في ورقته البحثية «غياب وحضور لعام 711م في أندلوثيا المعاصرة» اعتبر خوسيه أنطونيو أن عام 711م (الذي تزامن مع دخول المسلمين شبه الجزيرة الإيبرية لأول مرة) مثَّل نقطة فاصلة في تاريخ إسبانيا لا تزال تثير جدلًا حتى اليوم بين المهتمين بالتاريخ الإسباني، بعضهم اعتبر أن شبه الجزيرة الإيبرية غادرت المحيط الهوياتي الأوروبي ولم تعُد أبدًا.

على هذه الحلبة تصارع المفكران غانيبيت الداعم للعرب وأونامونو المتحيِّز للثقافة الكاثوليكية، فقال له غانيبيت يومًا: «أنتَ تكره العرب، وأنا أشعر نحوهم بودٍّ لا يُقاوَم».

في أوائل القرن الـ 19 نُظر إلى غانيبيت كأحد أكبر المدافعين عن خصوصية إسبانيا بعدما صبغ العرب هويتها الغربية بلمسة شرقية لا يُوجد لها نظير في أوروبا.

مثَّل غانيبيت تيارًا فكريًّا كبيرًا في غرناطة متعاطفًا مع الإسلام ولا يُنكر أبدًا دور العرب في صناعة ثقافتهم بل يرحبون بهم؛ اجتمع عددٌ من الأدباء والشعراء الغرناطيين وبعثوا برقية إلى نظرائهم في المغرب دعوهم فيها إلى زيارة «بيتهم غرناطة»، كما أعرب عددٌ كبير من الشعراء عن إعجابهم بالحضارة الإسلامية.

أحد أكبر المتأثرين بأفكار غانيبيت هو بلاس إنفانتي الذي يُعدُّ المُنظِّر الأكبر للهوية الأندلسية، وبلغ تأثره بغانيبيت حد أن أغلب أفكار كتابه الشهير «الهوية الأندلسية» مستقاة من أفكار كتاب «الهوية الإسبانية» الذي وضعه غانيبيت.

معًا ضد نابليون

المفكر الإسلامي علي الكتاني ذي الأصول الأندلسية أكد في كتابه «انبعاث الإسلام في الأندلس» أن ذاتية الهوية الأندلسية ظهرت بوضوح في 1808م حين اجتاح القائد الفرنسي نابليون إسبانيا بقواته، وفي ظل انهيار الدولة الإسبانية التام أمامه دبَّر الأندلسيون عمليات مقاومة ضده، كما شكَّلوا في إشبيلية حكومة سرية لمقاطعات الجنوب حملت اسم «المجلس الأعلى المركزي».

تمكَّنت مدينة قادس (كاديز حاليًّا) من انتزاع حريتها، ومن داخلها بدأ المقاومون التخطيط لعالم ما بعد رحيل الاستعمار الفرنسي، ووضعوا دستورًا تحرريًّا يجعل من إسبانيا مملكة دستورية، ودعا لاستيعاب الإسبان من جميع الطوائف والأعراق، ومنهم الأندلسيون. عُرف هذا الدستور لاحقًا في الأدبيات الإسبانية بلقب «دستور قادس».

بعد رحيل الفرنسيين رفض الملك فرناندو السابع تطبيق شيءٍ من «دستور قادس»، وتعددت محاولات الإسبان للثورة عليه لإجباره على تطبيق مواده في إشبيلية والجزيرة الخضراء وقادس، لكنها قُوبلت بالقمع الشديد حتى إن الناشطة السياسية ماريانا دي بينيدا أُعدمت لمجرد رفعها العلم الأخضر الذي أصبح شعارًا للأندلسيين.

وفي 1835 عادت المدن الأندلسية للثورة مُجددًا بعدما تمردت جميع مقاطعاتها وعيَّنت مجلسًا أعلى للثورة، وبرغم عدم نجاح هذه الحركة فإن إنفانتي اعتبر أن أحداث هذه السنة لعبت دورًا مهمًّا في تكوين القومية الأندلسية، إذ يقول: «لقد أعطت الأندلس سنة 1835م برهانًا واضحًا عن وجود شعور وحدة مصيرية في منطقتها تنبض من رغبتها في المساهمة في سيادة الدولة المركزية».

بعدها تعددت الثورات الأندلسية في أعوام 1857 و1868 و1869 و1873 التي كرَّر فيها سكان جنوب إسبانيا مطالبهم الاستقلالية دون انقطاع.

من هو بلاس إنفانتي؟

وُلد بلاس في بلدة قشريش داخل مقاطعة مالقة في 5 يوليو 1885م، تنحدر والدته من عائلة عُرفت بتاريخها الطويل في المشاركة بالثورات الأندلسية على حكام إسبانيا. درس القضاء والحقوق في قسم الحقوق من كلية الفلسفة بجامعة غرناطة وتخرج فيها عام 1906م.

خلال هذه الفترة عاشت الأندلس أجواءً ساخنة على وقع الثورات المتتالية ضد تردي الأوضاع الاقتصادية وانتشار البطالة بسبب إهمال الحكومة.

وصدر أيضًا كتابا «مأساة الأندلس» لآثورين و«هذه الشمس الأم الطاغية» لخوزي أندرس باسكس، وكلاهما ناشطان أندلسيان عبَّرا بدقة عن سوء أحوال الأقاليم الجنوبية وتجاهل السياسيين مجرد التفكير في تحسين أوضاعهم.

عبَّر خوزي بوضوح عن رفضه للديمقراطية في شكلها الغربي قائلًا: «هذه الديمقراطية ديمقراطية الممالك النصرانية الغازية (يقصد الشمال)، فهل ينتهي غزو الأندلس»، وشدَّد خوزي على خصوصية وضع مقاطعات الأندلس الجنوبية باعتبارها وارثة للمملكة الإسلامية الزائلة.

تأثرًا بهذه الأجواء بدأ بلاس في أنشطته الداعية لبث الروح في الأمة الأندلسية عبر إلقاء الخطب وكتابة المقالات، وفي بعض مراحلها لاقت القضية الأندلسية دعمًا من فرانسسكو كامو زعيم الحركة الكتالونية في برشلونة باعتبار أن كليهما يمتلكان أجندة تحررية.

أسس إنفانتي عدة مراكز توعوية بالقضية الأندلسية، بدأت من إشبيلية ثم امتدت إلى باقي القطاعات الجنوبية، كما أطلق مجلة شهرية للترويج لأفكاره.

وفي 1920م، وضع مسرحية «المعتمد ملك إشبيلية الأخير»، حيث سعى فيها لتعريف بني قومه بجذورهم الهوياتية الإسلامية وتاريخهم مع الحضارة الشرقية، وفي كتاباته تمسَّك بمعاداته الضارية للكنيسة الكاثوليكية، فقال ذات مرة: «رائحة القدَّاس تحطِّم شذا عطر الحقيقة». 

البحث عن هوية أندلسية

سعى بلاس في كتاباته للتركيز على خصوصية الهوية الأندلسية عن باقي أوروبا، لذا فإنه يعتبر لحظة فتح الأندلس «فيضان دماء سامية» على إسبانيا مكَّنت سكَّان تلك المناطق من الاندماج بالعرب والبرابرة، لذا اعتبر أن إحدى أساسيات الهوية الأندلسية هي التعايش والتسامح، وهو ما لم تكن أوروبا تتمتَّع به سابقًا.

هذه الرؤية المبتكرة -آنذاك- دعَّمها لاحقًا مفكرون على غرار حبيب استيفانو ورودولفو خيل بن أمية، الذي كان يرتدي الملابس العربية منذ أن كان طالبًا جامعيًّا حتى إن أصدقاءه مازحوه فأطلقوا عليه اسم «الخليفة الصغير».

وبحسب رودولفو بن أمية فإن الجنوب الإسباني كان أكثر استعدادًا لتشرُّب الثقافة العربية، وعلى أراضيه دُمجت اللغة العربية باللغة الإسبانية العامة، وحتى قبل وصول جيوش طارق بن زياد فإن الجنوب استوعب عائلات سورية وفدت إليه.

وأيضًا هناك الشاعر خوسيه ماريا مارتينث (1880- 1949) الذي اعتاد أن يرتدي الملابس العربية وسمَّى نفسه بـ «ابن حزم الخاراكسي».

وهنا يجب التأكيد على أن ذلك النقاش الهوياتي مرتبط بالأساس بفترة حُكم الجنرال فرانكو الذي حكم إسبانيا بالحديد والنار منذ 1939 وحتى 1975 عانت فيها البلاد من حرب أهلية قاسية.

في ظل هذه الحرب ظهرت أطروحات المفكر إغناسيو أولاغي المقرَّب من فرانكو، والذي نفى فرضية احتلال المسلمين للأندلس عسكريًّا من الأساس، وإنما تسرَّبوا إليها تدريجيًّا وسط عملية قبول واسعة لديانة العرب من سكان الجنوب، وفقًا لأولاغي فإن الأوروبيين لم يستوعبوا صدمة تحوُّل رقعة كبيرة من أرضهم إلى مملكة إسلامية فـ «ألَّفوا» أسطورة الاحتلال العسكري.

وهنا أيضًا يجب التنويه إلى أن فرانكو استعان في حربه بفيلق «عاش الموت» الذي تشكَّل من جنود مغاربة استعملهم الديكتاتور الإسباني في سحق خصومه، لاحقًا شبَّهت المفكرة دولوريس إيباروري لحظة نزول جنود مغاربة في إسبانيا عام 1936 بقدوم طارق بن زياد إليها في 711م.

ضد الديكتاتورية العسكرية

في 1923، بسطت الديكتاتورية العسكرية قبضتها على الأندلس وأقفلت المراكز الأندلسية بدعوى «مقاومة الدولة»، في المقابل خاضت إسبانيا معارك عنيفة ضد المغاربة في المناطق الجبلية عُرفت بـ «معارك الريف».

في سبتمبر من العام نفسه قام بزيارة إلى قبر المعتمد بن عباد في المغرب رغم الأجواء الساخنة، وظل إنفانتي صوتًا معارضًا لحكم الديكتاتورية لا يتوقف عن المطالبة بحقوق بني قومه. عكف على كتابة مؤلَّفه «أساسيات الأندلس» الذي استغرق منه 6 سنوات، وانتهى منه قبل وفاته بقليل.

وفي أغسطس 1936 هجمت فرقة عسكرية تابعة للجنرال فرانكو واقتادته من منزله ثم قتلوه بالإعدام رميًا بالرصاص محاولين إسكات صوته الذي لم يتوقف عن التأكيد على حرية الأندلس، ليلقى نفس مصير الشاعر الغرناطي بدريكو لورقا الذي أيَّد القضية الأندلسية في أشعاره فقُتل على قارعة الطريق.

عقب إعدامه أمرت السلطات بمصادرة بيته فحوَّلت بلاس إلى شهيد القضية الأندلسية الدائم، هذه القضية التي تنفست الصعداء عقب رحيل فرانكو في أكتوبر 1975، وعقب تولِّي أدولفو سوارز حكومة العهد الجديد تبنَّى برنامجًا شاملًا للإصلاح السياسي نصَّ على حرية الانتخابات وإطلاق سراح المساجين السياسيين.

في 1978 دارت نقاشات دستورية عميقة انتهت بإقرار نظام سياسي جديد في إسبانيا تكون بموجبه ملكية دستورية اتحادية، وهكذا حصل إقليم الباسك على الحُكم الذاتي، وهي الخطوة التي طالب الأندلسيون بأن ينالوا مثلها بعدما استدعوا تراث إنفانتي وكتاباته وبدأوا في إحياء ذكرى اغتياله.

وعقب استفتاء في فبراير 1980 أعلنت الأغلبية الكاسحة من المقاطعات الأندلسية رغبتها في الحُكم الذاتي، وعلى الفور أقروا لأنفسهم علمًا باللونين الأخضر (لون الدولة الأموية) والأبيض (لون الدولة الموحدية).

حتى الآن لا يزال يُنظر إلى إرث إنفانتي بكثير من التبجيل في المقاطعات الجنوبية باعتباره «أبا الأندلس»، وأقيم تمثال ومتحف لتخليد ذكراه في مسقط رأسه، كما أقيم نُصب تذكاري في المنطقة التي جرى فيها إعدامه.

ويحرص البرلمان الأندلسي على إحياء ذكراه كل عام في احتفالية يحضرها مسئولو الإقليم، وكذلك مندوب عن مؤسسة «بلاس» الاجتماعية.