في عالم يقوم على الحركة والتغير الدائم شكّل البصر دائمًا الخطوة الأولى التي نتخذها للإدراك. لا يمكن تخيل نشاط من أنشطة الحياة اليومية لن يتأثر بشدة عند حدوث أية خسائر في النظر أو فقدانه. ما إن يخفت نور العيون حتى تخفت صلتنا بالواقع المحيط بشكل كبير حتى إن استعضنا عن النظر بباقي الحواس ومهما تنامت حدتها.

لا تقتصر مشاكل النظر على العمى فقط. بإمكان عمى الألوان أو اضمحلال الرؤية –دون فقدانها بشكل كامل- التأثير بشكل خطر على حياة الإنسان بل وسلامة المحيطين به. تعمل العيون كحلقة وصل أولية بيننا وبين العالم قبل أن يصل إلينا وقبل أن نتعرض لخطره. إن النظر في الحقيقة هو خط دفاعنا الأول، وها هو قد بدأ بالانهيار بوتيرة متسارعة.

هنا تأتي التكنولوجيا بالطبع لتكون ملجأنا وسلاحنا في محاولة كبح هذا الوباء المختفي وراء الستر. ستحاول البشرية تقمص دور الطبيعة ومحاكاة العين. لن يكون هذا بالأمر السهل لكنه سينقذ الملايين. نتحدث عن العين الآلية Bionic eye.


الطبيعة وراء التقنية

قبل أي حديث حول التقنية التي يتم تطويرها علينا فهم الطبيعة التي تأتي هذه التقنية لتعالجها أو تقوم بدورها. هكذا يصبح أول الأسئلة المطروحة حول العين الآلية هو كيفية عمل العين الطبيعية وكيفية تحقق الرؤية من الأساس.

تتكون العين بشكل عام من طبقات متتالية مما يشبه الأغشية الخلوية التي تفصلها سوائل. تقوم كل من هذه الأغشية بجزء من عملية معالجة الضوء وتكوين الإشارة التي يوصلها العصب للمخ فتتم الرؤية. هكذا يدخل الضوء من خلال القرنية Cornea عابرًا العدسة والسائلين المائي والزجاجي وتحت تحكم القزحية التي تقوم بتوسيع أو تضييق البؤبؤ متحكمة في كمية الضوء العابر لداخل العين.

يصل الضوء بعدئذ للشبكية وهنا تبدأ عملية الرؤية بالفعل. تحتوي الشبكية على نوعين حساسين من الخلايا أو ما يطلق عليه «المستقبلات الضوئية». تنقسم هذه الخلايا وظيفيًا لخلايا عصوية rods مسئولة عن الرؤية في الضوء المنخفض ولذا فإنها تفوق في الحساسية النوع الآخر وهو الخلايا المخروطية Cones. تعمل تلك الأخيرة بشكل أساسي على رؤية التفاصيل الأكثر دقة خاصة الألوان.

تحتوي هذه المستقبلات على جزيء يدعى رودوبسين Rhodopsin. يتكون هذا الرودوبسين بدوره من جزيء يدعى 11-Cis retinal المرتبط تساهميًا ببروتين يدعى أوبسين Opsin. ما إن يمتص هذا الريتينال فوتون الضوء حتى تنكسر إحدى روابطه المزدوجة ويدور ليتحول إلى جزيء Trans retinal ومعه يتغير تركيب البروتين أيضًا. يتغير ترتيب الأيونات في بروتين الأوبسين، وبواسطته -جنبًا إلى جنب التغيير الفراغي في شكل الريتينال- يتم إرسال نبضات كهربية يلتقطها العصب ويرسلها للمخ لتتم ترجمة الأمر إلى صورة[1].

هكذا يمكننا تصور أن أي مشكلة في الرؤية يمكن تتبعها إلى إحدى هذه الخطوات أو خلل في العضلات والأوعية الدموية المغذية لأي من هذه الأغشية. هذا بالضبط ما تحاول العين الآلية تعويضه.


عضو حقيقي وليس للزينة

تختلف العين الآلية Bionic eye عن العين الصناعية Prosthetic eye في كون الأخيرة مجرد أداة شكلية توضع في تجويف العين بعد إزالتها جراء حادثة أو مرض أو تشوه ما. أما العين الآلية فإنها تساعد على الرؤية الفعلية وتعمل بانسجام مع بقية أجزاء العين غير المصابة.

تعد تقنية العين الآلية فكرة ما زالت في مهدها إلا أن تقدمًا كبيرًا قد تم تحقيقه فيها ضمن أبحاث تقنية الواجهات التي تربط بين المخ والعالم الخارجي مباشرة. يمكننا فهم كيفية عمل التقنية من خلال أول النظم التي أتيحت للمرضى بالفعل. نتحدث عن نظام Argus 2 من شركة Second sight.

يستهدف هذا النظام المرضى المصابين بضمور العضلات ومرض ريتينايتس بيجمينتوزا Retinitis Pigmentosa. باختصار شديد فإن هذا النظام يقوم بتولي مهمة تنشيط العصب عوضًا عن المستقبلات الضامرة التي تسببت في ضعف الرؤية أو العمى.


الرؤية طبقًا لأرجوس

أرجوس 2

تختلف عملية الرؤية باستخدام أرجوس عن الرؤية الطبيعية رغم تشابه النتائج. في البداية تبدأ كاميرا رقمية مثبتة في نظارة مبنية خصيصًا لحملها بالتقاط الصور على هيئة فيديوهات. يتم إرسال هذه الفيديوهات إلى رقاقة ذكية Microchip محمولة تقوم بتحويل الصور إلى سلسلة من الإشارات الكهربية. يقوم جهاز لاسلكي راديوي مثبت في النظارة أيضًا ببث هذه الإشارات إلى مستقبل مزروع تحت جلد المريض متصل بإلكترودات مزروعة في الشبكية يتم تنشيطها لتقوم بتوليد الإشارة الكهربية اللازمة لتنشيط العصب.

هكذا قامت المكونات بمحاكاة نشاط مكونات العين الضامرة والدوران حولها للوصول للعصب السليم وبالتالي تستكمل الإشارة طريقها للمخ ويتم تحليلها كما لو كانت إشارات الخلايا العصوية والمخروطية تمامًا.

حسنا.. ليس تمامًا.


جانب مظلم وجانب مضيء

عين آلية، عين بديلة
عين آلية، عين بديلة

تبدو الفكرة نظريًا ذكية وفعالة بشدة وهي كذلك إلا أنها بعيدة تمامًا عن مقارنتها بعملية الرؤية الطبيعية. السبب هنا هو التفاصيل والألوان التي تصنع الفرق بين المشاهد وبعضها وتعطي النظرة فعاليتها. ما زالت العين الآلية حتى الآن في مرحلة أقرب لفيلم Noir أبيض وأسود مفتقر للتفاصيل التكوينية.

مع هذا فإن الأمر يبدو أنه آخذ في التحسن.في حديثه لموقع فيوتشريزم Futurism تحدث الدكتور شيشيلنسكي أستاذ الجراحة العصبية والعيون في كلية طب جامعة ستانفورد عن أفكاره بخصوص تطوير ميكانيكية عمل العين الآلية بأخذ عمل خلايا جانجليون في الاعتبار عند تصميمه للعين.

تصنع خلايا جانجليون الفارق بواسطة طبيعة عملها الذي يقوم بتعريف المخ بمناطق حدة الضوء أو اللون أو خفوته أو اختلاف منطقة ضوئية عن مجاورتها. تتسبب العين الآلية التقليدية في تنشيط كل خلايا جانجليون دفعة واحدة مما يؤدي لتشوش وتجاهل المخ لها. يحاول شيشيلنسكي رغم ذلك التحكم في تنشيطها لإضفاء صورة واقعية على الإشارات التي تصل للمخ ومن ثم يمكن رؤيتها.

مع تزايد معدلات الحياة في العالم أجمع ومع زيادة عدد المسنين وذوي العيون الضامرة، لا تعد هذه النوعية مجرد تكنولوجيا للرفاهية يمكن استبدالها بالطب المعتاد، بل علاجًا هامًا وطارئًا بإمكانه إعادة الطبيعية لحيوات كثيرة افتقدتها بسبب السن أو الحوادث أو الأمراض الوراثية. إن العين الآلية لا تعدنا بقدرات خارقة ولا رؤية بأشعة تحت حمراء ومن خلال الجدران كما يتصور الكثير، إنها فقط تعدنا بالقدرة على مقاومة الطبيعة، لبعض الوقت فقط.

المراجع
  1. Martin S. Silberberg: Chemistry- The Molecular Nature of Matter and Change, 5th Edition – P. 470