في الجزء الثالث من كتابه عن السيرة يجري جعيط تفريقا بين نوعين من النبوة: الأولى: هي «النبوة الانخطافية» -والتي يسميها في مواضع أخرى من كتابه ب«النبوة اللدنية»- البادئة في مكة.

والثانية: هي «النبوة التأملية» أو العقلانية الأقرب للأمور العملية والتي تتجلى خصيصا في المدينة؛ لكن وكما يصر جعيط فإن هذا التفريق وإن كان يعني تعاقبا مرحليا إلا إن هذا لا يعني غياب الانخطافية عن النبوة التأملية اللاحقة، فهناك «تواصل للنواة الدينية المركزية للنبوة»، «وهذه الأخيرة أبعد ما تكون عن مجرد نبوة سياسية أو حربية» مما يجعل هذا التفريق الذي يجريه جعيط مجرد تأكيد منه على وجود مساحة غير ملتفت إليها بالشكل الكافي في قراءة نبوة النبي.

هذه المساحة هي تحديدا «لحظة الانخطاف» أو لحظة معاينة النبي للوحي، والتي تضيع تماما حين تختزل نبوة النبي لمجرد نبوة حربية أو سياسية على ما جرت العادة في كتابات المحدثين عربا ومستشرقين.

لكن قلة الاحتفاء بهذه «اللحظة الانخطافية» (لحظة تلقي الوحي) في مقابل الاحتفاء الأكبر بتحركات النبي الواقعي أفقيا «نشر الدعوة، السياسة، الحروب، التشريعات» لا يقتصر فحسب على المحدثين.

قلة الاحتفاء بهذه «اللحظة الانخطافية» (لحظة تلقي الوحي) في مقابل الاحتفاء الأكبر بتحركات النبي الواقعي لا يقتصر فحسب على المحدثين

فلأسباب لا يسعنا هنا التطرق إليها فإن الأمر كان هو نفسه تقريبا حتى في سير الأقدمين، مما حدا بـفاروق حماده في كتابه عن مصادر السيرة لاعتبار القرآن هو المصدر «المتفرد» في رسم خلجات ومشاعر النبي الداخلية -ومنها بالطبع هذه اللحظة الانخطافية التي يتحدث عنها جعيط.

بل يقول أنه لولا القرآن لما استطعنا أن نعرف شيئا عن سيرة النبي الباطنية ولاقتصرت معرفتنا على سيرته الظاهرة التي ترويها كتب السيرة.

ولو عدنا لـجعيط، وفي كتابه الوحي والقرآن والنبوة هذه المرة، سنجده يزيد حدة الأمر عن ما يقول فاروق حين يعتبر أن السيرة حتى في تعبيرها «المحدود» عن اللحظة الانخطافية هذه قامت بتشويه لما يرويه القرآن عن هذه اللحظة، بهذا لا تصبح السيرة مصدرا قليل الاهتمام بلحظة الانخطاف فحسب بل كذلك مصدرا مشوها لها.

على خلاف هذا، فإن هذا المقال يجادل عن إمكانية الولوج لقراءة اللحظة الانخطافية لحظة معاينة النبي للوحي من داخل كتب السيرة ذاتها، وأن ما قامت به كتب السيرة في تناولها المحدود لهذه اللحظة لم يكن تشويها كما يرى جعيط بعين المؤرخ الصارم بل كانت محاولة لكشف لحظة تتعالى بطبيعتها عن حدود الواقع وتحتاج بالتالي لمن هو أوسع من مؤرخ وتتطلب كيفية محددة في مقاربتها قام بها كاتب السيرة على أكمل وجه.

كي نبرهن على هذا فإن علينا القيام بأمرين متعالقين: الأول هو تبديد هذا التشكيك الذي تتعرض له السيرة كمصدر لإعادة رسم واقع أحداث حياة النبي في العموم لا فقط لحظة الوحي.

والثاني هو محاولة كشف الكيفية التي ينتهجها نص السيرة في سرده للأحداث لبيان كيف أن هذه الكيفية وإن كانت لا تريح المؤرخ الحديث أو المحدث المتصلب هي المثلى بالذات لكشف اللحظة الانخطافية، لحظة معاينة الوحي الإلهي، التي تعد في ظننا أهم لحظة في سيرة النبي بل اللحظة المركز في بناء التوحيد الإبراهيمي كله.


هل هي سيرة مستحيلة؟ أو موجز تاريخ التنكر للمصادر العربية

بالنسبة لعدد كبير من المستشرقين مثل واط ودرمنغم وغيرهم ممن تجمل أعمالهم حياة عمامو تحت عنوان «المقاربة الوصفية للسيرة»، فقد مثلت المصادر العربية دوما أساسا متينا لكتابة السيرة، فقد كانوا يملكون ثقة في تقنية السند الإسلامية، واستطاعوا الركون لها تماما في استعادة أحداث حياة النبي.

لكن ومع أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ظهرت بعض التوجهات النقدية والتي حدت بالبعض للتشكيك في مدى موثوقية هذه المصادر واعتبارها مجرد أدب ديني يقوم على التخييل وأساطير بناء المؤسس أكثر منها تسجيل تأريخي لواقع أحداث حياة النبي.

وصل هذا التشكيك حد التحييد التام لهذه المصادر والاقتصار على القرآن وحده في إعادة بناء الأحداث، وهو ما قام به بالفعل بلاشير ونولدكه واللذان يمثلان قمة «المقاربة النقدية» كما تعتبر عمامو، وهي مقاربة لم تعدم لها تأثيرا في السياق العربي، حيث قام البعض بإعادة كتابة السيرة انطلاقا من القرآن وحده[1].

لكن حتى في ظل هذه المقاربة النقدية سواء استشراقيا أم عربيا، كان اللجوء إلي السير والمصادر العربية ممكنا وإن كان دون منهج واضح يسلم من الاعتراض كما تؤكد عمامو.

أما التشكيك التام في المصادر العربية ومحاولة الاعتماد على مصادر أخرى فإنه لم يظهر إلا مؤخرا على يد مجموعة من المستشرقين الأنغلوساكسون والفرنسيين، مثل باترشيا كرون ومايكل كوك ووانسبرو وبريمار، ويعبر عن هذا المنزع بوضوح مقال جاكلين شابي: هل هي سيرة مستحيلة، والذي اعتبرت فيه كتابة يلوغرافيا نبوية أمرا مستحيلا بالمرة، وانتهت لكون الممكن الوحيد هو كتابة تاريخ للتمثل لا تاريخ للواقع[2].

وصل التشكيك في المصادر العربية حد التحييد التام لهذه المصادر والاقتصار على القرآن وحده في إعادة بناء الأحداث

عربيا وغربيا تمت محاولات للتوسط بين الرؤيتين: «الوصفية» شديدة الثقة في الأسانيد الإسلامية وفي قصص السيرة، و«التشكيكية» التي تتخلص تماما من المصادر العربية.

هذا التوسط تطلب إعادة النظر في المقاربة النقدية ومحاولة تقديم قراءة أكثر فحصا ودقة للمصادر العربية تستطيع بيان ما يمكن منها الاعتماد عليه إلى جانب القرآن كمصدر رئيس.

من هذه المحاولات محاولة شولر طرح منهجية جديدة لاستخدام وثيقة عروة في إعادة بناء وقائع الأحداث على أساس أقدم سيرة للنبي، وكذلك محاولة جعيط تقييم المصادر الأربعة الكبرى: ابن هشام وابن اسحاق والبلاذري والطبري، وبيان ما يمكن الركون إليه في هذه الأخبار لإعادة بناء واقع أحداث حياة النبي.

في حقيقة الأمر، نحن لا نستطيع إرجاع هذا التطور في التعامل مع المصادر العربية غربيا لتطور الوعي النقدي مثلا، فمسلمات المركزية الغربية الفاقعة وكما كانت قائمة في المقاربتين الوصفية والنقدية، فإنها تعمل عملها بوضوح وراء هذه المقاربة التشكيكية في المصادر العربية أيضا.

ولعل هذا يتضح تماما في تفضيل المصادر غير العربية على العربية أحيانا مع تأخرها ومع خضوعها لنفس الإحراجات الابستمولوجية والسياسية التي يخضع لها النص العربي كما ترى آمنة الجبلاوي في كتابها عن الاستشراق الأنغلوساكسوني.

هذا التفضيل للمصادر الغربية حتى لو متأخرة ليس له مرد إلا هذه الفكرة التي يحدثنا عنها ميشيل ترويو[2] من تفريق بين غرب يستطيع التأريخ وغير غرب لا يستطيعه.

فكما يرى ترويو، فإن الباحثين الغربيين في قراءتهم للحضارات غير الغربية كانوا دائمي التشكيك في مرويات هذه الشعوب عن نفسها، ودائمي الإلقاء بها في حيز الأسطورة والخرافة والتخييل الأدبي بمعنى اللاحقيقة؛ هذا لأن الرؤية التي كان يحملها هؤلاء للتأريخ كانت تقضي بأنه لا يستطيع التأريخ إلا من يملك تصورا خطيا للزمن، وغير الغربي لا يملك مثل هذا التصور مما يجعله عاجزا عن التأريخ حتى لذاته!

هذه النظرة الجوهرانية للغرب واللاغرب يسخر منها ترويو قائلا: «أن التصور الخطي للزمن نفسه كان وليد القرن الثامن عشر، فهل لم يكن للغرب تاريخ قبلها؟».

لكن سبب رفضنا لهذه المقاربة التشكيكية أو حتى النقدية التي تهمل المصادر العربية لا يتعلق فحسب بهذه الرؤية المستبطنة داخلها عن غرب يستطيع كتابة التاريخ ولاغرب لا يستطيع حتى كتابة تاريخه، بل يتعلق كذلك بأمرين ممكن وضعهم تحت عنوان «تغييب هذه المقاربات للطبيعة النوعية لنص السيرة». فبسبب من هذا التغييب فإن هذه المقاربات:

أولا: توحد بين التخييل والاختلاق الكامل، وهو بالإضافة لكونه غير لازم بالأساس، فإنه يضيع طبيعة نص السيرة. فهذا النص، ولأنه يعد نتاجا لتداخل عدد كبير من العلوم فإنه على ارتباط وثيق بعلوم الحديث والتاريخ مما يجعله حتى لو لجأ للتخيل فإنه لا يصل حد المفارقة الكاملة للواقع بل يستند في هذه الاختلاقات على أخبار لها سند واقعي، وعلى القرآن الذي يقبل به نفس أصحاب المقاربة النقدية كمصدر رئيس وموثوق.

وثانيا: تهمل هذه المقاربات العلاقة بين التخييل وطبيعة الأحداث التي تسردها السير، فيغيب عنها أن هذا التخييل يتعلق بأن السيرة لا تسرد بالأصل أحداثا واقعية صرفة، بل أحداثا تحدث أحيانا على حافة الواقع نحو ما وراءه.

فحدث مثل حدث تلقي الوحي، لا يمكن اعتباره مجرد حدث واقعي، بل هو حدث يمثل تجربة حدية حيث الإنسان في مواجهة الآخر تماما بتعبير أوتو، مما يحتم اللجوء للتخييل بما هو ترميز يكشف اللحظات الأكثر حدية لسرد/كشف هذه اللحظة.

إذن فإن ما يجعلنا هنا نستمسك تماما بنص السيرة في محاولة قراءة «اللحظة الانخطافية» ليس فحسب الاعتراض على هذه المقاربة التشكيكية النافية لتأريخ عربي والمعرِّفة التخييل بغياب الواقع، بل كذلك لاحتفائنا بما يعتبره هؤلاء –أصحاب المقاربة التشكيكية، أصحاب المقاربة النقدية- سببا لرفض قصص السيرة «أي دخول التخييل والأسطرة فيها».

فنحن وعلى خلافهم تماما نظن أن هذا الدخول للأسطرة والتخييل في نص السيرة هو موضع تميزه الحقيقي وخاصية كيفية بناءه لمتنه التي تجعل له طبيعة نوعية تمكنه من سرد/كشف لحظة معاينة النبي للوحي.


طبيعة نصوص السيرة

كي نستطيع التوصل للكيفية التي يبني بها نص السيرة متنه، والتي قلنا أنها في ظننا كيفية مثلى لكشف لحظة الوحي بالذات تجعلنا نستخدم نص السيرة كمصدر لفهم هذه اللحظة، فنحن نحتاج أولا لتجاوز هذا العيب الكامن في المقاربات السابقة لنصوص السيرة وهو تغييب طبيعة هذه النصوص وسماتها النوعية.

لذا فعلينا أولا البدء بتحديد، ولو أولي، لهذه الطبيعة، فمن خلال تحديد هذه الطبيعة نستطيع معرفة مدى اهتمام هذا النص بفترات حياة النبي المختلفة ومصادره التي يلجأ إليها في الكتابة -وخصوصا القرآن- وطريقة تعامله مع هذه المصادر، واختلاف هذه الطريقة عن طرق غيره من العلوم.

مما يمكننا من فهم كيفية بناء نص السيرة لمتنه وكيفية سرده لوقائع حياة النبي لبحث مدى تميز هذه الكيفية عن غيرها ومدى قدرتها على كشف أهم لحظات حياة النبي أي لحظات تلقي الوحي.

الطبيعة النوعية لنص السيرة يحددها تداخل عدد من الأبعاد الخارجية والداخلية لهذا النص. نقصد بالأبعاد الخارجية، دوافع كتابة النص وما يتوخاه من أهداف، وموقعه من السلطة السياسية وموقعه من السلطة المعرفية.

ونقصد بالأبعاد الداخلية للنص، العلوم الداخلة في تشكيل النص، وعلاقة السيرة كفن مستقل بهذه العلوم؛ فهذه الأبعاد المتداخلة والتي تشكل ما يمكن تسميته إحداثيات نص السيرة، هي التي تعطي للنص طبيعته وسماته.

لكن المشكل الذي يواجهنا ها هنا في محاولة تحديد طبيعة نص السيرة، هو صعوبة تحديد هذه الإحداثيات بالأساس، فتطور هذا الفن على أكثر من مرحلة قبل أن يصل لما يمكن اعتباره مرحلة النضج التي تحول معها لفن مستقل له هيكل خاص وطبيعة نوعية محددة، يجعلنا شديدي الحذر في الحديث عن دوافع وأهداف عامة لكتابته، أو عن موقع محدد من السلطة المعرفية أو السياسية.

فما يذكره البعض مثلا عن دوافع سياسية لكتابة السيرة صعب أن ينطبق إلا على المرحلة الأولى ربما، أي مرحلة أبان بن عثمان وعروة بن الزبير الذين كتبا السيرة في سياق سياسي محدد، كذلك في هذه الفترة فحسب يمكن الحديث عن ارتباط وثيق بالسلطة السياسية حيث وثيقة عروة هي رسائل إلى الخليفة عبد الملك بن مروان، إلى جانب أن هذا الارتباط بالسياسة يتعلق بالشكل الذي كان عليه نص السيرة وقتها.

فلم يكن هذا النص سوى حديث عن مغازي الرسول ومناقب الصحابة ولم يكن توسع ليشمل أخبارا وقصصا يصعب الحديث معها عن عوامل سياسية، ولا كان فن السيرة قد تطور كحقل مستقل، بتعبير بورديو، تحتاج الدوافع السياسية كي تؤثر فيه أن تخضع لتحويل يناسب الدخول في هذا الحقل المستقل[4].

أما ما ذكره البعض مثل حياة عمامو من أن دافع كتابة السيرة هو تسجيل كل ما يتعلق بالنبي من أجل ضبط الحياة الاجتماعية، فربما هذا أكثر ارتباطا بمرحلة أولى لتطور السيرة كانت مختلطة بالحديث، لكنها لا تناسب التطور الذي حدث لها والذي جعلها تمتلئ بقصص لا يمكن إرجاع أسباب سرده لقضية تجهيز مدونة قانونية للضبط الاجتماعي[5].

كذلك فإن الحديث عن دوافع روحية هي التي أدت لكتابة نص السيرة مثل استعادة النموذج النبوي وتحيين تجربته في الاتصال وفتح الباب لصياغة سردية عجيبة ومدهشة بعد إغلاق النص بجمعه وتحويله لنص قانوني كما يرى بسام الجمل[6]، فهو حديث لا يمكن أن ينطبق على كل مراحل كتابة السيرة خصوصا تلك التي ارتبطت بالسياسة وبالسلطة بكل وضوح كنصوص أبان وعروة كما ذكرنا.

كما أن تصورا كهذا قد يجعلنا نتخيل نص السيرة يختلق القصص اختلاقا كاملا، وهذا ما نستبعده انطلاقا من ارتباط هذا الفن في مرحلة من أهم مراحله بـ الزهري، فهذا الرجل الذي أعطى للسيرة اسمها وهيكلها هو محدث بالأساس، مما يجعل نص السيرة حتى في اختلاقاته يلجأ لأخبار لها سند ما عند المحدثين. إن نص السيرة في استقلاله عن بقية علوم المدونة المعرفية، لا يضادها أو يواجهها تماما[7].

كل هذا التداخل بين أهداف متباينة ومراحل مختلفة وموقع متردد من السلطتين السياسية والمعرفية؛ يصعب علينا تماما مهمة تعيين إحداثيات النص، وبالتالي تحديد طبيعته الخاصة والنوعية مرة واحدة وبإطلاق، هذا التحديد الذي اعتبرناه شديد الأهمية في تبين طريقة بناء نص السيرة لمتنه والمصادر التي يلجأ إليها وكيفية استخدامه لها.

ربما نظن أن الأمر سيتحسن قليلا لو اتجهنا لنص محدد داخل هذا التطور لفن السيرة، فنص واحد يمكننا تعيين أبعاده الداخلية والخارجية، أي تعيين إحداثياته وموقعه وطبيعته بكل البساطة التي يخولها لنا توقيع مؤلف يمكن تعيين علاقاته بالسلطة المعرفية والسياسية بكل سهولة.

نص كنص ابن هشام مثلا يغرينا بهذا، فـ ابن هشام ليس فحسب فردا ممكن تعيين علاقاته ببساطة، بل الأهم هو أن ابن هشام، ومن أول لحظة في كتابه، يبالغ في إظهار سلطته كمؤلف على ما سبقه من نصوص.

إن ابن هشام يخبرنا عن كونه حذف أجزاء كاملة من سيرة ابن إسحاق. وعن كونه ممثلا جيدا لسلطة معرفية تحدد المشين والمعيب وتحذفه، أقول كل هذا ربما يغرينا بتفاؤل تجاه تحديد إحداثيات نص ابن هشام، وتحديد نوعيته وطبيعته مما يمكننا من تحديد طريقة بناء نص السيرة لمتنه، لكن للأسف فإن هذا التفاؤل سرعان ما يتبدد!

هذا لأن هذه السلطة التي يخايل بها ابن هشام ليست كبيرة كما قد يبدو، وهذا لعدد من الأسباب، منها أن نص السيرة أثناء تطوره لم يكن يخضع لتطور في هيكله أو نسيج بنائه بالضرورة، بل كان هذا التطور أحيانا عبارة عن إضافة خارجية فحسب، مما جعل النص بناءً متراكبًا من الممكن حذف أجزاء كاملة منه كما فعل ابن هشام مع مبتدأ ابن إسحاق أو مع بعض الأشعار.

فهذه القدرة على الحذف راجعة لطبيعة تطور نص السيرة أكثر منها لسلطة ابن هشام الممكن تعيينها ببساطة.

لذلك فإن تعيينها لن يفيدنا بشيء في الوصول لطريقة بناء نص السيرة لمتنه، كذلك فإن ما يقوم به ابن هشام من حذف ليس تغييرًا من ابن هشام لهيكل نص السيرة، بالعكس إنه عودة بهذا النص للهيكل الذي كان قد حدده الزهري قبل أن يضيف ابن إسحاق أخبار المبتدأ نتيجة توسعه في الإسرائيليات.

وأخيرا فسلطة ابن هشام محددة بالمشين مما يجعلها لا تتعرض لبنية النص القصصية التي وصلت إليها مع ابن إسحاق فلا تعني تحويل السيرة لنص منضبط حديثيا مثلا لا أثر فيه للقص والحكاية، بل تقتصر سلطة ابن هشام تجاه نص السيرة على نفي بعض ما يعتبر مشينًا في أغلب الآراء.

هذا يعني أن حتى لجوءنا لنص محدد هو نص ابن هشام لتحديد إحداثياته من أجل تعيين طبيعته وبحث مقدرته على كشف لحظة تلقي الوحي، هو أيضا غير كافٍ، فرغم ما تخايل به سلطة ابن هشام، فإنها تظل سلطة مقصورة تجاه فنٍ أصبح له طبيعة نوعية محددة إلى حد كبير.

ما نقترحه إذن لحل الإشكال، هو أن نقوم بمقاربة جزيئية لنص السيرة، أي أخذ قطاع منه وتعيين إحداثياته ثم بناءً عليها نحدد طريقة بناء نص السيرة لمتنه في هذا القطاع والمصادر التي يعتمد عليها وكيفية استخدامه لها، -ما سنقتطعه بالطبع هو الجزء الخاص بلحظة الوحي التي تهمنا هنا-، مدى مشروعية هذا الاقتطاع وجدواه في إثبات مدى قدرة نص السيرة على سرد/كشف لحظة الوحي هو موضوع مقالنا القادم.


الهوامش

الطبيعة النوعية لنص السيرة يحددها تداخل عدد من الأبعاد الخارجية والداخلية لهذا النص، وهي التي تعطي للنص طبيعته وسماته

[1] لم يكن لجوء بعض العرب المحدثين لكتابة السيرة من القرآن وتحييد المصادر الأخرى، لمجرد التأثر بالمقاربة النقدية، بل كان في بعض وجوهه محاولة للتخلص من بعض الإحراجات التي صاغها بعض المستشرقين تجاه الإسلام والنبي من داخل السيرة، فكان الحل التخلص من السيرة برمتها.

[2] رغم أننا لا نوافق شابي على كون المصادر العربية القديمة التي كتبت السيرة هي مجرد تمثلات لا تمت للواقع بصلة، إلا أننا نستطيع القول أن فكرة التمثلات هي فكرة مغرية بالبحث، فسيرة النبي كتبت عند السنة وعند الشيعة وفي مراحل مختلفة ورغم اعتمادها مصادر متشابهة فقد انطوت على اختلافات، هذه الاختلافات هي ما يمكن وصفه بالتمثلات وهو هام جدا في فهم مدى تطور نص السيرة واختلاف موقعه وكذلك تعدد النظرات لسيرة النبي في مراحل مختلفة، وقد قام تهامي العبدولي بدراسة عن هذا بالفعل لكن عن سيرة النبي إبراهيم بعنوان «النبي إبراهيم في الثقافة العربية الإسلامية»، ووصل فيها لنتائج جديرة بالتأمل وربما التطبيق على سيرة النبي.

[3] «القوة في القصة» ميشيل-رولف ترويو، منشورة ضمن كتاب «كيف نقرأ العالم العربي اليوم» ص182.

[4] يعتبر بورديو أن المجتمع عبارة عن مجالات كي يؤثر في أحد هذه المجالات عامل ما فإن هذا العامل يخضع لتحويل يناسب قوانين هذا المجال ومواقع القوى فيه.

[5] حياة عمامو، السيرة النبوية، مصادر ونصوص وشروح، ص15.

[6] بسام الجمل، «أسباب النزول علما من علوم القرآن»، ص52.

[7] نص السيرة يستخدم نصا مقبولا حديثيا، ولا يعنينا هنا كون النص نفسه المبني حوله القصة صحيح أم لا، المهم إنه مقبول حديثيا، حيث هدفنا في هذه النقطة كشف علاقة نص السيرة بالعلوم الأخرى فحسب.