثير للاهتمام أو بلفظ أدق يصعب ترجمته للعربية «كول Cool»، أي رائع ورائج، انتشرت تلك الجماليات في الإعلانات التلفزيونية مؤخراً متأثرة بأساليب مخرجين مثل ويز أندرسون وروي أندرسون وآكي كوريزماكي، أصبح الرائج هو استدعاء ما لم يكن رائعاً في وقته لكن دورة الصيحات جعلته رائعاً الآن، النظارات الضخمة على سبيل المثال التي كانت محل سخرية في الماضي، أما الآن فيتم وصفها بالأثري Vintage أو Retro.

يتبنى بيمبو مزيجاً من الجماليات المعاصرة والقديمة ويركز على ذلك من خلال استخدام الموسيقى، يجعل من أغنية شوفي لهشام عباس تيمة رئيسية ويصنع عليها تنويعات كل حلقة كما يضم شريط الصوت أغنيات لحميد الشاعري ومحمد منير وغيرهما، وهو ما يمثل ارتباكاً فيما يخص الاختيار الزمني للجماليات، يستدعي العمل كذلك بصريات ألعاب الفيديو وأحياناً أصواتهاً، لكن ليست الألعاب المعاصرة بل الألعاب القديمة التي يمكن رؤيتها في صالة ألعاب Arcade، يتم استدعاء تلك الأفكار البصرية من حين لآخر لكن من دون التزام حقيقي بها فتظهر حيناً وتختفي حيناً.

أحمد مالك وويجز في مسلسل بيمبو

يقبع تحت ذلك الصخب من الأساليب المختلفة والخيارات الجمالية قصة بسيطة لكنها مرتبكة، مجموعة شباب عشرينيين يتوسطهم البطل بيمبو (أحمد مالك) تاجر المخدرات الخجول المرتبك الذي يعكر صفو استقرار حياته اختفاء فتاة لا يعرفها لكنها صديقة للفتاة محط إعجابه لانا (هدى المفتي) يشاركه البحث صديق ظهر في حياته فجأة يدعى جابر (ويجز) في أول أدواره التمثيلية وأحد أخف الظهورات في المسلسل، معاً يحاولان كشف سر ذلك الاختفاء، والتحقيق في جريمة قتل وقعت في حفل صاخب، وتحت كل تلك التفاصيل المتناثرة يتم إلقاء دعابات وجودية من نوعية «لماذا نحن هنا» مع الإحالة لألبير كامو مما ينذر بأن يكون المسلسل وعملية البحث من دون معنى حقيقي أو أن البحث ما هو إلا عملية بحث عن الذات، لكن في النهاية لا يستطيع العمل التمسك بتلك الفكرة بل يقع في تقليدية إرساء المعاني التي تتعلق بطفولة البطل، ولماذا أصبح ما هو عليه وأنه يجب أن يحارب لأجل ما يحب ويجب أن ينتصر ويحمي مكتسباته، كما أنه ينغمس في زرع التواءة حبكة مقحمة تحيل إلى قصة خلفية لبطل آخر وتأثير طفولته الصعبة عليه وخذلان أهله له.

إذن فتحت كل تلك الطبقات من النيون والألوان والصخب والموسيقى والملابس نحن أمام حبكة تقليدية عن شاب يحاول أن يجد نفسه ويقع في الحب ويكسب القضية والفتاة، لكن لسبب ما يطرح العمل علينا بيمبو كأنه ذلك الشخص العبقري الذي لا يعلم أحد قدره الحقيقي وأنه تورط في عالم الممنوعات على الرغم من إمكانياته الكبيرة لكن لا توجد أي أدلة على ذلك ولا أسباب حقيقية تشجعنا على تشجيعه في رحلة نضوجه تلك، يملك بيمبو محتوى هشاً متخبطاً لا يمكن تصور وجوده دون ما يشتت عنه أي بصخب الأسلوبية غير المستقرة وتلك الأسلوبية الواضحة لا تعوض عن قابلية المحتوى للنسيان ولا تملك ما يجعلها تقف بذاتها كإنجاز تقني وجمالي.

موت الأصالة أو كيف نقتبس؟

وبالرجوع إلى طبيعة المحتوى المعاصر المنغمس في بحر من التأثيرات والجماليات فإن عمرو سلامة يستقي بالطبع من آخرين مثله مثل أي مخرج معاصر، لكنه يفعل ذلك بعدما بلور الآخرون أسلوبيتهم الخاصة، فيبدو الأمر كما لو كان يستخدم ما توصلوا إليه بشكل جاهز، كما أنه لا يستقر على جمالية معينة في خلال مسيرته، ففي البداية امتلك شغفاً بالمخرج الشهير ويز اندرسون وهو أحد أشهر الفنانين الذين يعلون قيمة البصريات فوق كل شيء آخر ويملك أسلوباً سوف تعرفه من نظرة واحدة كما أنه أحد أكثر المخرجين المعاصرين تأثيراً وتعرضاً للاقتباس والتقليد في الإعلانات التلفزيونية وفي تصميمات الجرافيك، ظهر ذلك التأثير في أعمال سلامة مثل «لا مؤاخذة» 2014 و«صنع في مصر» في العام ذاته ربما بشكل أكثر وضوحاً.

لكنه في بيمبو اتجه إلى مخرج معاصر آخر وهو إدجار رايت، وبخاصة فيلمه الشهير الصادر عام 2010 «سكوت بيلجريم» في مواجهة العالم Scott Pilgrim vs The World ، الذي يقتبس رواية مصورة تتسم باستخدامها لجماليات ألعاب الفيديو خصوصاً القديم منها، يتبنى سكوت بيلجريم تلك الأسلوبية بشكل كامل فنرى القتالات بين الأطراف المختلفة في صورة مواجهة رقمية أو عندما يركل أحدهم آخر ينفجر وتتناثر منه العملات المعدنية، كما يملك الفيلم أسلوب رايت المميز في الكوميديا البصرية من القطعات المونتاجية السريعة والكتابة على الشاشة، يتبنى سلامة بمشاركة المخرج عمر رشدي جماليات الفيلم واحدة تلو الأخرى لكن من دون التزام حقيقي بأي منها ففي بعض الحلقات يتم التركيز على القطعات المونتاجية السريعة التي يشتهر بها رايت وفي أخرى نسمع موسيقى مشابهة لتلك في العاب الفيديو الأثرية كما أن شخصية الشرير مستر كاش (محمد لطفي) مشابهة لحد كبير لشخصية جيديون في سكوت بيلجريم حتى في إرساء طبيعة المواجهات شكلياً والألوان المستخدمة في المشاهد التي يوجد بها.

مشهد من مسلسل بيمبو
مشهد من Scott Pilgrim vs The World

كل من إدجار رايت وويز أندرسون مخرجان بصريان بشكل أساسي لكنهما يمضيان فترة تحضيرهما في استقاء تلك الجماليات التي تجعل من أساليبهما ما يمكن تسميته أصيلاً على الرغم من استخدامهما عناصر النوستالجيا وتأثرهما بمخرجين وفنانين بصريين بل وبفنون أخرى أقدم، في بيمبو لا يوجد ذلك المزج أو الشعور إنه نتاج مشاهدات وتأثيرات مختلفة، إلا في كون الشريط الصوتي مصري بالكامل كما أن ذلك الخيار لا يمثل إضافة مثيرة أو جمالية مختلفة عما نراه في الإعلانات المصرية كل يوم في التلفزيون، لكن التنويعات الموسيقية المستخدمة على أغنية شوفي التي لحنها في الأصل رياض الهمشري، وأضاف عليها المؤلف ساري هاني تنويعات ذكية ترسي أجواء المسلسل بشكل جيد، وكان من الممكن الاكتفاء بتلك الأغنية والتنويعات كتيمة رئيسية في المسلسل لأن كل ما تم استخدامه لم يمتلك التأثير نفسه، ذلك إضافة لاستخدام موسيقى من الثقافة الشعبية مثل الضوء الشارد أو المال والبنون للتأثير الكوميدي الذي ينجح أحياناً بينما يأتي مبتذلاً في أحيان أخرى.

يتأرجح العمل بين نقد ثقافة الإنترنت والانغماس بها، فتعتمد الكوميديا الرئيسية فيه على السخرية من مؤثرين مواقع التواصل الاجتماعي الفارغين روحيا الذين لا يهتمون بشيء غير القبول الوهمي من مجموعة من المتابعين الذين لا يعرفونهم، لكنه في النهاية مصنوع لهم ومنهم، يمكنك بسهولة توقع من سوف تراه على الشاشة في المشهد التالي ففريق العمل كله من مجموعة من المؤثرين على تلك المواقع حتى الممثلين المحترفين منهم، وينتمي معظمهم لطبقة محددة جداً من مجتمع فسيح، يعتمد الحوار في العمل كله على تلك الطبقة الاجتماعية المحدودة ونكاتها الداخلية التي سوف تترك الأغلبية من الناس على غير دراية بمكان النكتة، وبجانب الكوميديا الآنية المتعلقة بلغة هجينة من الإنجليزية والعربية المرتبطة بالطبقة العليا فهنالك الكوميديا النوستالجية وتلك يمكن توقعها قبل أن يتلفظ بها قائلوها، فهنالك كشك وشخصية باسم بيبمو وأخرى باسم شمعدان وشخص غامض يدعى كيتو، هل يمكنك توقع ما هو اسمه بالكامل؟

بعد عرض المسلسل وتصدره مشاهدات منصة شاهد، نشر المشرف الإبداعي عليه عمرو سلامة على صفحته الرسمية أنه سعيد باستساغة الجمهور «لمحاولاته» الكوميدية، و«محاولاته» السردية، وتصدره لقوائم مشاهدات شاهد.

ربما في ذلك الوصف الذي يُستخدم لإضفاء تواضع على النجاح تكمن المشكلة، يبدو بيمبو كمحاولة لصنع شيء ما لكنها غير مكتملة، هو مجموعة تجارب عشوائية صادرة عن مشاهدات محدودة لوسائط بصرية وسمعية لكنه ليس ثورياً كما يعتقد على الرغم من امتلاكه لإمكانية أن يكون كذلك.