في حالة من الصدمة تلقت الأوساط السياسية والاقتصادية العالمية قرارًا هو الأول من نوعه في المملكة العربية السعودية، توقيف عشرات من كبار المسئولين في البلاد ونخب رجال الأعمال عن العمل ومصادرة ممتلكاتهم تحت راية مكافحة الفساد.

وعلى الرغم من أهمية مكافحة الفساد بالنسبة لاقتصاد يعاني حاليًا من العديد من نقاط الضعف، ترهق قدرته على مواصلة النمو المستدام، فهناك من ينظر لتلك القرارات على أنها مجرد اعتقال لكبار رجال الأعمال والساسة من أجل الاستيلاء على مليارات الدولارات من أموالهم، كذلك يرون أن ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان، يستخدم تلك الحملة ليثبت للعالم أجمع أن السعودية دولة اتخذت إجراءات قوية لتطهير عمليات الكسب غير المشروع، ومن ثَمَّ تستحق دفعة كبيرة من الاستثمارات الأجنبية.

بعبارة أخرى، يُنظر إلى حملة الاعتقالات باعتبارها وسيلة للقضاء على المنافسين وتعزيز سلطة الأمير الشاب، وفرصة لإعادة ملء خزائن البلاد، في وقت يحاول فيه بن سلمان تحديث الاقتصاد السعودي الراكد وتقليص اعتماده شبه الكامل على النفط. وكذلك السيطرة على أجزاء رئيسية من الاقتصاد السعودي باعتبار أن عددًا من المُعتقلين كانوا يشكلون تهديدًا لخطة بن سلمان الإصلاحية.


الاقتصاد محور الاعتقالات

يقود محمد بن سلمان خطة إصلاح اقتصادية لتقليل اعتماد اقتصاد المملكة على النفط، تُعرف برؤية السعودية 2030. وفي إطار تنفيذ الخطة أمر بن سلمان بحبس أمراء ووزراء بتهم فساد واستغلال للسلطة، ويعود ذلك الأمر إلى حد كبير إلى أسباب اقتصادية.

فمكافحة الفساد ترتبط بصورة مباشرة بحالة المملكة الاقتصادية الصعبة، وهي حاجة ملحة للقيام بإصلاحات تهدف إلى توفير المزيد من الأموال اللازمة لدعم الموازنة العام للبلاد. وفي الوقت نفسه، تحتاج السلطات السعودية، في إطار زيادة مصادر الإيرادات غير النفطية، إلى فرض ضرائب لم تكن معتادة في المملكة. كما امتدت الإجراءات التقشفية في البلاد إلى رفع الدعم عن أسعار المحروقات التي اعتاد الشارع السعودي الحصول عليها بمقابل أقل من ثمن مياه الشرب.

أي أن الحكومة مُضطرة في الوقت الراهن إلى إجراء إصلاحات بطبيعتها لا تحظى بقبول المواطن السعودي الذي اعتاد على حياة الرفاه الاجتماعي. لذلك، سيكون من المهم لمحمد بن سلمان أن يتخذ مثل تلك الإجراءات التي تثبت أن الإصلاحات هي بصورة أساسية في خدمة المواطن، لذا قام بالقبض على من يشتبه بهم في أعمال الفساد.


قرارات بن سلمان ورؤية 2030

قد يرى البعض أن محمد بن سلمان على وشك أن يكون مصلحًا حقيقيًا للأحوال الاقتصادية في البلاد، ولكن المخاوف السياسية والاجتماعية ترتفع في هذا النطاق، فقد قضى السعوديون عقودًا طويلة من التمتع بمزايا الرعاية الاجتماعية، التي استخدمها القادة للحفاظ على المعارضة السياسية في البلاد عند الحد الأدنى المقبول.

لكن لم يعد ذلك ممكنًا مع تراجع أسعار النفط العالمية لنحو 60 دولارًا للبرميل، الأمر الذي أدى إلى تبني رؤية جديدة للملكة، عُرفت برؤية 2030، التي تشمل التنويع بعيدًا عن النفط، متضمنة بيعًا بنسبة 5٪ من شركة أرامكو السعودية، وهي شركة نفط الدولة السعودية التي تُقدر قيمتها بمبلغ تريليوني دولار.

وطرح نسبة من أرامكو للبيع كان الأمل منه جمع نحو 100 مليار دولار، ولكن يُنظر إلى ذلك باعتباره تقديرًا مُفرطًا في التفاؤل، ومن المرجح أن يكون الرقم أقرب إلى 65 مليار دولار، بل من الممكن أن يكون أقل من ذلك، وربما تفشل الصفقة في ظل القرارات الأخيرة التي شملت اعتقال وزير الدولة وعضو مجلس إدارة شركة أرامكو، إبراهيم العساف، كما تم اعتقال وزير الاقتصاد والتخطيط عادل بن محمد فقيه، وهو أمر يُقلل من ثقة المستثمرين في إمكانية التحكم في نسبة الـ 5% المطروحة للبيع.

والسؤال الأهم هنا: هل تُمكن قرارات الاعتقال والمصادرة بن سلمان من تنفيذ خطة 2030؟

في الحقيقة يعاني الاقتصاد السعودي من أزمة اقتصادية حقيقية في ضوء عجز الموازنة المالي، وفي وقت تتراجع فيه الاحتياطات المالية السيادية إلى أقل من 500 مليار دولار، بينما من المتوقع أن تتزايد حركة هروب رؤوس الأموال من البلاد بعد الاعتقالات الأخيرة.

وعلى الجانب الآخر، قد تصل أموال الفساد في السعودية إلى مئات المليارات، إلا أن معظمها موجود في أوروبا والولايات المتحدة وغيرها من البلدان المُتمتعة بالملاذات الضريبية، وعادةً ما تكون تلك الأموال تحت أسماء وعناوين لا تدل على أصحابها الحقيقيين. أما الأموال التي تم مصادرتها داخل المملكة بتهمة الفساد، فتُقدر قيمتها بنحو 100 مليار دولار. وذلك المبلغ لا يعادل في مجمله نصف العجز الذي واجهته الميزانية السعودية خلال العام الماضي.

لذلك فاعتقال أمراء ورجال أعمال ووزراء لم يكن بالأمر المُفيد للاقتصاد السعودي ولرؤية 2030، ويمكن النظر إليه على أنه تصفية للحسابات أكثر منه محاربة للفساد المستشري في الاقتصاد السعودي، والدليل على ذلك تعيين «كلاوس كلاينفيلد» المدير التنفيذي السابق لشركة «سيمنس» الألمانية رئيسًا تنفيذيًا لمشروع «نيوم»، علمًا بأن تلك الشركة شهدت خلال ولاية محمد بن سلمان أكبر عملية فساد في تاريخها أدت إلى استقالته وتغريمها ملايين الدولارات.


مستقبل الاستثمار في السعودية

تُقدر قيمة الأموال التي تم مصادرتها داخل المملكة بتهمة الفساد بنحو 100 مليار دولار. بما يعادل نصف العجز الذي واجهته الميزانية السعودية خلال العام الماضي.

حتمًا سيكون لأوامر الاعتقال والمصادرة تأثير سلبي على المناخ الاستثماري بالمملكة، فتعطيل الشركات الوطنية والمتعددة الجنسيات العاملة داخل المملكة وخارجها، بما في ذلك الشركات المملوكة كليًا أو جزئيًا من قبل أفراد قيد التحقيق، قد يثير القلق لدى كثير من المستثمرين عند التفكير في ضخ مزيد من الأموال للاستثمار بالمملكة. كذلك أصدرت مؤسسة النقد العربي السعودي بيانًا يفيد بتعليق الحسابات المصرفية لبعض الأفراد المحتجزين.

كان اعتقال الملياردير الوليد بن طلال هو الأكثر إثارةً للدهشة، فهو المستثمر الدولي الأكثر شهرة في السعودية، والمستحوذ على حصص كبيرة في تويتر، وسيتي جروب.

فالاقتصاد السعودي الذي يعتمد بشكل شبه كامل على النفط (يُشكل حوالي 90٪ من إيرادات المملكة)، أصبح في حاجة ماسة لإجراء مزيد من الإصلاحات الهيكلية لكبح جماح الهبوط الراهن في الناتج المحلي الإجمالي.

وبالفعل أعلن بن سلمان في 24 أكتوبر/تشرين الأول الماضي عن خطة لبناء حاضرة بقيمة 500 مليار دولار تسمى «نيوم»، والتي تمتد على الحدود المصرية والأردنية إلى أكثر 10 آلاف ميل مربع على طول البحر الأحمر. وأعلنت المملكة بأن خدمات وعمليات المدينة الجديدة سيتم تشغيلها بالكامل من خلال الطاقة المتجددة.

كذلك تخطط المملكة لنقل ملكية شركة أرامكو السعودية، وهي شركة النفط المملوكة للدولة، إلى صندوق الاستثمار العام، الذي يُخطط له أن يصبح أكبر صندوق سيادي في العالم بمبلغ تريليوني دولار.

ولا يتعلق الأمر فقط بالنفط، فقد أصدرت السعودية سلسلة من الإعلانات الجريئة حول خطط تنويع اقتصادها بعيدًا عن النفط. وفي أغسطس/آب، شرعت المملكة في التعاقد على مشروع سياحي عالمي عبارة عن بناء منتجعات سياحية على 50 جزيرة بالبحر الأحمر.

وعلى الرغم من أهمية تلك المشروعات التنموية الرامية إلى تعزيز النمو، فإن المشكلة هي الكيفية التي يتم بها محاربة الفساد، والتي تمت بشكل انتقائي، مما يثير القلق حول مناخ الاستثمار اللازم تعزيزه لجذب رجال الأعمال، الذين لا غنى عنهم لتنفيذ مشاريع الرؤية وإدارتها. فمناخ الاستثمار الذي يفقتد الاستقرار السياسي والأمني والقضائي هو مناخ طارد للاستثمار، فالمال وحده لا يكفي لبناء مشاريع مستدامة تتحول إلى قاطرة للنمو، والتي من شأنها أن تؤدي إلى تنويع مصادر الدخل.

وبالطبع فإن معظم الاعتقالات التي تمت مؤخراً تُعطي صورة سلبية لمجتمع الاقتصاد الدولي بأن كل شيء مباح في السعودية من أجل السيطرة على مقاليد الاقتصاد، فلم يكن هناك أي اعتقال أكثر إثارةً للدهشة من اعتقال الملياردير الوليد بن طلال؛ الذي ربما كان المستثمر الدولي الأكثر شهرة في المملكة العربية السعودية، والمستحوذ على حصص كبيرة في تويتر، وسيتي جروب. وذلك الأمر يُقلق التدفقات الأجنبية التي تسعى في الأساس إلى ضخ أموالها في البلاد الأكثر استقرارًا اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا في العالم، ومؤخرًا أصبحت المملكة تعاني من فقد ذلك الاستقرار الذي طالما حاول القادة الحفاظ عليه على مدى العقود الماضية.