محتوى مترجم
المصدر
Jacobin
التاريخ
2014/11/28
الكاتب
Guy Rundle

لقد بدأت الجمعة السوداء كحادثة سير، أو مجموعة من الحوادث. لاحظت الشرطة في فيلادلفيا بداية الستينيات أن اليومين اللاحقين لعيد الشكر [عيد يحتفل به في أمريكا الشمالية في الخميس الرابع من نوفمبر/تشرين الثاني شكرا لله على حصاد العام الماضي – إض] يتسمان بازدحام شديد وفوضى تخريبية أكثر دموية حتى مما كان معتادًا في أيام ما قبل «نادر» [يشير الكاتب إلى كتاب «غير آمن أيا كانت السرعة» للأمريكي رالف نادر الذي هاجم عدم اعتناء مصنعي السيارات باحتياطات الأمان – إض].

لقد لوحظ مبكرًا أن هنالك علاقة بين تخفيضات وسط المدينة وبين الازدحام الكثيف، واستاء التجار من لصق هذا الاسم الكئيب بأحد أفضل أيام تخفيضاتهم. كان الأمر موجودًا بلا شك في أماكن أخرى، إلا أن فيلادلفيا كان ممثل رجل الأعمال فيها هو آبي روزن، أحد ملهمي العلاقات العامة البارزين في البلاد. اقترح روزن أن تعيد المدينة تسمية اليومين اللاحقين لعيد الشكر بـ «الجمعة الكبيرة» و«السبت الكبير».

نجحت حملة التجميل الفج تلك، لكن ليس كما كان متوقعًا. فشل «السبت الكبير» وحظيت «الجمعة الكبيرة» بالاهتمام، لكن سرعان ما عادت إلى اسمها القديم «الجمعة السوداء»، وأصبحت حدثًا يتم الانتباه إليه، ولعبت عليه جريدة Philadelphia Inquirer بشكل جيد. وبحلول الثمانينيات، شاع الاسم في جميع أنحاء البلاد.


الأسود يليق بها

لقد كانت عودة تسمية «الجمعة الكبيرة» إلى «الجمعة السوداء» محتومة. فالأيام السوداء كثيرة بعدد أيام السنة، وترتبط بأحداث كثيرة، إلا أنها تشترك في شيء واحد: الانحدار والتخريب والضعف. ارتبطت هذه الأيام في عصر الحداثة بانهيار مالي أو كارثة طبيعية أو إرهاب أو هزيمة عسكرية. وفي التقويم الروماني، كان يتم تحديد «حرف اليوم الأسود» بالفحم، ويتم انتظاره بحذر.

مع زيادة التخفيضات إلى درجة كبيرة وزيادة الجماهير الهائجة وشراء السلع الاستهلاكية المعمرة، عادت إلى اليوم سمة الفوضى وعدم النظام.

وبشكل أكثر أهمية في العصر المسيحي، كانت ترتبط هذه الأيام بـ «القداس الأسود» الذي وصفت به الكنيسة الرسمية في البداية الطوائف الغنوصية، والتي كانت تحتوي قداساتها على طقوس جنسية. وفي القرون الوسطى، كانت «القداسات السوداء» تشير إلى السخرية من خدمات الكنيسة أيام المهرجانات، وفي «مايو المجنون» عندما يقوم أبناء الأبرشية ممن عانوا كثيرًا في حياتهم بالقيام بقداسات فكاهية يرتدون فيها قبعات بلهاء، ويتلون التوسلات الإفخارستية.

تسامحت الكنيسة مع مايو المجنون وما يشبهه كحالة من التنفيس، ربما لإدراكهم مدى جور لاهوتهم الرسمي. وفي هذا السياق، تسمية أي شيء بالأسود دلالة على لا-كمال أي نظام اعتقادي، وعدم قدرته على الارتباط بكل الخبرة الإنسانية، وعلى ماديته وقذارته وفساده. لذلك كان حتمًا أن تعود «الجمعة الكبيرة» إلى «الجمعة السوداء» التي كانت غارقة في الذنوب. وبحلول الثمانينيات، اكتسبت معنىً جديدًا ترسّخ فيها، فأصبحت اليوم الذي يحقق فيه البائعون أرباحًا، وبالتالي أصبح للتسوق بعدٌ مدني ووطني.

لكن لم يستمر الأمر كذلك أيضًا، فمع زيادة حجم اليوم في التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين وزيادة تخفيضات إلى درجة كبيرة وزيادة الجماهير الهائجة وشراء السلع الاستهلاكية المعمرة، عادت إلى اليوم سمة الفوضى وعدم النظام. اكتسب اليوم جانبًا سرياليًا ككل جوانب الاستهلاك الأمريكي في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. كانت أشياءٌ كثيرة يتم تعبئتها والذهاب بها، وكانت المولات كبيرة جدًا، وكذلك السيارات، حتى يحسب الناظر أن الأمر مجرد محاكاة ساخرة من الاستهلاك.

إنه نوع من بوتلاتش مضاد، أي احتفالات أسطورية يتم فيها تدمير بعض الأشياء استخرجها الأنثروبولوجيون من الاحتفالات القديمة للأمريكيين الأصليين شمال غرب المحيط الهادي. يتم في هذه الاحتفالات تدمير الأدوات والأسلحة بل والزوارق في سبيل التضحية والمنافسة، وباعتباره تحررًا من سطوة الأشياء نفسها ومن حبسها للطاقة في المادة. ويبدو أن الهدف الاجتماعي من هذه الأنشطة هو منع تراكم الفائض، مما قد يؤثر على العلاقات التبادلية. لكن كان للأمر عرَض جانبي هو التحرر الديونيسي، فالطاقة أعيدت إلى طاقة، وأكدت ذلك اللحظة الحاضرة. فنحن لسنا ما تم صُنعه، بل ما نفعل.


التحرر من الحاجة

في عهد انتصارها من الثمانينيات حتى 2008، اتسمت «الجمعة السوداء» بلمحة تناقض. فقد كانت مراكمةً لأشياء، لكن في الوقت نفسه كانت تبديدًا للطاقة، وكسرًا لبنىً صلبة. كانت أول هذه البنى هي عيد الشكر نفسه بالطبع، وهو الذي فقد منذ وقت طويل جانبه الاحتفالي، وأصبح مناسبة تنبع من الواجب فحسب، مع بعض من القلق والبهجة الإجبارية.

لنصف قرنٍ تقريبًا، كان عيد الشكر يأتي على مجتمع لا يتوفر فيه الطعام فحسب، بل يفيض. ولعدد ليس بالقليل، كانت الحياة تقوم على تفادي الطعام.

ففي صورته الأصلية، كان عيد الشكر يحتوي على إفراط ديونيسي – متعة أكل اللحوم –بمحبة وتعجب. وفي الثمانينيات، أصبح استهلاك اللحوم أمرًا غير ممكن يوميًا بالنسبة للعديد من أفراد الطبقة الوسطى ومن تحتها، وظلت الدخول المنخفضة مرتبطة بسعرات حرارية منخفضة. واسترجعت الإجازة ارتباطها ما قبل الحديث، بالرفاهية والتجاوز. ولم يكن مصادفة أن الصورة الأيقونية لعيد الشكر – التي رسمها نورمان روكويل عام 1943 في سلسلة «الحريات الأربع» [سلسلة من أربع لوحات زيتية رسمها روكويل تعبيرا عن الحريات الأساسية الأربع، وجاءت الحرية الثالثة هي التحرر من الحاجة معبّرا عنها بلوحة عائلة تحتفل بعيد الشكر عبر وليمة هي ديك رومي – إض] – تم إهداؤها «للتحرر من الحاجة».

يظهر الديك الرومي في الصورة بحجم متوسط، إلا أنه كان كبيرًا جدًا في ذلك الوقت، إذ لم تكن الطيور يتم حقنها بالمضادات الحيوية. وكذلك لم تكن الحرية التي يحتفي بها روكويل ذات علاقة بالحريات «السلبية» المتوطنة في التقاليد الأمريكية. فقد كانت هذه الحرية أحد نوعي «الحريات الإيجابية» (مع «التحرر من الخوف») التي هرّبها الرئيس فرانكلين ديلانو روزفلت إلى الوطنية الأمريكية من التقليد الاشتراكي الأوروبي.

وفي صورته الأصلية، أخذ عيدُ الشكر السرَّ المسيحي وارتد به إلى أصوله الوثنية في احتفالات الحصاد. فقد تفيض حالة الرخاء النادرة الناشئة عن وجود بروتين وكربوهيدرات كافية مهما كانت المضايقات التي كانت تحدث بين المهاجرين. وهذا الشبع النادر كان يربط بين أناس كانوا يستغرقون أوقاتهم في لعن بعضهم البعض (وذبح السكان الأصليين).

لم يعد الأمر هكذا بالطبع. فلنصف قرنٍ تقريبًا، كان عيد الشكر يأتي على مجتمع لا يتوفر فيه الطعام فحسب، بل يفيض. ولعدد ليس بالقليل، كانت الحياة تقوم على تفادي الطعام، أي مقاومة اقتحامه كل جوانب الوجود، وقدرته على الارتباط بأنواع رغبات متعددة.

تحدد العلاقةُ بالطعام الطبقة. ففي التصويرات الشائعة، كان يتم تعريف الطبقة المهنية الناشئة من خلال القدرة على مقاومة الطعام وقوتها الأخلاقية البيوريتانية. لكن الطبقة العاملة الأكبر كان يتم تعريفها من خلال استسلامها للطعام بمتعة. وأصبحت ثقافات إقليمية كاملة يتم وصفها من خلاله كجنوب الخليج حول المسيسيبي. ويمكنك رؤية تسجيل ذلك في الحكم الخاص بالطبقات الأمريكية: المسلسلات؛ إذ تظهر أمثلة الطبقة الوسطة في هيئة أناس مشدودي القامة ويتسمون بالنحافة، بينما يتم تصوير الطبقة الأوسع من خلال البدانة بشكل كبير، كما في مسلسل ملك الملكات ومايك ومولي.

عيد الشكر الآن عبارة عن فعل ما يحاول معظم الناس ألا يفعلوه طوال الوقت – الإفراط في الطعام بشكل منتظم – مع أقارب قد يكون الشخص أو لا يكون راغبًا في قضاء الوقت معهم.

فعيد الشكر الآن عبارة عن فعل ما يحاول معظم الناس ألا يفعلوه طوال الوقت – الإفراط في الطعام بشكل منتظم – مع أقارب قد يكون الشخص أو لا يكون راغبًا في قضاء الوقت معهم.

لقد كان في شكله الأصلي ديونيسي؛ عبارة عن عيد للطعام قد يكون من الأفضل أن يتم تخزينه، لكن ما هذا بحق السماء؟! لقد كان الأمر يشبه حالة من الخميس الأسود حيث تفرغ المتاجر الهزيلة بإفراط طائش. وكان الاحتفال لعبة صفرية، إذ أن أي تقدم إضافي الآن يعني عجزًا مستقبليًا. والآن، لا يوجد في العالم الرأسمالي المتقدم ما يعرف بالعجز.

لذلك، نشأت الجمعة السوداء لتحل محل الواجب، أو الترْك المزعوم المتدثر بدثار الواجب. فكما يمكنك أن ترى، يمثل هذا النشاط حالة مضادة لعيد الشكر. فعلى كلٍ، يمثل عيد الشكر – حتى وإن كان احتفالًا مهينًا – حالةً يقر فيها الفرد بالخضوع لإله مفارق. ودوره هو الموازنة بين الكريسماس ومَنح الأطفال، إذ لا ينطوي الاحتفال على معاملة بالمثل: فيحصل الأطفال على الهدايا دون التفكير في أن عليهم دفع شيء في المقابل. فيحصل البالغون على سعادتهم في ذلك اليوم دون أن يشعر الأطفال بالحزن أو انعدام القيمة.

في هذا الإطار، تتضمن الجمعة السوداء جانبًا مسخيًا فيها. فقد أخذت جانب الوفرة والنماء الموجود في الكريسماس وطبقته على البالغين. فهي – أو كانت – تحللٌ من واجب الشكر، إلى يوم من تدليل الرغبات وتحقيقها. وكل شيء يخص الجمعة السوداء في فترة قوتها اكتسب معنى طقسيًا: بدءًا من القيادة إلى المولات والاصطفاف وسط الثلوج وحتى الشجار باللكمات وأطقم الأخبار المحلية التي تنقل المشاجرات وكذلك الاندفاع عند فتح الأبواب ودفع العربات والرزوح تحت ثقل شاشات البلازما قياس 70 بوصة.

ولا تحتوي البضائع المخفضة على أي فائدة إلا كونها طُعمًا، ليتم شراؤها. فما الفائدة التي يمكن أن تعود من شاشة بلازما 70 بوصة غير مجرد الفرح بأن شراءها تم بخصم كبير؟ لقد بدأتَ بالفعل الاحتفال الديونيسي، لكنك ملأت بيتك بأشياء تافهة. وإن كان لمن يشتركون في الجمعة السوداء أي عقل لكانوا اشتروا بالفعل السلع وألقوا بها في صناديق القمامة فور خروجهم، ولن يشعروا أبدًا بشعور أفضل من ذلك.


نزع القداسة عن الاستهلاك!

لعقدين كاملين، دخل عيد الشكر والجمعة السوداء في هدنة غير مستقرة. فقد أدركت المتاجر في السنوات الخمس الأخيرة أوجه قصور الجمعة السوداء. فحتى أزمة 2007-2008 كانت المتاجر تنتظر الساعة التاسعة حتى يبدأ العمل، لكن مع الركود، بدأت القواعد تتلاشى، وأصبحت بداية الجمعة السوداء أبكر وأبكر، حيث تحاول المتاجر الكبرى منافسة بعضها البعض على العملاء النادرين، ومنافسة المتاجر الإلكترونية، التي يمكنها تقديم تخفيضات في أي وقت.

قام البيع الإلكتروني بتفكيك الرابطة التجارية بين الزمان والمكان. فيمكن تقديم موجات من التخفيض على سلع معينة، موجهّة من خلال لوغاريتمات خاصة.

لقد قام البيع الإلكتروني بتفكيك الرابطة التجارية بين الزمان والمكان. فيمكن تقديم موجات من التخفيض على سلع معينة، موجهّة من خلال لوغاريتمات خاصة، وتتم الصفقة من خلال الآيفون مباشرة في دقيقتين، وينتظر العميل.

يقوم البيع الإلكتروني بنزع القداسة عن الاستهلاك وتحوّل المتاجر إلى مجرد مستودعات توصيل. لا يهم القدر الذي يحاول به بائعو الإنترنت محاكاة التوثين الطقسي للبيع المباشر؛ لن يستطيعوا، وقد البيع الإلكتروني في تقليل استهلاك السلع المعمرة إلى نمط أكثر رشادة من ذي قبل. ويعود انكماش دائرة الاستهلاك -التي تكمن في عدم القدرة الحالية على التدوير- في جزء منه إلى تحويل البيع إلى حالة افتراضية. فالتقنيات الأساسية التي كان يعتمد عليها البائعون في القرن الماضي كـ«أثر الجنة» -أي إغراق المشتري بالوفرة في أقسام البيع- أو «أثر غروين» -أي حالة التشتت ونسيان الأهداف الأساسية التي تصيب المشتري عند السير في ردهة المول- لم تعد تعمل. وأصبح الناس أقل ميلًا نحو شراء الأشياء التافعة التي لا تنفعهم.

شهدت أزمة 2007-2008 انهيار العديد من سلاسل المتاجر، ربما أبرزها كان بروكستون وShrper Image وهو متجر لم يكن معروفًا بالضبط ماذا يبيع، حتى من يشترو منه أنفسهم. لقد كان عبارة عن مستودع للمنوعات التافهة تأسس في السبعينيات على منتجاتها الأساسية وساعات الركض، والتي اختفت كلها بشكل كامل. وكذلك اختفى بوردرز وسيركيت سيتي وغيرهما. وما زالت بعض السلاسل تنتظر الضربة القاضية من ركود قادم، بغربلة جديدة. وفي الوقت نفسه، يحاول أمازون فتح منفذ بيع مباشر، رغم أنه كان قد قضى على إمكانية أن يكون البيع المباشر وسيلة للربح.

ولذلك، كانت الخسائر مضاعفة. فحاولت المتاجر الكبرى والسلاسل بيأس الحفاظ على استمرار البيع المباشر، فقاموا بدمج عيد الشكر في الجمعة السوداء. وفي النهاية سيمدونها للأربعاء للتظاهر بأن لم ينته بالكامل.

وبحلول 2011، بدأت متاحر مثل تارجت آند ماري بفتح الابواب بعد ثانية واحدة من منتصف ليل عيد الشكر، مراعيةً قداسة اليوم، لكن مع مقاضاته بحالة طاعة تقنية. والعام التالي، تم تجاوز الأمر وفتحت متاجر وولمرت وغيرها أبوابها الساعة الثامنة مساء عيد الشكر في الولايات التي تسمح بذلك. وأعلن راديوشاك -بائع الحواسيب الغريب الذي نجا حتى الآن- أنه سيفتح أبوابه في الثامنة صباح عيد الشكر.

تستهلك الجمعة الشوداء الخميس الأبيض، وتم القضاء على الإجازة، ليس فقط بالنسبة للعمال الواجب عليهم البقاء في متاجر نصف فارغة بينما تجتمع العائلة، بل بالنسبة للجميع. والأمر كله يتعلق بالمقدس والمدنس وعدم التناسق فيما بينهما، وما الذي تلحقه كل ثقافة بكل منهما.

فكي يبقى الشئ مقدسً هناك حد ثقافي يجب أن يحترمه الجميع. وللانحطاط به إلى خانة المدنس يكفينا سبب واحد. وهكذا يحدث التحول من الثقافة إلى المراكمة. فالأمر لا يحتاج أكثر من شخص مكتنز يحمل فأسًا في البوتلاتش ليتم قلب النظام الثقافي، وتفكيك العلاقة التبادلية.

تم تمجيد الجمعة السوداء في آخر فترة الاستهلاكية الغربية، عندما بدأ الاقتصاد في التراجع بشكل واضح، عندما أدت دائرة استهلاك متضخمة باستمرار إلى الإبقاء على دائرة إنتاج متضخمة باستمرار. وأصبح الرسم التخطيطي لمستوى المعيشة الأمريكي يتخذ شكلًا بيضاويًا نقطة ذروته هي الصفر.

حصر موقع Deadmalls.com عدد المولات التي أغلقت من أواخر التسعينيات وحتى منتصف العقد الماضي، وقاربت النسبة 20 بالمائة من المولات. تم هدم العديد منها او تحولت إلى مراكز «حضرية جديدة» للمدن. وما زالت المولات تموت حاليًا، وأمام الموقع في السنوات القادمة بيانات كثيرة ليجمعها، إن اهتم أحدهم أصلا بجمع مجموعة جديدة من المتاجر الفاشلة.

كانت المجموعة الأولى من المولات الميتة مدهشة، كانت عبارة عن مساحات شاسعة تم تصميمها من أجل مرح تجاري يتعفن الآن. ما زال هناك القليل منها يعمل حتى الآن مثف وايت فلينت خارج واشنطن دي سي، وهو عبارة عن مول يحتضر، وبه متجران فقط لا زالا يعملان، لكنه لا زال يعمل بكامل طاقته، والمصاعد تعمل والأضواء مشتعلة. وإنني أنصح الجميع أن يجرب رحلة من يوم واحد، قبل أن تدمره كرة الهدم. ولذلك لم يكن مستغربًا أن يُطلق على كتالوج صور المولات المهدمة «الجمعة السوداء». ستكون المجموعة الثانية من المولات محزنة فقط.


المقاومة الثقافية

كي يبقى الشئ مقدسً هناك حد ثقافي يجب أن يحترمه الجميع. وللانحطاط به إلى خانة المدنس يكفينا سبب واحد. وهكذا يحدث التحول من الثقافة إلى المراكمة.

أثار تعدي الجمعة السوداء على عيد الشكر انتباه الثقافة الشعبية في العامين الأخيرين. فلسنوات، ناضل العمال من أجل الحصول على حقهم في عدم العمل أيام الإجازات. إلا أنه منذ تمرد شايز ومن قبله لا تتضمن أبدًا الفكرة الأمريكية عن المواطنة والاحتفال العالمي إلا ذوي الملْكيات، ولذلك تم تجاهل احتجاجاتهم.

لكن فقط عندما أصبح تعدي الجمعة السوداء على عيد الشكر مهزلة وأمرًا سخيفًا ومجرد حشو، بدأ تيار الإعلام الرئيسي في الوقوف والملاحظة. فحقيقة إمكان حدوث ذلك -أي أن تبتلع فعالية تخفيضات إجازة جماعية تضرب بجذورها في الهوية الوطنية- دليل على مدى تآكل واختراق هذه الهوية.

ولا يمكن لأحد أن يتوقع أن يعترض محافظو الـ National Review على اجتثاث الحياة الأمريكية، ولا حتى المحافظون القدامى في American Conservative سيثور في أنفسهم فكرة الإعلان عن احتجاج واضح على تفكيك العملية الرأسمالية للتقاليد. فهم لن يقروا بما سيعترفون به عاجلًا أم آجلًا أن الرأسمالية عملية عدمية تفكيكية وخارجة عن الثقافة، ولذلك تستهلكها.

تعتمد الجمعة السوداء في اكتساب معناها الغامض على حرمة عيد الشكر، ثم تقوم بتدنيسه. ومع فتح الأبواب في الثامنة صباحا هذا العام، تكون العملية قد اكتملت، ووصلت إلى الجانب الآخر من اليوم «المقدس».

بدأ الأمر بحادثة، وانتهى إلى ما نحن فيه، إلى كارثة يدرك جميعنا أنها كذلك، لكن لا نعرف ماذا نفعل حيالها. فقد أصبحنا مشلولين نتيجة تناقضات ثقافة تحارب نفسها.


* بين المعكوفين هو توضيحات من إضافة هيئة تحرير إضاءات، كذلك العناوين الفرعية هي من إضافتنا.