أمام هول الحدث/المأساة التي نشهد ذكراها الرابعة قد يفوت البعض طرح أسئلة أكثر بداهة وأولى بالمقام أن تطرح فيه. كيف يمكن لنظام ما مهما علت سطوته وعظمت قوته أن يفض اعتصاماً في قلب عاصمته بالقوة المسلحة مودياً بكل هذه الأرواح دافعاً البلاد إلى حافة الهاوية على مرأى ومسمع من المجتمع كله المحلي والإقليمي والدولي ثم ينجو بأقل الخسائر مكملاً خارطة طريقه التي ستجعل من البلاد أم الدنيا؟التساؤل هنا ليس عن القوة المادية والمؤسساتية وربما الشرعية التي مكنت النظام من الفعل نفسه بل في قوة أخرى فوق مادية، «سيرورة خطابية» مكنت فعلاً كهذا بدا في أول الأمر وكأنه محض خيال وتهديد من لا يملك تنفيذ تهديده، من أن يحدث على أرض الواقع فعلاً.


من سلّ «سكاكين المذبح»؟

تشير التقديرات إلى مقتل ما بين 800 و1200 قتيل من المعتصمين، بينما تشير أرقام حكومية إلى مقتل 50 شخصاً من الطرف المقابل. رغم ذلك ربما تأفف كثير من المصريين حينها من حظر التجوال الذي فرض في ذلك اليوم أكثر من انزعاجهم من عدد القتلى ولو بلغوا عشرة أضعاف هذا الرقم.

ربما تأفف كثير من المصريين حينها من حظر التجوال الذي فرض في ذلك اليوم أكثر من انزعاجهم من عدد القتلى ولو بلغوا عشرة أضعاف هذا الرقم.

لا نتساءل هنا عن إن كان هؤلاء الضحايا مستحقين للتعاطف، لا نتخذ موقفاً أخلاقياً علوياً نحاول فرضه، بل نطرح تساؤلاً أبسط من ذلك قليلاً أو كثيراً: لم لم يحصل هؤلاء الضحايا على تعاطف يبدو متوقعاً في مثل هذه الأحداث؟شكل مقتل عدد مماثل من الضحايا إبان ثورة الخامس والعشرين من يناير خلال 18 يوماً وفي جميع محافظات مصر ضغطاً سياسياً واجتماعياً أدى إلى سقوط نظام القاهرة العتيد، وكاد يودي بالمجلس العسكري حين فض اعتصاماً صغيراً لأهالي هؤلاء الضحايا فيما عرف بأحداث محمد محمود لاحقاً. لم يحصل هؤلاء الضحايا على التعاطف من جميع أطياف المجتمع المحلي والدولي فقط بل مثلوا ورقة ضغط سياسية ومنصة للمزايدة من أطراف مختلفة لم تفقد قدرتها إلا بخسارة الثورة نفسها معركتها مع الثورة المضادة أخيراً بعد ثلاث سنوات ونيف من الصراع. لا تسعفنا في الإجابة على هذا السؤال الحقيقة التي تقضي بتحيزنا العاطفي لمن نعرف على حساب من لا نعرف. ففي المقارنة المبدئية بين ضحايا الثورة وضحايا رابعة العدوية من منظور محايد أو غير المسيس لا نجد مبرراً لهذه التفرقة. كلاهما مصري مدني قتل على أيدي أجهزة الدولة في الشارع أثناء قيامه بالاحتجاج والمطالبة بمطالب سياسية أو اجتماعية معينة. إجابة أخرى قد تطرحها الإحصاءات الاجتماعية والنفسية هي القائلة بأن عدد القتلى وتكرار القتل يقلل من التعاطف وفقاً لقوانين العرض والطلب والندرة النسبية. مهما بدت وجاهة هذه الرؤية التي قد تعتمد على أدلة واقعية منها تكرار القتل الذي استمر في الشوارع لثلاث سنوات بعد الثورة وإن بنسب وأعداد قليلة وكذلك التمهيد لهذه المجزرة بمجزرتي الحرس الجمهوري والمنصة. إلا أنها تغفل جانباً مهماً من الفعل الاجتماعي الإنساني الذي لا يمكن اختزاله إلى أرقام وإحصاءات وهو الجانب الخطابي. أي أن القتل وسفك الدم لا يمكن التمهيد له بمجرد الاعتياد أو الوفرة بل يتطلب مجموعة مترابطة من الخطابات الإعلامية والثقافية والدينية والاجتماعية لتبريره وتمريره. هذه الخطابات التي غابت إبان الثورة وحضرت قبل وبعد الإطاحة بالرئيس محمد مرسي.


«قدسية» المؤسسات الرسمية

لا تتدخل المؤسسات السيادية في صراع الرئيس/السلطة مع خصومه السياسيين، وهي بذلك تؤسس لنفسها موقعاً فوق السياسة، وما فوق السياسة سوى الوطن ومصلحته العليا. حين تقرر هذه المؤسسات أخيراً الانحياز مع طرف ضد آخر يعني هذا أن الوطن كله بمصالحه العليا قد انحاز خصوصاً وإن حظت هذه المؤسسات بدعم شعبي في الشارع. من يقف ضد هذا الوطن ومصالحه إذن ليس سوى «عدو» له من خارجه.هذا «العدو» أراد بيع مقدرات البلد وقناته البحرية وآثاره وحلايبه وشلاتينه ثم لم يكتف بذلك بل أراد إحكام سيطرته على كل مؤسسات الدولة عبر عملية أخونة طالت كل مكتب حكومي ومصلحة اقتصادية. أي أن هذا العدو ليس عدواً خاملاً بل هو نشط وتهديده حقيقي ولم يعد بينه وبين الانتصار ضد الوطن سوى أيام معدودة.في مواجهة هذا العدو لا تصبح مؤسسات الجيش والشرطة مرادفات للوطن فقط بل تكتسب قدسية رمزية وعصمة تمنح لها عبر تفويض مباشر من الشعب. هذه القدسية والعصمة يمكنان هذه المؤسسات التي يتم اختزالها مرة أخرى في شخص الزعيم من القضاء على هذا العدو والتهديد بكل الوسائل المتاحة.


«نزع الأنسنة» كغطاء للقتل، وصف «الخرفان» نموذجًا

لا تبدو هذه الخطوات كافية لتبرير المجزرة أو القتل على نطاق واسع، فمهما كان الأمر تبقى للدم حرمته التي لا يمكن انتهاكها طالما ظلت هناك وسيلة لتجنب ذلك. كيف حدثت المجزرة إذن؟ يجيبنا أستاذ الفلسفة البريطاني ديفيد ليفينجستون سميث على هذا التساؤل في كتابه المهم «أقل من البشر: كيف نهين ونستعبد ونقضي على الآخرين».

يرى «سميث» في كتابه هذا وبعد استقصاء تاريخي وأنثروبولوجي وفلسفي، ألا وجود لمجزرة في تاريخ البشرية إلا فيما ندر حدثت دون ما يسميه «نزع الأنسنة »عن ضحاياها. أي اعتبار هؤلاء الضحايا كائنات دون البشر. ربما «خرفان» في المجزرة التي بين أيدينا. يرى الفيلسوف أن وصم الضحايا بالنعوت الحيوانية واللاإنسانية ليست مجرد تراشق لفظي كلامي بل هو طريقة في التفكير تمهد الطريق لاستعباد واستغلال وقتل هؤلاء الضحايا.نزع الأنسنة بحسب سميث هو نتيجة لخصيصتين عميقتين في النفس البشرية. الأولى، وهي الجوهرانية تعني أن لدينا ميلاً للاعتقاد بوجود جوهر ما للأشياء تحدد ماهيتها بغض النظر عن خصائصها ومظهرها الخارجي، أي أن ما يحدد ماهية الإنسان ليس كونه يحمل مظهراً إنسانياً بل جوهر ما يحدد إنسانيته. إذن قد يكون الشخص ذا مظهر بشري لكنه في جوهره مجرد «خروف». الخصيصة الثانية، في النفس البشرية التي تمهد الطريق لنزع الأنسنة عن مجموعة ما من البشر هي الاعتقاد بأن للماهيات المختلفة تراتيبية قيمية مختلفة، في هذه التراتيبية يحتل الإنسان درجة السلم الأعلى بعد الإله بينما تحتل الماهيات الأخرى درجات أقل مما يعني أنها أقل قيمة من البشر، وأن التبعات الأخلاقية لإهدار هذه الماهيات أو قتلها أقل وطأة على الضمير من قتل النفس الإنسانية. الجموع التي تقف في الشارع في مواجهة السلاح ليست عدوة للوطن فقط بل هي خراف لا يورث قتلها أي حكة في الضمير ولا اضطراب في المشاعر بل هم «رائحتهم منتنة طوبى لمن قتلهم وقتلوه» على حد وصف مفتي الجمهورية السابق علي جمعة.


أخطاء الإسلاميين: الفرد كـ«قربان» للجماعة

وصم الضحايا بالنعوت الحيوانية واللاإنسانية ليست مجرد تراشق لفظي كلامي بل هو طريقة في التفكير تمهد الطريق لاستعباد واستغلال وقتل هؤلاء الضحايا

على أن المفارقة الحقيقة في قصة هذه المذبحة أن هذا الخطاب الذي تبنته مؤسسات الدولة لم يكن الوحيد الذي سهل مرورها بل حتى الخطاب الذي ساد بين القوى المؤيدة للرئيس محمد مرسي أسهم في بخس دمائهم. آفة هذه الخطابات أنها لم تعِ قيمة الفرد في العمل المدني والحقوقي وحتى الإعلامي وفضلت عليه قيمة الجماعة/الحزب وحين اقتضى الأمر كانت على أتم استعداد على المستوى الخطابي للتضحية به في سبيل الأهداف الجماعية العليا.بمعنى آخر فإن هذه الخطابات لم تسع لنفي فعل القتل عن المجال المدني السياسي على مستوى الخطاب بل راهنوا أن فعل القتل في ذاته بالذات إن شمل أعداداً كبيرة لديه القدرة على توسيع القاعدة السياسية والاحتجاجية التي سيكون بإمكانها الإطاحة بالنظام، كما حدث في ثورة الخامس والعشرين من يناير. وهذا هو الغرض الفعلي الذي تنطوي عليه عبارة مرشد الإخوان المسلمين الشهيرة «سلميتنا أقوى من الرصاص».

الحضور اللافت لمصطلحات «الدم/الشهادة/التضحية/الابتلاء/ …» في الخطاب الإسلامي/ الإخواني قبل المذبحة، في مقابل غياب قاموس السياسة الواقعية، وفي سياق كان يُفترض به أن يكون سياسيا، قد جعل تلك التضحيات في نفوس المعتصمين وكأنها يمكن أن تكون هدفا لذاتها، وليست أثمانا تخضع لحسابات المكسب والخسارة في عالم السياسة، كما أسهم في خلق صورة ذهنية عن اعتصام يفترض به أن يكون «سلميا» وكأنه ميدان للدم والجهاد، لا للضغط من أجل السياسة والإصلاح.

الرهان على دماء الشهداء الذي أسقط نظام مبارك لم يعد يجدي هذه المرة، فمن خرجوا ضد مبارك كانوا شباباً أطهاراً، بينما من يحتشدون اليوم في ميدان رابعة العدوية ليسوا سوى «خرفان» .لقد وعى النظام الدرس وأصبح قادراً على دفع تكلفة الدم كاملة وإن أغرق شوارع القاهرة.