هل سبق وأن شاهدت مسلسل مستر روبوت الشهير؟ لربما سيكون الأمر محيراً بالنسبة لك، مجرد التفكير في أن شركة واحدة يمكن أن تتحكم في اقتصاد العالم بالكامل، يمكنها أن تصبح العنصر الأكبر والأكثر تأثيراً في فرضية «مجلس إدارة العالم»، مما يعني أن القوى المالية في العالم خاضعة لتحكم مجموعة من الأشخاص الجالسين داخل مكتب واحد، حتى أن التفكير في احتمالية سقوط تلك القوة العظيمة سيعدو ضرباً من الخيال، لتخرج بعدها العديد من الأسئلة حول حقيقة القوى المسيطرة على العالم، ووهم السيطرة في مواجهة تلك القوى.

وفي اللحظة التي نظن فيها أن شركة E Corp العملاقة المُتخيلة التي تحرك الأمور كلها في مسلسل مستر روبوت مجرد قصة من اختلاق المؤلف، إلا أن ثمة سيناريو حقيقياً مشابهاَ يختلف في بعض التفاصيل قليلاً، وباسم مختلف «بلاك روك» وملاك مختلفين وقصة حقيقية عن شركة تحكم العالم بصورة فعلية.

قصة تأسيس الكيان الأكبر

عام 1988 حيث اجتمع ثمانية شركاء داخل مقرهم الصغير، وقد أجمعوا فيما بينهم على إنشاء كيان تجاري يدرس احتياجات العملاء ويعرف ما يريدونه على وجه التحديد ليقدمها لهم بصورة احترافية.

هكذا تكلمت شركة بلاك روك عن نفسها عبر موقعها الرسمي، شركة قررت أن تضع مصلحة المستهلكين فوق كل اعتبار، انبثقت الشركة لأول مرة من رحم مجموعة Black Stone الاقتصادية، واحتاجت إلى بضع سنوات لتخلق حالة مفزعة من النجاح المالي والاقتصادي، والذي سيتبين فيما بعد أنه تحول إلى كابوس اقتصادي لا الاستيقاظ منه.

لم تحمل الشركة ذلك الاسم في سنواتها الأولى حتى بداية التسعينيات، حيث نجحت الشركة في الوصول إلى تمويل مليار دولار من مجموعة Black Stone الأم، وبحلول عام 1992 استطاعت الشركة عبر العمل في السوق وجمع المساهمين، وصل حجم الأصول المملوكة الشركة إلى 17 مليار دولار، ثم تضاعف بحلول عام 1994 ليسجل 53 مليار دولار.

كان حراك التوسع في زيادة الأصول لدى الشركة بوابة مهمة لبدء التفكير في خلق حالة جديدة وواسعة من الانتشار، ففي عام 1995 حصلت الشركة على حصة في بنك PNC العالمي، وصارت من مالكي البنوك بشكل رسمي، ثم كانت تلك الملكية هي المدخل إلى استخدام شبكة التوزيع الواسعة التي تمتلكها المؤسسة البنكية لزيادة الحصة السوقية بشكل عام، وتوسيع حجم الاستثمار.

ومن هذه النقطة، بدأت الشركة مرحلة متصاعدة ومستمرة من التوسع المتزايد في رأس المال والأصول، ففي عام 1999 طرحت الشركة للملكية العامة حول العالم، ليقفز حجم الأصول إلى 165 مليار دولار، واستمر الأمر على نفس الوتيرة حتى نهاية عام 2004 لتسجل الشركة حجم أصول 342 مليار دولار.

النقطة المهمة في حديث التوسع وزيادة الأصول والملكية، هو حالة الارتباط التي ظهرت بين استقرار الحالة السوقية ووجود الشركة ونموها على مدار سنوات، فنحن نتحدث عن مليارات تتضاعف في سنوات قليلة باعتبارها جزءاً أساسياً من الحركة السوقية، متمثلة في أموال المستثمرين، والذين هم في النهاية جزء من السوق ومن المجتمع الاقتصادي العالمي.

اللافت للنظر أن الشركة تقوم على منطق استثماري مفتوح، فكافة القطاعات السوقية يمكن أن تكون جزءاً من الحركة المالية للشركة، طالما كانت جزءاً من زيادة الأصول والحفاظ على نسبة الربح السنوي الثابت.

واليوم وفي هذه اللحظة، تملك بلاك روك حجم أصول يقدر بـ7.4 تريليون دولار، كأكبر شركة في العالم.

أقوى من كل الكوارث

عام 2008 وحيث يمكننا حساب كافة الخسائر والكوارث المالية التي ضربت العالم وكافة بورصاته وأسواقه المالية، ظهرت بلاك روك بين كل هذا، مقررة شراء بنك باركليز بعد إعلان إفلاسه خلال الأزمة، في صفقة قدرت بـ13.5 مليار دولار، وفي قلب كل تلك الاضطرابات الاقتصادية، لم يشعر العالم بمثل ما شعر في حضرة بلاك روك خلال تلك السنة والسنوات التالية لها.

فالتقارير المنشورة في الولايات المتحدة فترة ما بعد الأزمة تشير إلى حضور محير وغريب لمجموعة بلاك روك في كافة أنشطة التمويل الاقتصادي والنصح الاستثماري فترة الأزمة المالية العملاقة وما بعدها، وكأنها وبكل الأصول المالية التي تمتلكها لم تكن في وقت من الأوقات جزءاً من كارثة تضرب أرجاء العالم كافة، بداية من وول ستريت.

وفي خضم التحركات السريعة التي شهدتها الأسواق المالية والشركات العملاقة في مختلف الدول، كانت بلاك روك في القلب من كل هذا، كما ذكر لورنس فينك، الرئيس التنفيذي للشركة عام 2008، والذي كان على اتصال بكافة المستثمرين حول العالم، مقدماً النصح هنا والاستشارة هناك والحصول على فرصة جديدة للشركة للاستحواذ أو التمويل أو شراء الحصص الجديدة.

ذلك أن بلاك روك تقدم النصح والاستشارات المالية للبنوك المركزية في عدة دول في أوروبا، بحكم أن ثلث ثروتها المالية من امتلاك الأصول تقريباً موجود في أوروبا، كما أنها تتحكم عبر هذه الملكية في العديد من التحركات الاقتصادية لكثير من تلك الدول، في نفس الوقت الذي لا يسمع أحد اسمها تقريباً غير المتخصصين بالتواجد داخل الأوساط المالية والاقتصادية.

وبالاقتراب من التخيل الدرامي للأزمات الاقتصادية حول العالم، قدم مستر روبوت فرضية خرافية عن اختراق بيانات أكبر كيان اقتصادي في الولايات المتحدة، وتشفير كافة بيانات القروض التي يقدمها للعملاء في كافة الولايات الأمريكية، ثم بعدها وبكل هدوء تطرح الشركة العملاقة فكرة جديدة تعلن السيطرة بها على مجريات الحياة الاقتصادية من جديد بعد ذلك السقوط المروع، وهو عملة إلكترونية افتراضية، تمر من خلالها كافة المعاملات الاقتصادية للجميع بدلاً من الدولار الذي اختفى فجأة من السوق، والسند هنا أن العملات الإلكترونية ليست بحاجة إلى وجود مادي أو طباعة نقدية لتغطية حركة السوق والدخول في قصص التضخم، بل هي عملات افتراضية بالأساس، تحمل قيمة تعادل الدولار، وفي الوقت نفسه موثوقة ومضمونة من الهيئات المالية الرسمية.

وقد كانت الرسالة الموجهة عبر ذلك التغير في القصة واضحة.. القوى الكبرى المحركة للعالم، لا تنهار بهذه الطريقة، فلكل أزمة حل جاهز.

كيف تحقق بلاك روك أرباحها السنوية؟

تحقق بلاك روك بحسب ما تكشف التقارير 14.5 مليار دولار سنوياً، كأرباح ثابتة تنقسم بين عدة قطاعات أولها، الاستشارات الاستثمارية والإقراض في سوق البورصة وسوق الصناعات التقنية وعمليات التوزيع التجاري.

تشكل عمليات الإقراض والديون التي تقدمها بلاك روك نحو 80% من الأرباح السنوية المحققة، وإن كنت تعتقد أن الأسواق المالية فقط هي المستهدف من عمليات الاقتراض، فإيرلندا على سبيل المثال، وفي ظل أزمة الديون المالية التي ضربتها، اقترضت من بلاك روك 85 مليار يورو، فيما عرف ببرنامج تريوكا.

أما عن القطاعات الأخرى، فبرنامج الصناعات التقنية يشكل 7% من الأرباح السنوية للشركة، بجانب 7% في مجال الاستشارات المالية، و2% في عمليات تجارية مختلفة، و3.4% أرباح تحقيق إنجازات مالية للشركات واستشارات مالية.

لكنه وعلى الرغم من أن كافة القطاعات الربحية التي تعتمدها الشركة وبشكل معلن ضمن نشاطاتها الاقتصادية، فإن ثمة لغز محير دائماً حول القدرة الغريبة التي تمتلكها الشركة على مضاعفة رأس مالها وحجم الأصول الخاص بها من 5.6 تريليون إلى 6.4 إلى أكثر من 7 تريليونات دولار، في فترة لم تتجاوز 4 سنوات تقريباً.

تضارب المصالح والملكيات المشتركة

هل سبق وأن سمعت عن إمبراطورية Van Guard العملاقة؟

في اللحظة التي تتربع فيها Black Rock على عرش الإمبراطورية العالمية بإجمالي أصول يتجاوز 7 تريليونات دولار، تأتي حليفتها الخفية Van Guard برصيد أصول 5 تريليونات دولار، كمركز ثان في القوة العالمية.. من هم أعضاء مجلس إدارة Van Guard ومحركوها الأساسيون؟ ملاك بلاك روك أنفسهم! مفاجأة أليس كذلك؟

احترفت بلاك روك لعبة الملكية المشتركة على مدار سنوات، بداية من الكيانات العظمى، وصولاً إلى الكيانات الاقتصادية الصغيرة التي تحصل على التمويل لاستكمال الأنشطة التجارية بشكل مستقر، فالمعضلة التي واجهت بلاك روك في هذه القصة هو امتلاكها للكثير والكثير من رأس المال، والذي يخضع هنا بحسب قواعد الكفاءة المالية إلى أهمية «إعادة التشغيل والاستثمار» فالمال الموضوع في الخزائن دون استفادة مستمرة سبب من أسباب الخسارة والغضب من المساهمين.

حاولت أن تحل بلاك روك المعضلة فخلقت معضلة أخرى، حيث شاركت في معظم الشركات الكبرى في فرنسا على سبيل المثال، حتى وإن كانوا متنافسين في نفس القطاع الصناعي، لذا تفاجأ السوق الفرنسي بأن شركات مثل: Bayer, BASF, Du Pont, Monsanto, Linde, Arkema, AirLiquid ولنفترض أن كل اثنين منها في منافسة الأخرى، بأنها كلها تتشارك في نفس المساهمين وبنفس الحصص المالية تقريباً.. من أين جاء المساهمون.. بلاك روك؟

أجرى الباحثان خوسيه أزار ومارتن شمالز من جامعة ميتشجان، دراسة موسعة تتعلق بظاهرة الملكيات المتعارضة والمشتركة والتي تسببت فيها بلاك روك وحليفتها فان جارد، فوجدت الدراسة أن الظاهرة بنفس الصورة تكررت في السوق الألماني، كما أن أكبر خمس شركات طيران في العالم، رفعت أسعار تذاكرها بشكل مهول للغاية.. بالطبع نحن نعرف السبب، بلاك روك تمتلك أسهماً في كافة الشركات الكبيرة.

تجارة الموت مربحة للغاية

تساهم بلاك روك بصورة واضحة في عدد من شركات الأسلحة حول العالم، وتشارك بصورة قوية في العمليات التجارية الخاصة بها، وذلك عن طريق امتلاك نسب ملكية في تلك الشركات، فشركة لوكهيد مارتين (Lockhead Martin)، على سبيل المثال، تستثمر فيها بلاك روك وبحسب بيان الشركة أكثر من 800 مليون دولار، ما يقارب نسبة 6.60% من أسهم الشركة المصنعة للأسلحة.

شركة رايثون (Raytheon) تمتلك فيها بلاك روك نسبة 8.1% من الأسهم، فيما تمتلك الحليفة الكبرى فان جارد في نفس الشركة نسبة 8.1% من الأسهم أيضاً.

شركة NORTHROP GRUMMAN CORP تشكل فيها بلاك روك واحدة من أهم 10 ملاك في رأس المال، حيث تحل بلاك روك في المركز الرابع بما يقارب 3 مليارات دولار، بنسبة أكثر من 4% من أسهم الشركة.

شركة Elbit تمتلك فيها بلاك روك أكثر من 353 ألف سهم، بجانب شركة فان جارد التي تمتلك أكثر من 640 ألف سهم.

وعن شركة General Dynamics Corp فتبلغ نسبة ملكية بلاك روك في الشركة أكثر من ملياري دولار، بما يعادل أكثر من 4% من نسبة الأسهم، فيما تصل ملكية فان جارد لأكثر من 3.5 مليار دولار، بنسبة تقارب 7% من ملكية الأسهم.

لذا فمشاركة بلاك روك حركة الدمار المستعرة دولياً والتي تساهم فيها لوبيات تجارة الأسلحة فرضت نفسها وبقوة على الواقع العالمي، وقد خرجت حملات مناهضة لمشاركات بلاك روك وحلفائها الواسعة في عالم تجارة الأسلحة.

فرضية مستر روبوت: وهم السيطرة!

يطرح مسلسل «مستر روبوت» فرضية مهمة بشأن الشركات العملاقة التي تتحكم في حركة العالم وفي حياة الناس بشكل كامل، وعبرت عنها في القصة باسم E Corp والتي ما إن سقطت حتى تفتت شمل الناس وتزايدت الكوارث على العامة، لكن اختراقها وسقوطها كان فيما بعد ذلك سبباً في سعادة الناس الذين تخلصوا من ديونهم الائتمانية التي لا تنتهي.

تتشكل الديون عبر قصة المنافسات الوهمية التي تخرج بين الشركات العملاقة، والتي يكون أحد أسبابها المذكورة سلفاً الملكية المشتركة لعمالقة المال، رغبة في رفع كفاءة رأس المال المستثمر، وزيادة لأرباح المستثمرين، وخلق العروض المستمرة من المؤسسات البنكية وبطاقات الائتمان التي تفتح بوابة لا تنتهي من الديون العقارية والبنكية التي تغرق المجتمعات في قلب حفرة لا يمكن الفكاك منها.

لكن الفرضية التي مثلت الجزء الأهم في قصة مستر روبوت هي «وهم السيطرة»؛ تلك الخدعة التي يظنها الكثير حول العالم فيما يتعلق بالخروج من مقصلة الحياة الرأسمالية المفروضة قسراً على الجميع، وكيف يمكن أن يرتبط ذلك كله بكافة التحركات السياسية والاجتماعية في العالم، وأكذوبة تغييرها أو الاقتناع بأن القوى العظمى التي تحركها والتي يمكن أن نطلق عليها «مجلس إدارة العالم» قد تستسلم للتغيير بسهولة، أو قد تقبل بقبول واقع لا يتاسب مع مصالحها الاقتصادية العليا.

لذا فمن الممكن ببساطة التفكير في حقيقة أن العالم له حكام يستطيعون تقليبه كما يشاؤون.