ما نزل بالعمران شرقًا وغربًا في منتصف هذه المائة الثامنة (يعني المائة الثامنة من الهجرة) من الطاعون الجارف الذي تحيَّف الأمم وذهب بأهل الجيل وطوى كثيرًا من محاسن العمران ومحاها وجاء للدول على حين هرمها وبلوغ الغاية من مداها، فقلص من ظلالها وفلَّ من حدها وأوهن من سلطانها وتداعت إلى التلاشي والاضمحلال أموالها وانتقض عمران الأرض بانتقاض البشر فخربت الأمصار والمصانع ودرست السبل والمعالم، وخلت الديار والمنازل وضعفت الدول والقبائل وتبدل الساكن… وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة والله وارث الأرض ومن عليها وإذا تبدلت الأحوال جملة فكأنما تبدل الخلق من أصله وتحول العالم بأسره وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم مُحدَث.

بهذه الكلمات عبر العلامة ابن خلدون في مقدمته عن أثر الطاعون الذي ضرب العالم القديم في القرن الرابع عشر الميلادي والمعروف في الغرب بالطاعون الأسود.

حسب المصادر العربية، بدأ الطاعون من بلاد منغوليا في آسيا وامتد حتى البحر الأسود حيث حملت سفن الإيطاليين الوباء إلى البحر المتوسط. عندها انتشر الوباء في الموانئ المتوسطية؛ في القسطنطينية وجنوة وصقلية وفرنسا، ثم اكتسح ريف الأندلس خاصة مملكة قشتالة المسيحية، ثم واصل الوباء انتشاره حتى ميناء ألمرية وهو ميناء أندلسي على البحر المتوسط تحت سيطرة المسلمين ثم انتقل لبلاد المغرب على الضفة الأخرى من المتوسط. وقد سبب الطاعون خرابًا رهيبًا وتلاه طواعين أخرى على اختلاف تأثيرها، لكن ظل هذا الطاعون الجارف أو الأسود علامة فارقة في تاريخ الطواعين.


أطراف الجدل

ترتب على هذه النازلة عدد من الأسئلة كانت محورًا لجدل كبير بين الأطباء والفقهاء حول أسباب الطاعون والوقاية منه وعلاجه وحكم القدوم على بلد حل به الوباء أو الخروج منه.

في هذا المقال سنستعرض الجدل الذي دار حول تفسير الطاعون، منها ما هو طبي وفقهي وعَقَدي، وأطراف هذه المناقشة هم:

ابن خاتمة (ت 770هـ): فقيه مالكي وشاعر ومؤرخ وطبيب أندلسي بارع، من مدينة ألمرية وكتب رسالة سماها «تحصيل غرض القاصد في تفصيل المرض الوافد». وهو ممن شهدوا الطاعون الجارف أو الأسود

ابن الخطيب (713-776هـ): مؤرخ وأديب وطبيب ووزير أندلسي لُقِّب بذي الوزارتين، وهو معاصر لابن خاتمة وصديق له. ألف في الطاعون الجارف مقالة بعنوان: «مقنعة السائل عن المرض الهائل».

محمد الشّقوري (ت 776هـ): طبيب أندلسي من أسرة طبية، درس الصنعة برفقة ابن الخطيب وهو معاصر لابن خاتمة. ألف رسالة طبية عن الطاعون الجارف بعنوان: «تحقيق النبأ في أمر الوباء» لم يصلنا منها سوى مختصر الرسالة الذي سماه «النصيحة».

ابن حجر (753-852هـ): هو الحافظ ابن حجر العسقلاني المصري الشافعي صاحب فتح الباري؛ الشرح الشهير لصحيح البخاري، وهو من الجيل التالي لابن الخطيب وابن خاتمة ولم يشهد الطاعون الجارف. ألف ابن حجر عن الطاعون كتابًا سماه «بذل الماعون في فضل الطاعون».

محمد الرصَّاع (831-894هـ): هو فقيه مالكي تونسي، تولى قضاء الجماعة وإمامة وخطابة مسجد الزيتونة، وقد ألف عن الطاعون ضمن إجاباته على عدد من الأسئلة أرسلها له الفقيه المالكي محمد الموَّاق؛ عالم غرناطة وإمامها.


طبيعة الطب القديم

تُعدّ السمة الأساسية لإزكاء الجدل حول أسباب الطاعون عدم تقديم الطب القديم براهين حاسمة، في نظر البعض من غير الأطباء، على تعليله لأسباب انتشار الطاعون ومن ثمّ الوقاية منه أو علاجه؛ فالطب القديم يقوم بالأساس على نظرية الأخلاط الأربعة التي تزعم أن الإنسان الصحيح تكون لديه نسب صحيحة من أخلاط أربعة (الدم والبلغم والصفراء والسوداء) واختلال تلك النسب (بسبب الهواء أو الغذاء أو تحلل بعض المواد من المريض فتنتقل لآخر وغير ذلك من الأسباب) تؤدي إلى فساد البدن ومرضه.

إلى جانب تحليل المواد لصفات أساسية كالحديث عن الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة ولكل نوع من المواد صفة أو أكثر من هذه الصفات الأساسية ويكون لها تأثير معين في البدن، وهذه المفاهيم العامة مثلت إطارًا مرجعيًا عامًا وفضفاضًا استطاع أن يسع ما أجراه الأطباء من تجارب وما أتوا به من استنتاجات، إلى جانب مفاهيم فضفاضة أخرى عن طبيعة الجسد ومقاومته للمرض أو استعداده للإصابة به وتأثره بمحيطه.

لهذا تعددت تفسيرات أسباب الطاعون الطبية وطرق علاجه والوقاية منه دون الوصول لتفاصيل دقيقة ومقنعة لبعض من هم خارج الدائرة الطبية، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار كذلك أن الأطباء كانوا يعتمدون على تجارب يمكن لغير الطبيب أن يجريها كملاحظة المريض وتحولات جسده أو شكل الإفرازات التي تخرج منه..إلخ


أسباب الطاعون

1. الأسباب الفلكية

رأى الطبيبان؛ ابن خاتمة وابن الخطيب أن الطاعون الجارف الذي عمَّ الأقاليم كلها قد يكون لسبب فلكي، اعتقادًا بأن حركة النجوم والكواكب تؤثر في الهواء وفي حياتنا وأجسامنا وهو العلم الذي يأخذه الطبيب كمُسلَّمة عن الفلكي حسب قول لسان الدين بن الخطيب، أو كما قال ابن خاتمة إن تغير الهواء حدث من جهة اتصال الأشعة الفلكية والأنوار السماوية والنصب العلوية، وهو أمر لم يتحقق للبشر معرفة تفاصيله والوقوف على حدوده وقوفًا يُعتمد عليه.

وترجيحه لهذا السبب أن يكون السبب الرئيس للطاعون الجارف، لأن هذا الطاعون انتشر في أكثر الأقاليم في جميع فصول السنة بعد السنة من غير أن تخرج هذه الفصول عن جوها وأمطارها ورياحها المعتادة. ثم فصَّل بعد ذلك أن انتشار المرض في بلد دون غيره بشكل خاص داخل الأقاليم المختلفة، يعتمد على موقعه الجغرافي وحظه من الأمطار والرياح وعادات أهله الغذائية، وانتشار المرض داخل البلد الواحدة وإصابة شخص دون شخص له علاقة بأمر العدوى واستعداد الشخص للإصابة بالمرض وهو ما سيُذكر لاحقًا.

أي أن الطبيبين ابن خاتمة وابن الخطيب أوجدا أسبابًا مركبَّة لكل منها استثناؤه الخاص، وتعمل كل منها على مستوى معين؛ فالسبب الفلكي أدى لفساد الهواء، وفساد الهواء وانتشار الطاعون يختلف تأثيره من بلد آخر حسب طبيعة البلد وعادات أهله، ثم داخل البلد الواحدة يُصاب شخص دون آخر تبعًا لطبيعته هو.

2. فساد الهواء

هو رأي أبقراط الطبيب اليوناني الشهير، وقد تبناه العديد في تفسير الطاعون، أي أن فساد الهواء يؤدي إلى المرض بالطاعون وانتشاره بالبلد الفاسد هواؤها، لهذا نصح الأطباء الثلاثة؛ ابن خاتمة وابن الخطيب والشّقوري بتبخير عدد من المواد حسب طبيعة الهواء والمكان والاستكثار من وضع الورود والرياحين.

أما ابن حجر فلم يقتنع أن فساد الهواء سبب للطاعون، واستشهد بكلام ابن القيم الذي أبطل ذلك من أوجه منها: أن الطاعون يقع أحيانًا في أعدل الفصول وأعدل البلاد هواء، وأن الهواء إذا فسد فهو يسبب تغيرًا في الأخلاط وذلك يقتل بلا مرض أو بمرض يسير، إلى جانب أن الطاعون يصيب كثيرًا من الإنسان والحيوان لكن لا يصيب الجميع، فيبقى آخرون في عافية ولو كان السبب فساد الهواء لعمَّهم جميعًا، ثم يخلص ابن حجر إلى أن الطاعون يأتي على كيفية لا يمكن قياسها ولا التنبؤ بها فهو يأتي عامًا ويرتفع أعوامًا.

أي أن نقد ابن حجر لفساد الهواء لم يكن نقدًا شرعيًا، وإنما نقد منطقي لأنه رأى أن كلام الأطباء عن فساد الهواء لا يطرد بتأثيره على الجميع حسبما شهد بنفسه، والأطباء أنفسهم يسلِّمون بذلك في تفسيرهم للطاعون الجارف أن الهواء لم يتغير تغيرًا غير معتاد ليفسد، لكنهم ردّوا فساده لأسباب فلكية غامضة كما ذكرنا، لهذا رأى ابن حجر أن كلامهم عن فساد الهواء يخالف الحقيقة ولا يفسرها، وقد أشرنا في السابق إلى أن الأطباء أوجدوا ثلاثة أسباب تعمل جميعًا على مستوى معين ولكل سبب منهم استثناء، لكن سنرى أن ابن حجر، من وجهة منطقية كشخص شهد الطواعين بنفسه لا كفقيه، نقد فساد الهواء منفردًا، وسينقد العدوى كذلك منفردة، لكن لسبب شرعي ومنطقي هذه المرة.

3. وخز الجان

أورد ابن حجر العديد من الأحاديث حول الطاعون والأوبئة واستعرض تعريفات الأطباء للطاعون، واعتبر أن الوباء غير الطاعون؛ فليس كل مرض يخلف وفيات كثيرة يمكن اعتباره طاعونًا، لأن وباء كهذا انتشر في المدينة أكثر من مرة وخلف قتلى كثيرين فلو اعتُبر طاعونًا لكان ذلك مخالفًا لإخبار النبي، صلى الله عليه وسلم، أن المدينة لا يدخلها الطاعون.

وأضاف سببًا لتفرقة الطاعون عن الوباء لا يعلمه الأطباء؛ أن الطاعون ناتج عن وخز الجن كما جاء في الحديث الذي رواه أبو موسى الأشعري عن النبي، صلى الله عليه وسلم: «فناء أمتي بالطعن والطاعون. قال: فقلنا: يا رسول الله، هذا الطعن قد عرفناه، فما الطاعون؟ قال: طعن أعدائكم من الجن وفي كل شهادة»، وهذا الحديث في رأيه لا يخالف أعراض الطاعون التي وصفها الأطباء وأن تلك الأضرار الحادثة في الجسد هي ناتجة عن طعن الجن هذا. وقد تابعه الرصَّاع في ذلك واستشهد به في تصحيح بعض الأحاديث التي سألها عنه الموَاق منها حديث وخز الجان.

وخلاصة ذلك أن ابن حجر اعتبر وخز الجان، وهو دليل سمعي أخبرنا به النبي، صلى الله عليه وسلم لا يمكن إثباته بالتجربة والحس، هو السبب الحقيقي للطاعون وهو الفارق عنده بين الطاعون وأي وباء آخر، وهذا الطعن هو سبب الأعراض التي يصفها الأطباء، والجمع بين السبب السمعي ومشاهدات الأطباء شبيه بالحديث عن أسباب الموت الطبية مع الإيمان أن الموت يحدث بقبض مَلَك الموت للروح.

4. العدوى

شكَّلت قضية انتقال الطاعون بالعدوى أهم ملامح الجدل القائم حول المرض، حيث تم الاختلاف حول تفسير انتقال الطاعون ومن وجهة نظر الأطباء، وكذلك حول حديثين وردا عن النبي، صلى الله عليه وسلم، وهما حديث: «لا يوردن الممرض على المصح»، وحديث: «لا عدوى، ولا صفر، ولا هامة، فقال أعرابي: يا رسول الله فما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء، فيجيء البعير الأجرب، فيدخل فيها، فيجربها كلها ؟ قال: فمن أعدى الأول».

المعارضون

لم يقبل ابن حجر ابتداء أن تكون الأمراض معدية بنفسها وعدَّ ذلك مخالفًا للعقيدة، وهذا هو رأي الأشاعرة المعروفين تاريخيًا بأهل السنة والجماعة، فهم يعتبرون أن العلاقة بين الأسباب والمسببات هي علاقة اقتران بحكم العادة؛ أي أن النار لا تحرق بنفسها، لكن هناك اقتران بين النار والإحراق بحكم العادة التي أجراها الله في خلقه فهو وحده القائم بأمر المخلوقات على الدوام والاستمرار. وتابع الرصّاع قول ابن حجر في نفي العدوى وحمل حملة شديدة على الأطباء القائلين بأن الأمراض تعدي بنفسها وأنهم في ذلك تابعون للفلاسفة ومخالفون للعقيدة.

لهذا كان للجمع بين حديثي «لا عدوى ولا طيرة» وحديث «لا يوردن ممرض على مصح» تفسيران تقبلهما العقيدة حسبما نقل ابن حجر:

الأول: هو أن الأمراض لا تعدي بنفسها، وإنما بحكم العادة وهو معنى لا يخالف العقيدة عندئذ، أي كما أن الإحراق يقترن عادة مع النار، تقترن العدوى مع المرض عادة، ونقل ابن حجر كلام البيهقي في ذلك من أن حديث «لا عدوى» نفى ما كان يُعتقد في الجاهلية من إضافة الفعل لغير الله تعالى، وقد يجعل الله بمشيئته مخالطة الصحيح من به شيء من هذه العيوب سببًا لحدوث ذلك ولهذا نهى صلى الله عليه وسلم أن يورد ممرض على مصح.

والثاني: أن الأمراض لا تعدي سواء بنفسها أو على سبيل العادة وهو الرأي الذي نقله ابن حجر عن ابن خزيمة ورآه أولى عنده من رأي البيهقي، وأن النهي عن ورود الممرض على المصح والأمر بالفرار من المجذوم إنما لئلا يدخل في قلوب المسلمين شيء من اعتقاد أن المخالطة سبب فيما نزل بهم من بلاء ويقع في نفوسهم اعتقاد العدوى على مذهب أهل الجاهلية.

أي أن تبني ابن حجر لرأي من هذين الرأيين لم يدخل تحت بند الخلاف العَقَدي إذ أن كليهما لا يتعارضان معه، لكنه اختلاف داخلي بين العلماء المتبنين لنفس العقيدة ونفس الرأي في علاقة الأسباب بالمسببات، حول تفسير الحديث.

وثمة رأي قال به القاضي تاج الدين السبكي علَّق به أمر العدوى بشهادة الأطباء، فإذا شهد طبيبان مسلمان عدلان أن مخالطة المريض للصحيح سبب في أذى الصحيح فالامتناع عن مخالطة المرض جائز أو ما هو أبلغ من ذلك. أي أن إثبات العدوى أو نفيها، على عكس الرأيين السابقين، لا ينطلق من تفسير الحديث، بل ينطلق من شهادة الأطباء ورأيهم، ويكون حمل الحديث هنا على المعنى العَقَدي فقط؛ أي أن الحديث ينفي تأثير الأمراض بنفسها، أما تأثيرها على سبيل العادة من عدمه فأمر متروك لشهادة الأطباء.

لكن ابن حجر رد على كلام السبكي بأن الحس يكذب ذلك، فقد شهدوا الطواعين مرارًا ويوجد المريض في بيت ويقوم عليه أهل بيته وخاصته ولا يمرضون بالطاعون على شدة مخالطتهم، ومن يقل بغير ذلك فهو مكابر. تجدر الإشارة إلى أن ابن حجر شهد طاعونين في مصر مات فيهما ثلاث بنات له، وهذا يعود بنا للمقدمة أن بيئة التجارب التي كان يجريها الأطباء لا تختلف كثيرًا عما خبره غير الطبيب بنفسه، ونرى هنا أن ابن حجر أورد سببًا شرعيًا من خلال تفسيره للحديث ونفى العدوى تمامًا وسببًا آخر منطقيًا من وجهة نظره أن العدوى ليست مطردة في جميع الحالات. وهكذا ينفرد ابن حجر للمرة الثانية، بسبب من أسباب الأطباء ويبطله لعدم اطراده مطلقًا، في حين أن الأطباء يوردون ثلاثة أسباب مركبَّة تعمل على مستوى مختلف، ولكل منها استثناؤها الذي لا يعود على تلك الأسباب بالبطلان.

المؤيدون

أما ابن الخطيب وابن خاتمة، فقد قطعا بوجود العدوى. وردا على المشككين بالعدوى وأنها لا تحصل دائمًا للمخالطين للمريض، وذلك بسبب «الاستعداد» وهو مدى ميل الشخص للعدوى بالمرض وهي متفاوتة من شخص لآخر، وهذا يفسر سلامة بعض المخالطين للمرضى مخالطة شديدة ومرض آخرين لم يخالطوا المرضى إلا قليلاً، فالفارق بينهم هو الاستعداد، وأن العدوى أمر ثبت عند الأطباء بالتجربة والحس والمشاهدة والأخبار المتواترة.

فهكذا كان لاستثناء عمل العدوى عند الأطباء فكرة عامة وفضفاضة عن الاستعداد ورأوا أن هذا التفسير مقبول ولا يبطل فكرة العدوى من أساسها، وضرب ابن الخطيب مثلاً بالزاهد ابن أبي مدين، وهو من ساكني مدينة سلا، فقد تزود بالمؤن وبنى على بيته جدارًا عزل فيه أهله عن المدينة وهم خلق كثير حتى سلم من الوباء، وأماكن أخرى سلمت من الوباء لارتفاعها وعدم وقوعها على الطرق ووصول الناس إليها، ونجاة الأسرى المسلمين في مدينة إشبيلية الإسبانية وذلك لانعزالهم عن المدينة التي كاد يستأصلها الطاعون. وروى ابن خاتمة أن قومًا في سوق الخلق بألمرية كانوا يتاجرون في متاع الموتى من الطاعون، فمات أكثر هؤلاء التجار بالطاعون ولم يسلم منهم إلا القليل.

وأما عن حديث العدوى فقال عنه ابن الخطيب، إن الدليل السمعي إذا عارضه الحس والمشاهدة لزم تأويله، وإن طائفة ذهبت للقول بالعدوى واستأنسوا بحديث لا يورد ممرض على مصح وغيره.

ورأى ابن خاتمة العدوى الحاصلة من مخالطة المريض، إنما هي على سبيل العادة التي أجراها الله في خلقه لا أن الأمراض تعدي بنفسها كما يعتقد أهل الضلال. ونرى هنا الفارق بين ابن الخطيب وهو طبيب مسلم ينطلق ابتداء من الحس والمشاهدة وبناء عليها يؤوِّل الحديث لكي لا يتعارض الحديث النبوي مع الواقع، وبين ابن خاتمة وهو طبيب وفقيه انطلق من نظره في الأحاديث ومن مسلَّمته العَقَدية كسُنِّي بأن الأمراض قد تعدي على سبيل العادة لا بنفسها، وهذا ما يتوافق مع خبرته كطبيب. وفي رسالته تفصيل طويل شرعي ولغوي، والربط بين أكثر من حديث للوصول لمعنى متسق ومطرد، وهذا الفارق يبين مدى اعتبار ابن خاتمة لأمر الشريعة في تقرير الحقائق لا مجرد تأويل جزئياتها فورًا إذا عارضت الحس والمشاهدة كما فعل ابن الخطيب.


سؤال الهروب

في المقال القادم سنناقش مسألة ترتَّبت على الخلاف حول أسباب الطاعون، وهي مسألة متعلقة بكيفية الوقاية والنجاة منه؛ فإذا كان الطاعون معديًا عند الأطباء، والعلاج ميئوس منه على غالب قولهم، لا يبقى حل سوى الفرار من الطاعون وهذا مخالف لنهي ورد في حديث النبي، صلى الله عليه وسلم، عن الورود على بلد الطاعون أو الخروج منها، فكيف ينهى الحديث عما يمكن أن ينجي الأصحاء من المرض، وكيف نظر الفقهاء كذلك إلى هذا النهي وكيف فسروه، وما هو الاختلاف الحادث بين الأطباء والفقهاء في تقدير المصالح والمفاسد الحادثة من انتشار الطاعون.

المراجع
  1. ثلاث رسائل أندلسية في الطاعون الجارف – محمد حسن
  2. الأجوبة التونسية على الأسئلة الغرناطية – محمد حسن
  3. بذل المعون في فضل الطاعون – ابن حجر، تحقيق: أحمد عصام عبد القادر الكاتب
  4. مقالات ورسائل أندلسية – فرناندو دي لاجرانخا